الروس في سوريا !
لعل السؤال الذي يجب أن يطرح هو التالي: هل بدأ الروس تدخلهم العسكري المباشر في سوريا بطلب من نظام دمشق الكيماوي، أم على رغم منه؟
مدعاة السؤال هو أن الوجود العسكري المباشر للروس قد لا يصنع فارقاً كبيراً في موازين القوى على الأرض لمصلحة النظام. فالدور القتالي الذي يمكن أن يقوم به 1500 جندي روسي من مشاة البحرية، لن يشكل إضافة كبيرة على آلاف المرتزقة من الميليشيات الشيعية متعددة الجنسيات الذين يقاتلون دفاعاً عن النظام منذ سنوات. ومن المستبعد أن يستفيد كثيراً ما تبقى من جيش النظام المنهك، من التوجيهات التي قد يفيدهم بها الخبراء الروس. ربما فقط على مستوى قيادة الطائرات الحربية، قد يعوض الطيارون الروس ما خسره النظام من الطيارين في السنوات الماضية. لكن هذا أيضاً مما لا يؤمل منه صنع فارق كبير لمصلحة النظام، ما دام طيرانه المتخصص في قصف المدنيين وتدمير العمران عاجزاً عن تحقيق نصر ملموس على قوات المعارضة المسلحة.
ترى ما الذي دفع بالقيادة الروسية للانتقال من دور الحليف المساند، بالحماية الدبلوماسية في مجلس الأمن وكمصدر للسلاح، إلى المنخرط مباشرة في الصراع الداخلي، كحال إيران تماماً؟ وهل انتهى تقاسم العمل بين الروس والإيرانيين في دعم حليفهم في دمشق، لتنخرط كل منهما لمصلحتها الخاصة؟
لعل ردود فعل كل من بريطانيا وفرنسا على الانعطافة الجديدة في السياسة الروسية في سوريا تعطينا مفاتيح لفهم أهمية هذه الانعطافة الروسية ودلالاتها. فالقوتان الاستعماريتان الكبريان –سابقاً- تتصرفان، في الأحداث المفصلية المتعلقة بمستعمراتهما السابقة، بنوع من المنعكس الشرطي الذي لا يأخذ بعين الاعتبار، كثيراً، تبدلات الزمان وتحولاته. هذا ما لاحظناه مثلاً في المشاركة البريطانية الفعالة في حرب العام 2003 على العراق، وإمساكها بمنطقة الجنوب، أو في المشاركة الإيطالية في الحرب على نظام القذافي الساقط. واليوم، بعد تصدر أخبار التدخل الروسي، نرى استيقاظ فرنسا المتأخر على ضرورة المشاركة في الغارات الجوية على مواقع «داعش» في سوريا. في حين تتحدث تقارير صحافية عن نية الحكومة البريطانية في الحصول على إذن برلماني بشن هجمات جوية ضد مواقع التنظيم الإرهابي داخل الأراضي السورية.
تتزامن هذه التطورات مع انفجار أزمة اللاجئين السوريين، في الفترة الأخيرة، وتحولها إلى مشكلة دولية كبيرة لا يمكن التهرب من استحقاقاتها. وللمرة الأولى في تاريخ المأساة السورية الممتدة على أربع سنوات ونصف، تتحول مشكلة اللاجئين السوريين إلى قضية رأي عام ضاغطة على حكومات البلدان الأوروبية وغيرها من الدول المعنية بالصراع في سوريا وعليها.
المرجح أن التدخل الروسي المباشر لن يغير شيئاً في سياسة الإدارة الأمريكية إزاء المشكلة السورية، وقد لا يتجاوز الاستياء الفرنسي – البريطاني من هذا التدخل مستوى المشاركة الرمزية في الحرب الجوية على داعش في سوريا. في حين أن القوى الاقليمية المنخرطة في الصراع أظهرت نشاطاً أكبر في مواجهة التدخل الروسي، من خلال الفصائل العسكرية التي تمون عليها: تقدم جيش الإسلام في الشمال الشرقي من العاصمة دمشق وقطعه لطريق دمشق حمص، وفتح فصائل حلب لجبهات جديدة ضد مواقع النظام غربي عاصمة الشمال.
لكن التدخل الروسي المباشر جاء، أيضاً، في سياق نوع من التسليم الدولي – الاقليمي بقيادة روسيا للجهود الدبلوماسية الهادفة إلى إيجاد حل سياسي في سوريا، وما ينطوي عليه ذلك من تسليم متفاوت بالرؤية الروسية للحل السياسي الذي يقوم أساساً على تحوير «جنيف1» بما يضمن استمرار نظام بشار الكيماوي بذريعة «الحفاظ على مؤسسات الدولة». إذا كانت الرؤية الروسية هذه مرضية للنظام وإيران، ولا تثير اعتراضات عدد من الدول العربية، إضافة إلى الولايات المتحدة والدول الأوروبية، فهي تتعارض مع التوجهات السعودية ـ القطرية ـ التركية، ولا يمكن قبولها من طرف الفصائل العسكرية المعارضة العاملة على الأرض. فهل جاء القرار الروسي بالتدخل المباشر لفرض أمر واقع على خصوم رؤيته للحل السياسي ووضع ثقله إلى جانب النظام المتهافت على طاولة مفاوضات جنيف3؟
ما هو مؤكد أن النظام خسر الكثير خلال العام الحالي وبلغ من الضعف مبلغاً عبر عنه رأس النظام بصراحة خلال أحد ظهوراته الإعلامية قبل نحو شهرين. وفضلاً عن خساراته العسكرية وتقلص مساحة الأراضي التي يسيطر عليها إلى نحو 18% من مساحة البلاد، ازدادت مظاهر التململ لدى قاعدته الاجتماعية الأكثر تماسكاً في الساحل، وخسر المجتمع الدرزي بعد اغتيال الشيخ وحيد البلعوس. ومن المرجح أن تلعب قضية اللاجئين السوريين دوراً ضاغطاً على الحكومات الأوروبية للبحث عن حل سياسي في سوريا يوقف شلال الدم.
بمعنى من المعاني، وصلت الأزمة السورية إلى عنق الزجاجة، ولا مفر من مواجهتها في آخر المطاف، على رغم كل سلبية الإدارة الأمريكية وعلى رغم كل بهلوانيات الدبلوماسية الروسية الساعية إلى تدوير الزوايا. وأمام التقارب الأمريكي ـ الإيراني المستجد بمناسبة الاتفاق النووي، لم يبق أمام الروسي إلا العمل على ضمان مصالحه المستقبلية بنفسه من خلال الحضور العسكري المباشر، لتكون له حصته من تركة الرجل المريض في الشام.
فجنيف3 سيكون، من هذا المنظور، استعادة لجنيف1 (ولكن في شروط جديدة) من حيث اقتصاره على الدول المنخرطة وخلوه من النظام الكيماوي ومعارضيه، باسطنبولييه وقاهرييه على حد سواء، أو عدم تمتع الطرفين بأكثر من حضور رمزي. فقد جرب هذان الطرفان المحليان حظهما في التفاوض المباشر في جنيف2، وكانت النتيجة الفشل التام في مجرد إيجاد لغة مشتركة. كذلك محكومة بالفشل محاولات روسيا للاستفراد بالحل السياسي، والأمم المتحدة في تحايل دي مستورا على الكلمات والوقائع.
التركة السورية باتت ناضجة لتقاسم النفوذ. لم يبق إلا نصب الطاولة وتوجيه الدعوات.
بكر صدقي – القدس العربي[ads3]