السيادة على سورية: السلطة والتحكم في عهد الأسد
“رغم خروج معظم الأراضي السورية من تحت سيطرته، ورغم استناده إلى مجموعات دينية وشرائح اجتماعية لا تمثل إلا نسبة محدودة من عامة الشعب لا يزال النظام السوري قادرا على الاستمرار في السلطة. ماهو سر استمراره؟ وما طبيعة القوى التي يستند إليها؟ وماهي سرديته التي أكسبته التماسك خلال أربع سنوات من الحرب المستمرة التي يخوضها ضد الغالبية من الشعب السوري؟” بهذه الأسئلة يبدأ الصحفي والمستشرق ومدير مجلة زينيث الألمانية المتخصصة في شؤون الشرق الأوسط، دانييل غيرلاخ كتابه الجديد “السيادة على سورية، السلطة والتحكم في عهد الأسد”، والذي يسعى من خلاله لشرح الواقع السوري وكيفية وصوله إلى حاله اليوم بصياغة سهلة وبأسلوب مشوق يجمع ما بين السرد الصحفي والتحقيق العلمي. ثم يسعى بعد ذلك إلى تحليل البنى السلطوية التي يستند إليها نظام الأسد في حكمه محاولا الوصول إلى نظرية قادرة على تفسير سر قدرة النظام على التماسك خلال السنوات الماضية، رغم تعرضه لهزائم عديدة دفعت الكثيرين للتنبؤ بانفراط عقده وسقوطه القريب ما لم يحدث حتى اليوم.
يشرح دانييل في الفصل الأول من الكتاب، الذي يحتوي على أربعة عشر فصلاً، بشيء من التفصيل الأحداث التي بدأت مع كتابات أطفال درعا على الحائط وكيف تطورت إلى ثورة شاملة خلال الأشهر التالية. والمميز في هذا الفصل هو عودة دانييل إلى مصادر من داخل النظام تحفّظ على ذكر هويتها زودته ببعض التفاصيل التي ألقت الضوء على الأسلوب والعقلية التي أدار بها النظام أزمته خلال الأشهر الأولى. فقد أكد من خلال إيراد كم كبير من الشهادات والأحداث الموثقة بأن جميع محاولات تسوية الأزمة في درعا لم تكن سوى تمثيلية للتسويق الداخلي والخارجي. أما الغاية الحقيقة للنظام فكانت تهدف إلى بث الرعب بين المدنيين والأهالي لتأديبهم ولثنيهم عن مجرد التفكير بأي محاولة للتمرد. ثم يؤكد هنا أمرين: الأول أن بذور الثورة اليوم وضعت في الثمانينيات، والأمر الثاني: أن طريقة تعامل النظام مع التمرد تمت بلورتها أيضا في الثمانينيات.
يسعى في الفصول التالية “روح تدمر” و”العودة إلى حماة” لشرح سياسة حافظ الأسد في التعامل مع التمرد الذي قاده الإخوان المسلمون في حماة في بداية الثمانينيات. حيث يعتقد الكاتب أن سردية نظام الأسد في ذلك الحين تزعم أنه يخوض حرباً ضد متطرفين تكفيريين يجب استئصالهم. إلا أن حافظ الأسد لم يخض تلك الحرب مع المتمردين فحسب، بل كانت حربه ضد أهل حماة أنفسهم. يقول الكاتب بأن النظام منذ الثمانينيات قام بتعريف المكون السني في سورية كعدو أو على الأقل كمصدر للخطر الكامن، وحدد استراتيجيته لمحاربة أي بوادر تمرد تظهر في هذا المكون بشيطنة المتمردين من خلال توصيفهم كجهاديين ومتطرفين والرد عليهم بسياسات الاستئصال.
العامل الطائفي لعب دوراً هاماً في أحداث الثمانينيات وفي طريقة التعاطي الحكومي معها. ولعب دورا هاما فيما بعد في تثبيت حكم الأسد خلال الأعوام الثلاثين التالية. فالنظام السوري يعيش على الفتن والخلافات الناشبة بين الشرائح الاجتماعية في كل بقعة من سورية. بين السنة والعلويين في حماة وحمص، بين الأكراد والعرب في الجزيرة، بين البدو والعرب في البادية الشرقية، بين السنة والدروز في المنطقة الجنوبية، وهلمّ جرا. ويشرح دانييل بأنه حتى اليوم لم يتم التعامل مع ما حصل في الثمانينيات بشفافية ولم يتم السعي لحل هذ الملف الذي لازال ينزف حتى عام ٢٠١١. فالأسد الأب -حسب الكاتب- كان يخشى من أي تسوية لجراح تلك المرحلة، فقد يؤدي ذلك إلى وصول الطوائف والفرق إلى تفاهم وتعايش أفضل مع بعضها، مما سيؤدي إلى إزالة الريبة والشكوك المتبادلة بين العلويين والسنة. وبالتالي هذا سيحول دون تمكين نظام الأسد من الاستفادة من التناقضات والخوف والشك المتبادل بين هاتين الطائفتين. لذلك يعتقد دانييل بأنه يمكن النظر إلى أحداث اليوم على أنها استمرار لمسلسل من العنف بدأ في نهاية السبعينيات ووصل لذروته الأولى في عام ١٩٨٢ واستمر إلى اليوم لأنه لم يصل إلى حلقاته الأخيرة في ما مضى.
في فصل “سر العلويين” يورد دانييل قصة زيارته لأحد مرجعيات الشيعة في النجف في العراق السيد “بشير النجفي”. وعن سؤاله له عن العلويين وفيما إذا كانوا شيعة أم لا، يقول دانييل إن السيد بشير تهرب من الإجابة بقوله: “العلويون يمارسون ديناً سرياً. وإذا كان دينهم سرياً فكيف أستطيع الحكم عليهم إذا كانوا شيعة أم لا؟”، لكنه يكمل بأن العديد من المرجعيات الأخرى أوضحت له أن الشيعة يعتقدون بأن العلويين غلاة. ثم يتابع دانييل بأن النظام السوري بنى قوته على فقر وجهل العلويين. فكانت مصلحة النظام من وجهة نظر الأسد تقتضي الحفاظ على الحالة المبهمة في تعريف العلويين وغياب تحديد هويتهم. الأمر الذي أتاح للأسدين التلاعب فيهم والعمل باسمهم بشكل أكثر حرية واستخدامهم في تثبيت أركان حكمهم. لذلك يعتقد الكاتب بأنه لا يمكن القول إن العلويين يحكمون سورية. بل هم من ضحايا نظام الأسد.
وفي فصل “معضلة الدروز” يتساءل دانييل هل الأسد فعلا هو الضمانة الوحيدة لسلامة الأقليات؟
ثم يجيب بأن أكثر من نصف مليون مسيحي سوري هاجروا من سورية منذ تسلم الأسد للحكم. وأن العديد من طلاب اللجوء السياسي والإنساني في ألمانيا قبل الثورة كانوا من الأقليات المسيحية والكردية والدرزية. نعم هناك أناس كانوا مضطرين لكتم هوياتهم وممارساتهم الدينية، مما ولد لديهم أحقاداً على الآخرين. لكن النظام الأسدي، من خلال الضغط والاستبداد، هو سبب المشكلة ولا يمكن أن يكون هو الحل أو الضمانة.
يتحدث في فصل “عدو عدوي: الخليفة” عن تنظيم داعش ويوضح أن النظام عمل بشكل منهجي على تحقيق نبوءته بأن يحارب التكفيريين والجهاديين منذ انسحابه من الرقة وإخراجه الجهاديين من سجن صيدنايا وصولا لاستهدافه قوات الثوار في معاركهم مع داعش. ثم يصل إلى نتيجة مفادها أن النظام وداعش يحتاجان واحدهما إلى الآخر، وعلاقتهما أشبه بالعلاقة الحيوية، فزوال أحدهما يؤدي إلى زوال الثاني. ويتابع دانييل “للأسف الحوارات مع المسؤولين في العالم الغربي تؤكد بأن العالم بدأ يقتنع برواية الأسد، مما يثبت صحة نظريته وممارسته: اصنع الإرهاب ثم سوق نفسك على أنك خير من يحاربه”.
يقول دانييل في فصل “كذب وصلوات” إن العالم يعتقد أن النظام السوري هو دولة تضم مؤسسات والأسد هو الرأس التنفيذي لهذه الدولة. والبعض يذهب بعيدا ويقول بأن الأسد أعيد انتخابه وهو رئيس شرعي لدولة قائمة. لكن هذه الصورة مضللة حسب الكاتب. فسورية لها هيكل دولة خارجي يضم وزراء وإدارات ومؤسسات ولكنها جميعا لا تحكم سورية. بعض الشخصيات التي كانت تحتل مناصب بارزة في هذا الهيكل الخارجي مثل رئيس مجلس الوزراء رياض حجاب والناطق باسم الحكومة جهاد المقدسي، وغيرهم من الوزراء، غادروا النظام، إلا أنه لم يتأثر إطلاقاً بذهابهم. وبالتالي فإن النظام لا يستند إليهم ويمتلك القدرة على استبدالهم. الأمر الذي دفع دانييل وفريقه البحثي للبحث عن الأشخاص الذين لا يمكن الاستغناء عنهم في النظام السوري والذين يحملون صلاحيات اتخاذ القرار، ليصل بعد ذلك إلى نتيجة مفادها أن النظام السوري له عدة أشكال للتمظهر:
الشكل الأول هو الحكومة ومؤسساتها. لكن هذا الشكل ليس هو الذي يحكم سورية. وجميع المعطيات والوقائع تؤكد ذلك. الشكل الثاني للنظام السوري والذي أطلق عليه اسم التمظهر على شكل مؤسسة جريمة منظمة، والمتجسدة في أجهزة المخابرات وإدارتها بقيادة الحلقة الضيقة لعائلة الأسد. وهي البنية الحقيقة التي تحكم الدولة. أما الشكل الثالث لتمظهر النظام فهو الشكل العسكري، أي كمؤسسة عسكرية.
يقول دانييل: في أي أزمة أو في أي حدث يحصل في سورية تتداخل هذه المكونات الثلاثة في صناعة الحدث. فصاحب القرار الحقيقي هو المؤسسة الإجرامية، في حين تقوم المؤسسة الحكومية بتغطية الجانب البيرقراطي الرسمي. أما المؤسسة العسكرية فيتم استخدامها في الأزمات.
ثم يمضي دانييل في الفصل الأخير من كتابه “التشبيح: أو ما هو النظام السوري؟” لشرح معنى كلمة “الشبيحة” وكيف نشأ هذا المصطلح وما هي الأفعال والمعاني التي ارتبطت به كي يصبح اليوم مدعاة فخر لبعض فئات الشعب السوري. ويخلص دانييل إلى أنه إذا كان تعريف التشبيح هو التصرف على طريقة العصابات الإجرامية التي تبتز ضحاياها وتبتز العصابات الإجرامية الأخرى بوسائل تتنوع من الترهيب والتهديد وصولا للتصفية الجسدية بأبشع الطرق، فإن النظام السوري في جوهره ليس إلا مؤسسة تشبيح منظمة، إلا أنها حاصلة على الاعتراف الدولي بها. والمجتمع الدولي تعايش طوال العقود الماضية مع أفعالها التشبيحية. يضيف دانييل أن هذا التوصيف يصلح أيضا لمعظم حلفاء النظام مثل حزب الله. ويؤكد على ضرورة توصيف الأفعال باسمها الحقيقي من أجل التمكن من التعامل معها بالطريقة المناسبة. فالإصرار على أن الأسد رئيس شرعي أو غير شرعي يدير دولة ذات مؤسسات نخشى عليها من السقوط هو إيغال في الأوهام، كما أنه يقود المسؤولين الدوليين إلى نتائج وقرارات خاطئة.
هناك العديد من الكتب التي أغنت المكتبة الألمانية حول سورية خلال السنوات الأربع الماضية، إلا أن ما يميز كتاب دانييل غيرلاخ هو غناه بالقصص والأسماء والأحداث الموثقة التي حصل عليها من مصادر مختلفة جدا. فقد تمكن الكاتب من تكوين صورة متكاملة نسبيا وغنية عن طبيعة نظام الأسد في سورية والطريقة التي حكم فيها البلاد خلال العقود الماضية بشكل مبسط وجريء، دون إخلال بعمق الأفكار رغم تعقيد وتشابك الموضوع.
ما يمكن أخذه على الكتاب هو محاكمة الأزمات في سورية من خلال المنظار الغربي المتمثل في التعامل مع المجتمعات المختلطة كمجموعة من طوائف وإثنيات متنافسة. حيث يسعى هذا المنهج إلى تقسيم سلطة الدولة وغنائمها بين هذه المكونات بنفس الأسلوب الذي حدث في أوروبا فيما مضى، الأمر الذي قد يقود المنطقة إلى التقسيم العرقي والطائفي. إلا أن المنطقة العربية لم تطور بدائل لحل هذه الأزمات المتراكمة، ولا يبدو أن الطريقة الأوروبية قادرة أيضا على العبور بنا إلى بر الأمان.
غياث بلال – صحيفة العربي الجديد[ads3]