لعبة بوتين في سوريا
ما اللعبة الحقيقية وراء تدخل فلاديمير بوتين في سوريا؟ أرسلت روسيا حتى الآن قوة مصغرة من الطائرات المقاتلة، والقاذفة، والمروحيات، لتستقر في مطار بالقرب من مدينة اللاذقية، والغرض الوحيد والمعقول من وجودها هو دعم نظام الرئيس بشار الأسد. ولكن الإبقاء على حكومة الأسد وإطالة أمد الحرب الأهلية السورية، لا يعد هدفًا في ذاته بالنسبة لبوتين، الذي يسعى، بشكل طبيعي، لتعزيز الوجود الروسي في منطقة الشرق الأوسط.
من المحتمل جدًا أن يكون الهدف الحقيقي للرئيس الروسي هو التوصل إلى حل للمستنقع السوري، وهو الحل الذي ينضوي على وجود دولة سورية رديفة، تتحول فيها الأقلية العلوية إلى أغلبية حاكمة. وبعبارة أخرى، فإن بوتين يعمل على إسناد الأسد لكي يسهل عليه التخلص منه لاحقًا.
يُقال في بعض الأحيان إن بوتين يتدخل في الشأن السوري لصرف الانتباه دوليًا عن توسعاته المستمرة في أوكرانيا. غير أن ذلك التفسير يتسم بقدر لا بأس به من البساطة. لأن بوتين يبحث عن شيء يقايض به الغرب مقابل السماح لروسيا بمواصلة بسط كامل سيطرتها على أوكرانيا. وبالتالي، فإن مسمى اللعبة هنا ليس الإلهاء، ولكنه النفوذ.
بالنظر إلى مختلف أرجاء العالم، فليست هناك الكثير من الأماكن التي يمكن لروسيا أن تقدم للغرب شيئًا يحتاجه. ولكن سوريا من المواقع التي يمكن لروسيا مساعدة الولايات المتحدة وأوروبا في تحقيق أحد الأهداف الضرورية.
تتحول أزمة اللاجئين السوريين بمرور الوقت إلى إحدى المسائل الأوروبية الداخلية العالقة. ولدى الولايات المتحدة اهتمام جاد بإنهاء الحرب الأهلية هناك، لأنها تخلق مجالاً من الظروف المثالية لتوسع تنظيم داعش على الأرض.
ولكن ليست للولايات المتحدة أو لأوروبا الأهلية والقدرة أو الاستعداد الكافي لإنهاء الحرب الأهلية السورية. فلقد استخدمت الولايات المتحدة القوة الجوية لديها في محاربة تنظيم داعش، غير أن تلك الحملة الجوية لا تفلح في تقييد النمو والتوسع المستمر للتنظيم الإرهابي.
وفي أي وقت خلال السنوات القليلة الماضية، كان يمكن للولايات المتحدة توجيه مقاتلاتها وقاذفاتها نحو قوات الأسد وإضعاف نظامه بما يكفي لاحتمال إسقاطه. ولكن إدارة الرئيس باراك أوباما خشيت، ومن دون سبب مفهوم، أن إسقاط نظام حكم الأسد قد يعني سيطرة تنظيم داعش على الأرض هناك. ومن المؤكد أن يترتب على ذلك ارتكاب مذابح بحق العلويين من طرف التنظيم، وإيجاد طبقة جديدة تمامًا من اللاجئين السوريين الذين يتجهون إلى أوروبا.
كان يمكن لإيران هي الأخرى، التي ظلت الداعم الرئيسي للأسد، وفي أي وقت خلال السنوات الماضية أن تتخذ زمام المبادرة لإنهاء الحرب الأهلية السورية بالضغط على الأسد لقبول تجميع أفراد الطائفة العلوية في مكان محدد من سوريا. غير أن ذلك لم يكن يصبّ في مصلحة الجانب الإيراني، كما أعرب عنه، على أقل تقدير، المرشد الإيراني الأعلى آية الله علي خامنئي.
من أحد الجوانب، تعتبر سوريا تحت حكم الأسد هي الجسر البري الإيراني نحو مواقع تنظيم «حزب الله» اللبناني، ومن شأن سوريا المقتصرة على حكم الأسد أن تواجه المزيد من المشكلات في الاتصال بالميليشيا الشيعية اللبنانية من أجل توصيل الإمدادات، بما فيها الصواريخ الإيرانية.
من جانب آخر، كانت إيران ضالعة في المفاوضات النووية طويلة الأجل مع الولايات المتحدة، ولم يكن هناك من داع لمساعدة خصمها في ذلك الوقت. وربما قبل كل شيء، أن سوريا على وضعها الحالي، لا تزال تعتبر حضنًا إيرانيًا حصينًا ضد الأغلبية الإقليمية العربية السنية، وليس لدى إيران من سبب يدعوها للسماح بالمزيد من الانكماش.
تعد المصالح الروسية في سوريا مختلفة. فلقد شهدت العلاقات التاريخية القوية ذات مرة بين الاتحاد السوفياتي وسوريا البعثية، مرحلة ضعف وانهيار عقب سقوط الشيوعية في روسيا، وذلك مع جفاف التمويل الروسي لوكيلها الشرق أوسطي. ولكن ظلت الاتصالات قائمة بين البلدين، مما أعطى بوتين فكرة إعادة التفاعل مع الشأن السوري. ولكن سوريا أو الأسد لا يتمتعان بمصلحة استراتيجية أساسية من وجهة النظر الروسية. ولكن بوتين ببساطة يستغل الفرصة السانحة لتحقيق أهدافه.
يتعين على الأسد إدراك ذلك، ولكنه يستميت كذلك في المحافظة على بقاء نظام حكمه، كما أخبر بوتين الصحافيين (مع ضحكة مكتومة لها مغزاها) خلال زيارة بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى روسيا مؤخرًا. إذا ما أراد بوتين توفير الإسناد الجوي إلى الأسد، فليس الرئيس السوري في وضع يسمح له بالرفض.
ومن واقع ذلك التحليل تأتي نتيجة مفادها أن بوتين يزيد من جهود إسناد الأسد حتى يستخدم احتمال تحقيق حالة من الوساطة السلمية كورقة مساومة تفيده في علاقاته المضطربة مع الغرب. ويثير ذلك بدوره تساؤلين أساسيين ومهمين: هل بإمكان بوتين الوفاء بتعهداته؟ وإذا ما تمكن من ذلك، هل الثمن (الذي يشمل أوكرانيا) يستحق كل ذلك العناء من قبل الولايات المتحدة وأوروبا؟
يبدو من الممكن تمامًا أن بوتين يمتلك القدرة للضغط على الأسد، لأجل التوصل إلى اتفاق يبقيه في سدة الحكم على تجمع كبير يضم كل أفراد الطائفة العلوية. وبعد كل شيء، على الأسد أن يدرك أنه ليست بيديه مفاتيح اللعبة النهائية لإنهاء الحرب الأهلية الدائرة في بلاده. وحتى مع كل أنواع الدعم والمساعدة التي تستعد إيران لتوفيرها إليه، فليس من المتوقع، بمصداقية، أن يستطيع الأسد إعادة بسط السيطرة على الأجزاء التي فقدها من بلاده. والحقيقة هي، أن الغرب ظل على خشية من الإطاحة الفعلية بالأسد خوفًا من البديل المعروف. كما أن عمليات القصف الجوي التي عانى منها تنظيم داعش، ساعدت الأسد في بقاء حكمه على قيد الحياة. ولكن ذلك بعيد كل البعد عن موافقة الغرب على مساعدته في استعاده بلاده الممزقة تحت سيطرته.
الحل الوحيد المتصور على أدنى تقدير للحرب الأهلية السورية هو سوريا المصغرة، وقد يدرك الرئيس الأسد أنه من الأفضل له الاتساق مع ذلك الحل، بدلاً مما سيكون عليه حاله في المنفى. وما يحتاجه الأسد للضلوع في مثل تلك الصفقة هو الضمانات العسكرية القوية والملموسة للإقليم الواقع تحت سيطرته ضد تنظيم داعش. بإمكان روسيا، من الناحية الافتراضية، تأمين مثل تلك الضمانات للأسد، والمشاركة في ذلك أيضًا باستخدام قواتها الجوية.
ويبقى السؤال الأصعب هل يستحق ذلك الحل كل ذلك المجهود؟ باعتبار سوريا الممزقة بحكم الأمر الواقع لا يترك الغرب في وضع أفضل، حيال محاربة تنظيم داعش، مما عليه الأمر الآن. وقد يؤدي الوضع السوري الراهن إلى تبسيط الحرب ضد التنظيم الإرهابي. ولكن، على النقيض من ذلك، قد يؤدي الأمر إلى تعزيز قوة «داعش»، ومنح التنظيم الإرهابي الأمل في الاعتراف به على المدى الطويل داخل مناطق معينة.
كما قد يعني ذلك قبول اعتداء بوتين على أوكرانيا كجزء من الصفقة المبرمة، سواء الجزء المعلن عنه أو المسكوت عنه منها. ومن شأن ذلك، تعزيز نزعة بوتين التوسعية الخطيرة فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، ووصفه في الوقت ذاته بالمهارة والحنكة السياسية الخارجية.
ومع ذلك، فإن التكلفة البشرية للحرب الأهلية السورية ضخمة وهائلة للغاية – وهي في تزايد مستمر – حتى يبدو من الغباء المحض رفض إمكانية وجود الصفقة الروسية المباشرة. إن بوتين يلعب لعبته باحتراف. ويتعلق الأمر في الوقت الحالي بالولايات المتحدة للوقوف إلى أين ينتهي الأمر، والوقوف كذلك على ما إذا كان يمكن للرئيس أوباما مغادرة منصبه بعد بدء عملية إعادة بناء قدر من الاستقرار في جزء من أجزاء سوريا على أدنى تقدير.
نوح فيلدمان – أستاذ القانون بجامعة هارفارد – بلومبيرغ – الشرق الأوسط[ads3]