لا توقظوهم .. فالكيماوي لم ينفد من سورية بعد !
في لحظة فاصلة بين حياة وموت، تسمرّت أمام شاشة التلفزيون، أراقب نزيف الزبد من أفواه الأطفال، في مشهد أراه لأول مرة بعد كل مشاهد الدماء، والدمار، والاستهتار بحياة الإنسان.
حاولت أن أستبعد صوراً سابقة شاهدتها وأنا في الثالثة عشرة من عمري.. كانت هناك في بلد آخر، غير البلد الذي أنتمي إليه، وأغني نشيده كل صباح في التحية اليومية، أمام صارية عالية، تتعلق عيوني بعلم يرفرف في السماء، والذي قالت لي أمي يوماً أن رجالاً ليسوا كبقية رجال الأرض، هم من دافعوا عن هذه الراية كي تبقى عالية في سماء الوطن، سألت أمي يومها: “هي قطعة قماش! هل هي أغلى من حياة إنسان؟” أشاحت حينها بوجهها عني، وأجابتني: “هي عزة وطن وكرامته”.
اجتاحتني هذه الأسئلة يوم كنت طفلاً، بعد صورة لأم تحضن طفلها وهي مسجّاة على الأرض، كانا قد ماتا دون دم، لم أفهم يومها كثيراً معادلة الموت بلا دم، لكن عيني الأم الغاضبتين.. الحنونتين.. زرعتا في ذاكرتي الغضة، وهما اللتان كانتا تحملان في طياتهما بعضاً من الشعارات التي تمجد القاتل، الذي استباح يوماً ما مدينة سورية، لأنها قالت لا في وجه الطاغية؛ زرعتا في الذاكرة شعوراً جديداً.. شعوراً بالخجل من تمجيد القاتل، وشيئاً من الاستهجان لشعارات تحية العلم، التي كنا نردّدها كل صباح!
“أنا عايشة .. أنا عايشة” بهذا المزيج بين الفرح والحزن، بين الموت والحياة، تعلن الطفلة أنها ما زالت على قيد الحياة، فهي لا تريد أن تتحول إلى رقم كما تحول إخوتها.. رفاقها في المدرسة والحي.. لا تريد أن تفارق حياة الموت اليومية، إلى موت أبدي، فهي في حياة ليس فيها أي مظاهر للحياة، غير استنشاق هواء الغوطة العليل، الذي تحول إلى هواء الموت، بعد أن كان هو ذاته، في يوم ما، شفاء للقلوب المتعبة..
الصورة؛ الكابوس، التي تهاجمني بكل قسوتها ألجمتني، أحسست بجسدي قد تحوّل إلى حجر دون حراك، ورحت أتساءل: هل هذه الصورة من ذاكرة الحرب العالمية الثانية؟ مئات الأجساد تتكدّس في مشهد رهيب..
هل يمكن لمئات الأطفال أن يناموا في قارعة الطريق، بسبب حرّ آب؟ إنهم نيام.. نعم نيام، فلا دم، ولا أشلاء.. هم مغمضو الأعين فقط، والابتسامات ما تزال على الشفاه الباردة، هل هم يحتالون علينا لنجلب لهم الهدايا؟ في العمق أبٌ يحاول ايقاظ طفليه، يصرخ.. يبكي.. محاولاته تتحول إلى بكاء وعويل، هو يعرف أنهما كانا نائمين بجانبه، وأنه كان يحضنهما.. يذكر أنه كان قد لاعبهما أول الليل، ووعدهما بقبلة الصباح..
يبكي.. وأبكي معه، له، عليه، أغمض عيني اللتين فاضتا بالدمع.. أجهش ببكاء صامت.. تتحرك يدي الاثنتين لتمسحا دموعاً امتزجت بالدهشة، في ليلة لاهبة من أغسطس/ آب الموت.. لم أستطع أن أصرخ.. هل حقاً يمكن أن يموت كل هؤلاء الأبرياء في ساعة من حقد دفين؟!
لم أستطع أن أغالب خوفي.. ركضت باتجاه غرفة نوم أولادي، أحضنهم، أحاول جاهداً إيقاظهم في ساعات الفجر الأولى.. هل هم نيام حقاً؟ أم أن نوم أغسطس/ آب اللعين استبد بكل أطفالنا، مع أولى كلمات الاحتجاج أتنفس الصعداء..
ثلاثة صواريخ برؤوس كيماوية، كانت كافية لتلويث رئة دمشق المتعبة.. كانت كافية لقتل المئات من زهرات الغوطة، التي تلطخت بدماء الآلاف.. كانت كافية لقتل الأمل في قلوبنا المحطمة.. كانت كافية لجعل العالم يبكي.. تتحول المجزرة إلى صور، والأطفال إلى أعداد لا نعرف كيف نحصيها، هي مئات الضحكات، ومئات القلوب، ومستقبل الحياة.. عامين ونحن نستعيد تلك الصور.. نبكي بحرقة أقل.. وبكمية أقلّ من الدموع.. وبنحيب أخفَتُ صوتاً.. ماذا لو مضت سنوات طوال على المجزرة دون عقاب؟
ربما سنمرّ على قبور هؤلاء الطيور، ونهمس بكآبة عابر السبيل، ونقول “رحم الله الأبرياء!”
[ads3]