جنيف السوري في انتظار طهران
يُفـــتـــرض بالمبعوث الدولي إلى سورية أن يقدّم تقريره، أو رؤيته للحل، خلال أسبوع. الموعد كان قد تأجل على ما قيل في انتظار إنجاز الاتفاق النووي مع إيران، وذهبت غالبية التفسيرات إلى اعتبار الربط بين الملفّين خسارة للسوريين، بخاصة مع الاشتباه بأن تقدّم الإدارة الأميركية تنازلات للمشروع الإقليمي الإيراني تعويضاً عن التنازل الإيراني في الملف النووي.
أصحاب هذه التفسيرات ينسون أن الإدارة لم تمانع حضور إيران جلسات جنيف 2، وإن لم تمانع في الوقت نفسه إقصاءها عنها، غالب الظن لإدراكها سلفاً ما ستؤول إليه من فشل.
قبل سنة ونصف السنة، كان لإقصاء إيران عن جلسات جنيف بعض الوجاهة، فالوفد الإيراني لو حضر سيستغلّ المفاوضات لبعث رسائل إلى الغرب، وأولاً لاستخدامه ورقة في مفاوضاته النووية. كانت الجلسات ستؤول إلى الفشل الذي آلت إليه، وقد تحصد إيران منبراً إعلامياً للحديث عن مؤامرة «الشيطان الأكبر»، وتسهّل مهمة حليفها السوري الذي ظهر تائهاً آنذاك. هذا يختلف كلياً عن المقولة التي بررت إقصاء إيران، وتنصّ على أنها جزء من المشكلة ومن غير المقبول أن تكون جزءاً من الحل، المقولة التي لا تزال تتواتر في أدبيات المعارضة مصحوبة بوصف واقع البلاد بالوقوع تحت الاحتلال الإيراني.
ليس رداً على إقصائها عن مفاوضات جنيف، ولكن صادف أن الفترة اللاحقة شهدت تأكيدات إيرانية مدى السيطرة على قرار النظام السوري، تأكيدات لم تتحرج القول أنها وصاية تامة، ما يلتقي مع اتهامات المعارضة. على الصعيد نفسه، يتّفق الطرفان، تحت ضغط اللياقة الديبلوماسية، على المطالبة بحلّ سياسي، بينما عينُ كل طرف على الحسم العسكري، على أمل أن تسمح به الظروف الدولية. وكما هو معلوم، أكدت الإدارة الأميركية، حتى أسمعت من به صمم، ألاّ حل سوى الحل السياسي. ذلك لا يحجب فرضية استفادتها من الملف السوري ورقة ضغط على طاولة النووي.
الآن، لو قيّض لجنيف 3 الانعقاد، سيرى المتشائمون في حضور إيران تراجعاً دولياً لصالح النظام، وهو قد يكون كذلك مع ملاحظة أن التراجع الدولي لا يحتاج مؤتمراً، بل تبرز ملامحه أولاً في التطورات الميدانية. التشاؤم يعني الإقرار بأن سورية لم تكن سوى ورقة صغيرة من أوراق التفاوض النووي، وعندما انتفت الحاجة إليها ألقتها الإدارة الأميركية بلا اكتراث، وهو استكمال لفرضية تسليم الإدارة بالمشروع التوسّعي الإيراني، كأنها كانت تعرقله من قبل.
التناقض الذي تقع فيه الأطراف المعلنة تأييدها الحل السياسي، هو قناعتها التامة بارتهان قرار النظام لصالح الوصاية الإيرانية، ومع هذا تقبل التفاوض مع النظام «الوكيل»، ولا تقبله مع الإيراني «الأصيل». ثمة مشروعية يتحصل عليها النظام من هذا التناقض، على عكس ما قد يحدث لو أعلنت المعارضة وسواها مناطقَ سيطرة النظام مناطق تحت الاحتلال الإيراني، وأن التفاوض الحقيقي لا يتم إلا مع الجهة التي تمتلك القرار. مفاوضة إيران عبر وفد النظام وهمٌ يُدفع ثمنه بمنحه مشروعية تمثيلية، ويُدفع ثمنه بإتاحة الفرصة لإيران كي تتملّص من أدنى مسؤولية سياسية مباشرة.
الحل السياسي الذي تصرّ عليه الإدارة الأميركية وهمٌ آخر في غياب إيران، فالأولى تعلم تماماً عدم كفاية التنسيق مع روسيا التي لا تملك حصة راجحة في قرار النظام. الفرضية التي روجتها الإدارة عن قيام النظام نفسه بالتفاوض على تنحي الزمرة العليا منه ومشاركة آخرين، تبقى في حيز المناورة اللفظية ما لم يأخذها الطرف الإيراني على عاتقه، وإذا لم تكن مناورة فهي رسالة لإيران لا للنظام.
ثم إن الفرضية السابقة تقوم على قناعة مشتركة بين الإدارة وروسيا وإيران، مفادها عدم السماح بانهيار النظام، وإذ تصر روسيا وإيران في درجة أكبر على ارتباط النظام بالأسد واستحالة الفصل بينهما، ترى الإدارةُ إيرانَ قادرةً على ذلك.
انتظرت الإدارة الأميركية طويلاً جداً حتى جرّت الإيرانيين إلى الاتفاق النووي، وهي غير مستعجلة كي يدركوا ضرورة الانخراط في تسويات إقليمية ليسوا جاهزين لها حالياً، بسبب اعتباراتهم الداخلية. خلف ادعاءات الهيمنة الإمبراطورية، يعلم الجميع أن الطريق بين طهران وضاحية بيروت الجنوبية لن يعود إلى سابق عهده المزدهر. سورية بوصفها معبر إمداد لحزب الله لم تعد موجودة، وعلى الإيرانيين فهم أن مشاركة الحزب في الحرب على السوريين هي آخر «مقاولة» عسكرية يُسمح لهم بها، ومع طول أمد الحرب ستكون آخر مقاولة تسمح بها مواردهم العسكرية والبشرية.
سيمضي وقت يُترك للقيادة الإيرانية كي تمتصّ انتصارها النووي المزعوم، قد يكون نفسه قرابة الثلاثة أشهر التي يتطلّبها تصديق الاتفاق في الكونغرس ومجلس الشورى. من المستبعد حدوث تطوّر مهم في الملف السوري خلال تلك الفترة، أما ما يليها فمتوقّف على مدى استيعاب الحرس الثوري وضعية إيران الجديدة، ومدى استعداده للتأقلم مع سياسات التسويات التي بدأت مع «الشيطان الأكبر».
غالب الظن ألا يُسمح دولياً للحرس الثوري بالتوسّع ترضيةً لموافقته على الاتفاق النووي، حتى إذا سُمح له باستخدام الأرصدة المجمّدة لدعم ميليشياته الإقليمية، فلن يعدو كونه استنزافاً يُضاف إلى ما قبله.
سيُعقَد جنيف 3 عندما تكون إيران مستعدّة للمساهمة الفاعلة فيه. بخلاف ذلك لا معنى لانعقاده، ولا معنى أيضاً لتكرار تأكيد الحل السياسي. في الطريق إلى جنيف السوري، هناك محطات سابقة ستكشف ملامح السياسة الإيرانية، هناك جنيف اليمني واستحقاق انتخاب رئيس لبناني. لكن للمحطة الأخيرة السورية حساسية لا يمكن تجاوزها، ففيها تتركز المؤثرات الإقليمية والدولية التي تمنع الهيمنة الإيرانية من العودة كسابق عهدها. ولئن كانت محاربة «داعش» أولوية قد تقرّب بين الإدارة الأميركية والقيادة الإيرانية، فللساحات السورية الأخرى المحاذية لتركيا أو إسرائيل حسابات مختلفة تماماً.
للتذكير، الصفقات الوحيدة التي تكلّلت بالنجاح بين فصائل معارضة والنظام، هي التي أُبرمت بمشاركة إيرانية ضامنة للاتفاق، وفي مفاوضات محلية عدة طالبت فصائل المعارضة بحضور إيراني إدراكاً منها أنه الوحيد الذي يضمن جدّيتها، ولا أحد من متابعي الشأن السوري خوّن أولئك المقاتلين. في الواقع، لا يسجل السوريون سابقةً إذا فاوضوا المحتلّ وقاتلوه في آن.
عمر قدور – الحياة[ads3]