طهران ” تهادن ” لكنها مستمرة بـ ” أم القرى ” الإيرانية

مع أن إحدى صحف حزب الله اللبناني بأقلام بعض كتابها، المعروفين بولائهم لهذا الحزب ولصاحبه حسن نصر الله، قد سمحت لهم في مقالاتهم الأخيرة بتناول طهران بالمزيد من الاتهامات، وليس بمجرد العتب والانتقادات، وبالتواطؤ مع تركيا ومع رجب طيب إردوغان، والتخلي عن مساندة سوريا وجيشها وأنصارها في معارك إدلب وجسر الشغور ومعسكر القرميد الأخيرة، مما حقق لفصائل المعارضة السورية، المنضوية في إطار ائتلاف عريض، انتصارًا استراتيجيًا أصاب نظام بشار الأسد بالهلع ودفعه إلى إرسال وزير دفاعه إلى إيران على جناح السرعة لطلب «النجدة» التي لم يصل منها أي شيء فعلي وحقيقي حتى الآن.. مع ذلك، ومع أن هؤلاء الكتّاب في هذه الصحيفة المشار إليها قد تحدثوا بكل وضوح، وبلا مواربة، عن رغبة إيرانية وصفوها بأنها «واضحة» في الابتعاد عن تحدي الرغبة التركية في «إنجاز انتصارات عسكرية لصالح الثوار في شمال سوريا»، فإنه من المبكر جدًا الجزم بأن إيران قد بدأت رحلة الانسحاب من المستنقع السوري، فهذه مسألة بالإمكان التأكيد على أنها غير واردة، وعلى الإطلاق، سواء الآن أو في المدى القريب، وذلك مع أن أحد هؤلاء الكتاب الآنفي الذكر قد وصف العلاقة بين دمشق وطهران، وفي صحيفة هي صحيفة حزب الله الرئيسية، بأنها «علاقة انتهازية خسيسة وخالية تمامًا من المبادئ والقيم الثورية وأخلاق المقاومين»!!

ربما أن إيران، المنشغلة الآن وبكل إمكاناتها بالحرب الحاسمة المحتدمة في اليمن، لم تنظر إلى انتصارات المعارضة السورية في الجبهة الشمالية وأيضا في الجبهة الجنوبية نفس نظرة بشار الأسد ونظامه، ما دام أنها باتت تدرك أنه من العبث الحفاظ على كل سوريا تحت سيطرة هذا النظام، وبخاصة بعد وضع حدٍّ، في الآونة الأخيرة، لخلافات الدول الفاعلة في دعم هذه المعارضة بكل فصائلها وتشكيلاتها المتعددة، وما دام كل ما يهم طهران استراتيجيًا هو الحفاظ على الامتداد الواصل بين دمشق وضاحية بيروت الجنوبية بعمق يشمل الجنوب اللبناني ووادي البقاع وجبال النصيريين «العلويين»، بجانب منطقة اللاذقية ومنطقتي طرطوس وبانياس على شواطئ البحر الأبيض المتوسط.

إن هذا هو أحد الاحتمالات، وهو احتمال وارد، وقد يمثل «كبد الحقيقة»، كما يقال، لكن هذا يجب ألا يعني أن إيران التي تخوض حربًا ضروسًا في اليمن، والتي تخوض حربًا أخرى في العراق، هذا بالإضافة إلى الحرب السورية التي غدت طويلة الأمد، والمنشغلة أيضًا بحرب النووي الدبلوماسية والسياسية المُنهكة، ستنسحب من سوريا، وذلك مع أنها باتت مستنزفة اقتصاديًا بعد المقاطعة الاقتصادية التي استطالت أكثر من اللزوم والمفروضة عليها منذ سنوات طويلة، وذلك مع أنها اتكأت على الإمكانيات المالية العراقية، وأنها حولت هذا البلد الغني إلى دولة فقيرة تستجدي الصدقات عند أبواب «الخيرين»!!.. وأول هؤلاء الولايات المتحدة الأميركية.

هناك الآن ألف مشكلة ومشكلة تواجه إيران وتستنزفها ماليًا وعسكريًا وسياسيًا، وهذا بالتأكيد قد أثر، وهو يؤثر فعلاً، على الدور الذي بقيت تلعبه على مدى أربعة أعوام وأكثر في سوريا، لكن ومع ذلك، ورغم هذا كله، فإن هناك من يرى:

أولاً: أن هناك اتفاقًا موازيًا للاتفاق النووي بين طهران ودول «5+1»، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، يقضي بإضعاف بشار الأسد عسكريًا لإجباره على التعامل جديَّا مع العملية السياسية على أساس «جنيف 1»، وهذا ربما هو ما قصدته «نيويورك تايمز» الأميركية بقولها: «إن محادثات النووي تفتح طريقًا شائكًا أمام الأزمة السورية المتعصية».

ثانيًا: أن إيران دولة مصالح ودولة مبادئ في الوقت نفسه، وهكذا فإنه ليس مستبعدًا أن تتخلى ولو مؤقتًا عن بعض حلفائها إذا رأت أن مثل هذا التخلي يحقق لها على المدى الأبعد إنجازات استراتيجية في غاية الأهمية.. فرفع العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، بالإضافة إلى تعهد الغرب – وفي مقدمته الولايات المتحدة – بالتعامل معها كلاعب دولي أساسي مثل الهند والبرازيل وكرقم رئيسي في معادلة الشرق الأوسط، يجعلها تخفف من دعمها لنظام بشار الأسد ولو خلال مجرد فترة انتقالية، وإلى أن تتمكن من التقاط أنفاسها لتعود إلى ما كانت عليه، حتى وإن تم استبدال رئيس آخر بالرئيس السوري الحالي مع بقاء هذا النظام كنظام أو بعضه في هذه المرحلة الانتقالية التي يجري الحديث عنها.

ثالثا: أن أغلب الظنّ أن إيران، المنشغلة الآن في مواجهات عسكرية وغير عسكرية على جبهات كثيرة، قد تلجأ إلى «المهادنة» والتنازل على بعض هذه الجبهات من أجل الاستمرار في المواجهة والتصعيد على الجبهات الأخرى التي تعتبرها أكثر ضرورية وأكثر أهمية، لكنها في النهاية لا يمكن أن تتخلى عن اندفاعاتها الحالية وراء الحدود، وبخاصة في اتجاه الوطن العربي والمنطقة العربية وفي المشرق والمغرب على حدٍّ سواء، لكنها أيضًا لا يمكن أن تتخلى عن «استراتيجيتها» الوطنية بأنها قائدة العالم الإسلامي، وأن كل ما حولها من دول هي مجرد مجالات حيوية لما تعتبره «الإمبراطورية الشيعية»، والمقصود هنا حقًا وحقيقة هو الإمبراطورية الفارسية – الساسانية وعاصمتها بغداد، كما قال علي يونسي مستشار الرئيس الإيراني حسن روحاني.

إن الذين يحكمون إيران الآن، وعلى رأسهم مرشد الثورة والولي الفقيه علي خامنئي، أهل «تقية»، وإنهم يظهرون غير ما يبطنون. ولذلك، ولفهم المواقف والسياسات الإيرانية على حقيقتها تجاه العالم الإسلامي «السني» تحديدًا، فإن علينا أن نفهم الثقافة الفارسية «المذهبية» التي غدت سائدة بعد انتصار الثورة الخمينية في فبراير (شباط) عام 1979.

حتى نستطيع التعامل مع هذا النظام وليس مع «الشيعة»، الذين – بعيدًا عن التشيع السياسي – لا يمكن أن يكون بيننا وبينهم كل هذه الخلافات التي قد تصل إلى حدود العداوات المستحكمة في الكثير من الأحيان، فإن علينا الاطلاع ولو مجرد الاطلاع على نظرية محمد جواد لاريجاني، الذي هو أحد أهم الشخصيات السياسية منذ عهد الخميني وحتى الآن، وهذه النظرية هي نظرية «أم القرى».. و«أم القرى» المقصودة هذه هي ليست مكة المكرمة، بل «قم»، المقصود بها إيران كلها التي هي حسب لاريجاني: «الدولة الإسلامية ودولة الإسلام الصحيح»، والتي يجب أن تتوسع لبناء: «الإمبراطورية الشيعية الموعودة»!!

وحسب محمد جواد لاريجاني فإن إيران الثورة والدولة يجب أن تسعى للانتقال من فكرة «أم القرى» في إطارها النظري إلى بُعدها الإجرائي التطبيقي.. ومشروع «أم القرى» الإيراني لن يتحقق إلا إذا تمت سيطرة إيران على مجالها الحيوي، ومجالها الحيوي المطلوب أولا هو الدول العربية.. ولذلك فإننا نقول مرة أخرى إن طهران استعانةً بـ«التقية» قد تلجأ إلى «المهادنة» في سوريا وغيرها مؤقتًا، لكنها لا يمكن أن تتخلى عن «استراتيجيتها الوطنية»، المتمثلة في «أم القرى»، وفي أن الجمهورية الخمينية هي قائدة العالم الإسلامي، وعلى أساس أن إسلامها هو الإسلام الصحيح الوحيد.

وهنا، فإن من ينظر إلى ما يجري في هذه المنطقة، من العراق إلى سوريا إلى لبنان إلى اليمن إلى بعض دول الخليج العربي، لا بد أن يتأكد من أن إيران بدوافعها وتطلعاتها هذه هي التي تقف وراء كل هذه الأزمات المستفحلة، وأنها في كل هذا تنطلق من أن العرب الشيعة يشكلون مجرد جيوب متقدة تابعة لها، وأن ولاءهم الحقيقي ليس لأمتهم العربية ولا لأوطانهم ولكن لإيران، وهذا من المؤكد أن هؤلاء يرفضونه، وأن بعضهم قد يتعاطف مع دولة الفقيه ومع توجهاتها وسياساتها، لكن الغالبية منهم يتمسكون بعروبتهم وبأنهم جزء أصيل من هذه الأمة العربية التي ستبقى صاحبة رسالة حضارية مستمرة ومتواصلة.

صالح القلاب – الشرق الأوسط[ads3]

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي عكس السير وإنما عن رأي أصحابها

تعليق واحد

  1. أعتقد بأن إيران تعي تماماً بأنها غير قادرة على مواجهة العرب مجتمعين وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية عسكريا أو مالياً أو سياسياً ولذلك هي تعرف جيداً بأن العرب عندما تقدموا لمواجهتها في اليمن وسوريا مدعومين بتركيا فإن عليها التراجع إلى الوراء أو ستقع المواجهة بين الطرفين لامحالة وإيران ستكون الخاسر الأكبر بكل المقاييس وخاصة على الصعيد المالي ولذلك هي بدأت بالتراجع عملياً في سوريا بتخليها عن الأهبل أو بالأصح بتركه يواجه مصيره لوحده دون تورطها بمزيد من الدعم له وستتراجع أيضاً في اليمن علها (تشحذ) من العرب بعض المكاسب في لبنان بقبولهم بقاء حزب اللات حتى ولو اضطرها الأمر كذلك للتضحية بأبو زميرة .