فرضية حديثة تقوض نظرية ” الصراع من أجل البقاء “

يولد الإنسان وهو يحمل ما يحمله من الصفات المتوارثة من عائلته عن طريق الجينات الوراثية في حين تتكفل البيئة الخارجية بباقي العمل، حيث تسهم مع الوراثة في تكوين شخصية الفرد النهائية بصورة غير ثابتة، إذ تتغير سمات الشخصية بحسب الظروف الزمانية والمكانية وأحيانا تتفوق عوامل البيئة على الجينات الوراثية في رسم حدود الشخصية والعكس صحيح.

لكن لا تخضع جميع الصفات الشخصية لهذا المقياس العلمي، حيث يتم اكتساب بعضها من خلال تأثر الفرد ببيئته ومحيطه الاجتماعي حصريا ولا شأن للوراثة – مثلا- بنمو أو تراجع بعضها وخاصة الاجتماعية منها.

وتتحرك معظم السمات الاجتماعية في محيط الذوق ودماثة الأخلاق والجيرة الطيبة وحسن التصرف تجاه الآخرين وتبني الأعمال التطوعية وتقديم خدمات لكبار السن والأطفال والمرضى دون مقابل وغيرها من الصفات التي غادرت ملامح الشارع حتى بدا خاليا إلا من وجوه متجهمة وخطوات مستعجلة لمارة يسعدهم أن يدوسوا على أقدام العجائز ليلحقوا بمواعيد العمل، كما لا يخجلهم رؤية سيدة حامل تتأرجح في باص نقل عام بسبب إصرارهم على الاحتفاظ بمقاعدهم المريحة.

ومع ذلك، فإن الأبحاث الأثرية كشفت عن وجود بعض من هذه السمات الطيبة التي تكونت في نفوس البشر منذ فجر التاريخ وحتى قبل أن يتاح للإنسان تطوير ذكائه وقيمه المعرفية. وبحسب الآثار التي تم حفرها على اللقى والتي يمتد تاريخها إلى 3 ملايين خلت من السنين، فإن الناس عبروا عن مظاهر مختلفة من مشاعر الاهتمام بالآخرين وبالأطفال والمعاقين كمهارات بدائية أعانتهم على البقاء في خضم صراعاتهم مع قسوة البيئة.

وكشفت الأدلة عن اهتمام بشر ما قبل التاريخ ببعضهم البعض حتى قبل أن يتمكنوا من فك طلاسم الكلام وهذه المهارات (العاطفية) هي التي أسهمت في تطوير قدراتهم المعرفية وأعانتهم على البقاء رغم الظروف البيئية غير المواتية ، وفقاً لما ذكرت صحيفة العرب.

وكشفت دراسات في علم الإنسان عن جمجمة بشرية بعمر 1.5 مليون سنة لم تكن تمتلك أسنانا إلا أن بقاء صاحبها على قيد الحياة حتى تاريخ وفاته في سن متقدمة، بحسب التشريح الطبي للجمجمة، يثبت بأن هنالك من قام بمساعدته من بني جنسه للحصول على قوته من خلال توفير طعام مناسب مثلما هو الحال مع السوائل التي تستخدم لإطعام الرضع، كما أن بعض الأدلة التي تركتها رسومات يعود تاريخها إلى 3 ملايين سنة وجدت في شرق أفريقيا أظهرت مشاهد لأطفال برعاية وصحبة كبار عكست بعضا من مظاهر الود والحنو بين الطرفين.

وقوضت هذه الاكتشافات التي أشارت إليها دراسة لبيني سبايكنس المتخصصة والباحثة في الأصول البشرية في جامعة يورك البريطانية، النظريات الحديثة التي صنفت البشر البدائيين على أنهم كائنات عنيفة كانوا يقتلون بعضهم البعض في منافسات غير شريفة من أجل البقاء ، وأشارت سبايكنس إلى أن الإنسان البدائي اكسبته حاجته للبقاء إلى النزعة الاجتماعية وإلى الحرص على العيش ضمن مجموعات كان يربطها التعاون والتكافل في مواجهة الأخطار المحيطة، حدث ذلك حتى قبل أن يتاح له تعلم الكلام.

ومن وجهة نظرها تعود كل مظاهر التطور التي شهدتها البشرية من تقويم السلوك واكتساب المعارف إلى تلك العلاقات الاجتماعية المترابطة بصيغتها البدائية، حيث نوهت إلى أن الصخرة التي وجدت في أحد كهوف أفريقيا والتي يعود تاريخها إلى ملايين السنين وما تضمنته من معالم طفولية حفرت عليها بإحكام تعد دليلا واضحا على أن الإنسان البدائي لم يعتمد مظاهر الود للآخرين في سلوكه فحسب بل سعى إلى تخليد هذه المشاعر وحفرها على صخور قاومت عوامل التعرية حتى وصلت إلى يومنا هذا.

من جانب آخر أظهر استطلاع بريطاني حديث للرأي، أن 16 بالمئة من الأفراد المشاركين فيه لا يعرفون وجوه وأسماء جيرانهم وأن قرابة ربع هؤلاء (23 بالمئة) لم يظهروا أي نوع من التعاطف أو الكياسة مع المارة في الشارع ، في حين اعترف نصف المشاركين في الاستطلاع الذي نظمه ” الخط المنزلي الساخن ” بأنهم قلما يسمحون لأحد باستبدال دورهم في طوابير الوقوف للشراء.

وكان أكثر من ربع أفراد العينة أبدوا عدم ثقتهم في جيرانهم وعدم استعدادهم لترك متعلقات منازلهم تحت إشرافهم أثناء غيابهم عن المنزل في إجازات طويلة. كما عبر عدد غير قليل من أفراد العينة (22 بالمئة) عن عدم استعدادهم لترك مقاعدهم في المواصلات العامة لكبار السن أو الأطفال أو السيدات الحوامل في حالات الزحام الشديد، وأكد نصف المشاركين عن غياب احساسهم بالانتماء إلى مجتمعهم واعترف 35 بالمئة منهم بعدم رغبتهم في الإسهام بأي جهد أو عمل تطوعي خدمة لأبناء مجتمعهم المحلي ، أما النسبة الأكبر منهم (97 بالمئة) فأكدوا على أنهم قد خسروا علاقة صداقة مع فرد واحد من الأقل من مجتمعهم المحلي في الآونة الأخيرة.

 [ads3]

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي عكس السير وإنما عن رأي أصحابها