عن تقسيم سورية و تقاسمها

أجرت الحرب الأهلية السورية جراحات عميقة في الكيان السوري، على صعيدي الجغرافيا والديموغرافيا، بحيث تحولت سورية بحكم الواقع إلى مجموعة «سوريات»، كل قوة من القوى السياسية والعسكرية تقتطع قسماً من الأرض وتقيم عليها ما يشبه الحكم الذاتي. لم يقتصر الأمر على «الميليشيات» المنتشرة، بل إن النظام نفسه بدأ ينطق في شكل شبه رسمي عن إمكانية انكفائه إلى الشاطئ السوري، بما يعني الذهاب نحو الدولة العلوية التي سبق لحافظ الأسد أن وضعها احتمالاً حقيقياً خلال حربه مع إسرائيل وإمكان وصول الدولة العبرية إلى دمشق.

لا يعني القول بحصول تقسيم واقعي على الأرض السورية أن هذه «الكيانات» قد رسمت حدودها الجغرافية والسياسية، وأنها مقبلة على تشريع وقوننة، فالحديث لا يزال يدور على وحدة سورية بكيانها الحالي. فمن المعروف أن القوى التقسيمية الآن الموجودة على الأرض من قبيل: قوى المعارضة المسلحة، «داعش»، «جبهة النصرة»، النظام نفسه…، لم تصل إلى الإعلان عن حدود دويلتها، لأنها تدرك أن كلفة التقسيم والحسم به أكبر بكثير من كلفة التوحيد والوحدة. إذا ما وضعت مشاريع لتقسيم سورية، عبر استعادة تاريخية تنطلق من كون سورية كانت مقسمة في الأصل إلى دويلات قبل قيام الدولة الراهنة، فإن ذلك يعني أن هذا البلد يجري التخطيط لإدخاله في حروب أهلية دموية لا نهاية لها. فالذهاب في التقسيم إلى نهايته يعني إجراء عمليات تطهير ديموغرافية وطائفية، إذا لم تكن صافية بالكامل، فعلى الأقل فيها غلبة عددية لفئة على أخرى. لم تخل الحرب السورية من مثل هذا التطهير نسبياً في مناطق حمص، حيث الحديث شبه صريح عن شريط جغرافي وديموغرافي من الطائفتين العلوية والشيعية، يجري بناؤه احتياطياً لما ستؤول إليه أمور الحرب. وهو أمر لا يزال ضمن الافتراض والتوقعات المستقبلية. لذا يبدو الكلام التحليلي عن استعادة سورية مقسمة على غرار ما كانت عليه كلاماً قد تنقصه المتطلبات السياسية والعسكرية، ناهيك بأن مثل هذه القرارات ليس بمقدور القوى المحلية المتصارعة تحقيقها. فالتقسيم قرار إقليمي ودولي، تدرك القوى الخارجية مفاعيله الخطرة داخل المنطقة العربية وخارجها.

يمكن القول، بديلاً عن توقعات التقسيم، إن ما يجري هو إعادة رسم الحدود بين القوى المتصارعة، وإيجاد مناطق نفوذ تسمح لهذه القوى أن يكون لها موقع في التسوية السياسية القادمة التي بات الحديث عنها متداولاً، بما يوحي أن سكة هذه التسوية قد وضعت، وأن الاتفاق النووي الإيراني الغربي شكل أحد روافعها. هذا يفتح على شروط التسوية ومدى نضجها، وموقع اللاعبين المحليين من قوى النظام وقوى المعارضة على السواء، ومدى حظوظ أي تسوية من النجاح. يصدر تقدير الذهاب إلى التسوية من عجز أي قوة داخلية عن الحسم العسكري، أو بالأحرى منع أي قوة من الوصول إلى هذا الحسم. هذا يفتح ملف الخارج ومعه مسائل التقاسم الممكن للكيان السوري.

لم تعد القوى المتصارعة في سورية مالكة القدرة على إنجاز تسوية تعيد تركيب السلطة وتضمن مصالح المجموعات والمكونات السورية. باتت سورية ملعباً لقوى خارجية تتحكم بمسار الحرب، صعوداً أو خفوتاً. على غرار الحرب الأهلية اللبنانية، لن يمكن الوصول إلى تسوية إلا بتدخل خارجي من القوى اللاعبة العربية والإقليمية والدولية. والحديث عن «طائف» سوري ليس من الخيال، فأي تسوية سورية لا يمكن أن تقفز على الانقسام الطائفي والمذهبي والإثني الذي اندلع كله على الساحة السورية، مطالباً بحقوقه، مما يعني أن التسوية ستكون محاصصة بين هذه المكونات.

يطرح سؤال عن مدى نجاة سورية من تقاسم ما ترغب فيه قوى إقليمية تريد حصة في الكيان السوري. فإسرائيل سبق لها أن نالت حصة من هذا الكيان عبر ضم الجولان إلى أراضيها، وتخلي النظام عن هذه الأرض، بل وتسخير الجيش السوري لحماية حدود اسرائيل. الدولة العبرية تبحث اليوم عن شريط حدودي على غرار ما حصل في جنوب لبنان. وتركيا التي ضمت لواء الاسكندرون إليها، وتخلى النظام السوري عنه كلياً في الاتفاق المذل الذي وقعه حافظ الأسد مع تركيا عام 1996، هذه الدولة ترغب أيضاً في منطقة نفوذ جغرافية. وإيران مهتمة بمنطقة نفوذ عبر «حزب الله» الذي يريد شريطاً طائفياً صافياً يربط سورية بالقرى الشيعية في البقاع، بما فيها إلغاء بلدة عرسال أو تهجير أهلها بصفتها إحدى عقبات الصفاء الطائفي المنشود.

ما جرت الإشارة إليه لا يزال حتى الآن يدور في دائرة الاحتمالات والتوقعات، فهل ستكون سورية أمام تسوية تعيد لها وحدتها على قاعدة ضمان مصالح المجموعات، أم أن مبضع التقسيم سيكون نافذاً بما يغرق هذا البلد في حرب أهلية لا قعر مرئياً لها؟

خالد غزال – الحياة[ads3]

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي عكس السير وإنما عن رأي أصحابها

‫5 تعليقات

  1. كل المتكلمين عن القضية السورية ليس لهم الا الحديث عن التقسيم والنفوذ ومصالح الدول الاخرى وكأن سوريا ارضا وشعبا هما الكرة التي يتقاذفها الجميع من اجل تحقيق انتصار او حتى الحصول على التعادل في النتيجة
    ولا يكلف احدا نفسه بطرح رأي واحد يضم الشعب السوري والارض السورية تحت نظام حكم يكفل للجميع حريته وكرامته ومن المؤكد ان اسقاط المجرم القاتل بشار هو المقدمة الصحيحة لحل كهذا وكذلك الوقوف الصلب في وجه الاطماع الايرانية الاستعمارية ولجم كلابها المسعورة التي تعيث فسادا في الارض السورية واعطاء الاقليات حقوقا منطقية ورفض افكارهم الانفصالية بالمطلق هو الخطوة الاهم والصحيحة لتحقيق العدالة على الارض السورية
    ان بناء دولة كهذه يبدو مستحيلا بسبب الافكار المطروحة من فصائل مقاتلة قوية على الارض لها منطق فرض الايدلوجيات الخاصة بها ضاربة عرض الحائط بكل ما هو غير ذلك ولكن الامر ليس على الله بعزيز

    1. أخي الكريم .. كﻻمك منطقي في حال أنك تتعامل مع بشر .. ولكن للأسف كلهم وحوش والكعكة السورية يتم تقاسمها الآن في المطابخ االسياسية العالمية وبشراهة كبيرة .. مايحدث الآن ممنهج ومبرمج ومخطط له منذ سنوات طويلة والآن التنفيذ .. يجب علينا قراءة أحاديث رسول الله جيدا لنكي نعرف كيف نتصدى لهذا المخطط الماسوني الشيطاني البحت .. نحن نقرأ التحاليل السياسية وننسى البوصلة النبوية .. داعش وأخواتها ستزول وينتهي دورها مجرد أن يضع الجندي الأمريكي قدمه على أرض الشام .. نحن قادمون على أحداث كبيرة والله أعلم .. اللهم إنا نسألك الثبات ..

  2. حدود المعارضة والجيش الحر وبقية الفصائل الاسلامية تقف عند الخط الفاصل بين السنة والعلويين ولن يسمح العلويون للسنة باقتحام مناطقها حتى آخر علوي. كذلك الأكراد فهم بعد كل ما قدموه من ضحايا في حربهم مع داعش وجبهة النصرة لن يسمحوا لأية قوة عسكرية أخرى تحكم مناطقهم