تركيا : القصر في مواجهة هيئة الأركان

مرت سنوات طويلة على غياب تقليد تركي مزمن في نشر الصحف لتسريبات من مصادر عسكرية، كانت الغاية منها دائماً تحذير الحكومات قبل رفع العصا الثقيلة، وتهيئة الرأي العام لذلك. قبل أيام قليلة عاد هذا التقليد إلى الظهور، فنشرت جريدة «حرييت» واسعة الانتشار تسريبات عن اجتماع أمني رفيع المستوى عقد، في الثامن عشر من شهر حزيران، بعد تحرير قوات مشتركة من «وحدات حماية الشعب» وفصائل متحالفة معها من الجيش الحر لبلدة تل أبيض من قوات داعش.

تتحدث التسريبات عن طلب حكومة داوود أوغلو من رئاسة أركان الجيش إعداد خطة للتوغل العسكري داخل الأراضي السورية لمواجهة تهديدات أمنية متعددة الأطراف، أهمها سعي مفترض من حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) للسيطرة على ممر يمتد على طول الحدود مع تركيا، ويصل اقليم كردستان الفيدرالي في شمال العراق بشاطئ المتوسط؛ واحتمال سيطرة قوات تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على بلدتي مارع واعزاز وصولاً إلى بوابة السلامة الحدودية مع تركيا.

وقد طالبت هيئة الأركان، دائماً وفقاً للتسريبات نفسها، بأمر خطي سرعان ما زودها به رئيس الوزراء. لكن الأركان واصلت موقفها السلبي من أي تورط عسكري في المستنقع السوري بتقديم مختلف الذرائع. ويربط المحللون الأتراك بين هذا الموقف والتوقيت غير الملائم فيما يتصل بالأجندة الداخلية المتمحورة حول تفعيل نتائج الانتخابات العامة: من انتخاب رئيس لمجلس النواب، إلى تشكيل حكومة جديدة من المرجح أن تكون ائتلافية، إلى إعادة هيكلة هيئة الأركان في مطلع شهر آب القادم حيث تنتقل رئاستها إلى قائد القوات البرية. ولا يريد رئيس الأركان الحالي أن يرتبط اسمه بأي مغامرة عسكرية مجهولة النتائج في فترة الشهر المتبقية من ولايته. كذلك يدرك رئيس الأركان أن تشكيل أي حكومة ائتلافية سيعني تقييداً ليدي أردوغان والحزب الحاكم ويفرض عليهما تغييرات على السياسة التركية في المشكلة السورية. فضلاً عن الصفة الانتقالية (تسيير الأعمال) للحكومة الحالية التي تفقدها القدرة، معنوياً على الأقل، على اتخاذ قرار بخطورة التوغل في بلد مجاور.

غير أن هذه الأسباب الداخلية بالذات هي ما يزيد من قوة احتمال التوغل التركي بهدف إقامة منطقة عازلة بطول 110 كيلومترات تمتد من جرابلس إلى إعزاز، وبعمق 15 كيلو متراً وصولاً إلى بلدة مارع، وفقاً لتسريبات مضادة من الصحافة الموالية لأردوغان (يني شفق). ويربط المحللون بين هذا الخيار وبين ارتفاع منسوب التوقعات بشأن تحالف العدالة والتنمية مع حزب الشعب الجمهوري لتشكيل حكومة ائتلافية قوية وقابلة للاستمرار. فيكون قرار التوغل العسكري، من هذا المنظور، إفشالاً مسبقاً لهذا التحالف الحكومي المتوقع، بسبب الموقف المعروف لـ»الشعب الجمهوري» في معارضته للسياسة التركية في سوريا جملةً وتفصيلاً. فإذا تم نسف هذا الاحتمال، لا يبقى أمام الحزب الحاكم إلا تشكيل الحكومة شراكةً مع حزب الحركة القومية المعروف بعدائه للحل السلمي مع الكرد. بتوغل الجيش التركي في الأراضي السورية وفقاً للسيناريو المسرب، من جرابلس إلى إعزاز، يكون الحزب الحاكم قد «حكَّ على جرب» حزب الحركة القومية بالقول إنه قطع الطريق على تشكيل الكوريدور الكردي المفترض من خلال وضع حاجز بين كوباني وعفرين. وما تصريح أردوغان القائل إنه «لن يسمح بإقامة كيان على الحدود الجنوبية لتركيا» إلا استثماراً في هذه الحساسية القومية التي ربما افترض أنها تشكل الحافز المناسب للقوات المسلحة أيضاً، وهي المعبأة إيديولوجياً ضد أي صعود كردي.

ما الذي قد يستفيد منه أردوغان بإقامة حكومة ائتلافية بين العدالة والتنمية والحركة القومية؟ هو ربما يدرك أن حكومة مماثلة لا يمكنها أن تعمر طويلاً، ما يعني الذهاب بعد أشهر قليلة إلى انتخابات مبكرة. الأمر نفسه سيحدث إذا عاند الأخير في رفضه أي ائتلاف مع الحزب الحاكم الذي يتهم أركانه بالفساد. المهم، في الحالتين هو قطع الطريق على ائتلاف العدالة والتنمية مع الشعب الجمهوري، وما يعنيه ذلك من تغيير إجباري في السياسة السورية لتركيا.
وتقوم حسابات أردوغان بشأن الانتخابات المبكرة، وفقاً لمعارضيه، على دخول تلك الانتخابات بصفة «البطل القومي المنقذ» بعد توغل الجيش المفترض في الأراضي السورية وتشكيل منطقة عازلة بين كوباني وعفرين من جهة، وبين مارع والحدود التركية من جهة أخرى، بما يبعد كلاً من خطري «الكيان الكردي» و»الدولة الإسلامية» معاً. ولكن ماذا عن ردود الفعل الاقليمية والدولية التي يمكن أن تقوم على العملية العسكرية التركية؟

الولايات المتحدة غير متحمسة بدلالة التصريحات الدبلوماسية لوزارة الخارجية («ليست لدينا أدلة كافية على نية دول اقليمية بإقامة مناطق عازلة داخل الأراضي السورية» كما قال المتحدث باسم الخارجية الأمريكية). أما عن إيران وروسيا، فقد تحدث وزير الخارجية التركية مولود جاويش أوغلو عن «اتصالات مستمرة» بين تركيا وبينهما. وإذا كانت إيران أعلنت عن موافقتها على «منع قيام دولة كردية» وفقاً لتصريح أحد أركان نظام طهران، فلعلها تغض النظر عن التوغل التركي المحتمل بشرط بقاء هدفه وتداعياته ضمن هذه الحدود. أما روسيا فقد كان لافتاً إطلاق وزير خارجيتها سيرغي لافروف «مبادرة» لإنشاء تحالف دولي ضد خطر الدولة الإسلامية يضم النظام السوري جنباً إلى جنب مع تركيا وقطر والسعودية! ترى أهي جزرة روسية ممدودة لأردوغان بالموافقة على توغل الجيش التركي مقابل اعتراف تركي بشرعية نظام الكيماوي مجدداً بعد أربع سنوات على نزعها من قبل تركيا؟ أم أن الجزرة الروسية ممدودة للمعارضة العلمانية في تركيا التي تتطلع إلى تغيير السياسة التركية في سوريا من أولوية إسقاط النظام إلى أولوية محاربة داعش في الحد الأدنى، والتعاون مع نظام دمشق في الحد الأعلى؟
في الحسابات الاستراتيجية، قد يشكل التوغل التركي نوعاً من التوازن في مواجهة التدخل الإيراني المكشوف في سوريا. لكن هذه الرؤية الاستراتيجية تنطوي على مخاطرها أيضاً: أي أن يشكل التدخل العسكري التركي الذريعة المناسبة لإيران لإرسال قوات برية إلى سوريا، بذريعة «التوازن الاستراتيجي الاقليمي» نفسها.

أما عن ردود الفعل الداخلية المحتملة، فيمكن القول باختصار إن التوغل المفترض ضد حزب الاتحاد الديمقراطي من شأنه إشعال المدن التركية كما حدث إبان معركة كوباني. بالمقابل إذا كان هدف التوغل هو تنظيم داعش، فيمكن لتركيا أن تصبح الهدف التالي لهجمات التنظيم بعد تونس والكويت.

بكر صدقي – القدس العربي[ads3]

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي عكس السير وإنما عن رأي أصحابها

تعليق واحد

  1. ما بظن حسابات اردوغان تنطبق مع حسابات القدس العربي و عبد الباري عطوان .. و التي هي بالضرورة حسابات بشار الأسد ..