روسيا ليست الإتحاد السوفياتي

اليساريون من الممانعين يستحضرون، هذه الأيام، أشباح الإتحاد السوفياتي المنهار منذ ثلاثة عقود، ليحيوا احتفاءهم بالهجمة الروسية على سوريا: وأغنية “كاتيوشا” التي لا يتوقف النظام السوري عن بثها هي طليعة هذا الإستحضار. لكن هناك أشياء أخرى أيضاً: منها، تعميد الجيش الروسي بماء المعمودية الشيوعية السالفة، وتسميته “الجيش الأحمر”؛ وإطلاق العنان للحماسة المفاجئة للفنون الروسية، خصوصا تلك التي ولدت وراجت أيام الإتحاد السوفياتي، مثل فنون “الواقعية الاشتراكية”، التي يغشى اليساريون الممانعون أمام اهتمام الغرب بها، فيدرجونها كنقطة إضافية في سجل الروس الناصع؛ فضلا عن “التنظير” لهذا “الإستقبال الشعبي العارم” لـ”قدوم” الروس إلى سوريا، والذي يعبّر عن “المكانة” التي يحتلونها وسط هذه الشعوب، بسبب “صداقتهم للشعوب”، و”وفائهم” لحلفائهم، و”أخلاقهم الاشتراكية”، و”إتقانهم” لعملياتهم العسكرية، و”عدم تلطّخ أياديهم بدماء الشعوب العربية”، كما هو حاصل مع الإمبريالية الأميركية والصهيونية الإسرائيلية.

يبلغ هذا الخلط بين روسيا الجديدة وبين الإتحاد السوفياتي المنهار حدّاً، ان أكثرهم حماسة للهجمة الروسية، وبعد تحيته لـ”المحررين” الروس “من قبضة الإرهاب”، يكرّر وصف أميركا الحالية بـ”الإمبريالية الجديدة”… هذا الإستحضار، المدعوم بإنتصارية آتية من الصميم، يعيدنا إلى أيام الحرب الباردة، عندما كان “صديق الشعوب”، الإتحاد السوفياتي، يتحدّى الإرادة الإمبريالية بالسيطرة على الشعوب، فيأتي هو لإنقاذها من مخالبه، وينتصر… هكذا، تنطلق الزغاريد، تارة ان الروس “أذهلوا” الأميركيين، أو انهم “أرعبوا” الإسرائيليين، بصراحتهم الاستراتيجية وتصميمهم على محاربتهما، واتقانهم لعملهم العسكري الدقيق دائماً… زغاريد تستعجل نصرهم، بصفته فاتحة لحرية شعوب المنطقة. والحال ان هذا الإتحاد السوفياتي، الذي يحاول يساريو الممانعة إعادة بعثه من جديد، تعزيزاً لـ”محور المقاومة”، الذي يقاتل من أجل بشار الأسد في سوريا، والذي لم يكن صديقا للشعوب، ولا أحمر شيوعيا يبني نظام المساواة بين البشر… الإتحاد السوفياتي هذا لم يعد له وجود أصلاً.

وحده الفكر التوريثي العربي الذي يعتقد بأن كل وريث هو تجسيد لأبيه، كما هو حاصل بيننا، هو الرافعة التي تسمح بإحياء الأموات، وإخراجهم من قبورهم على طريقة فرنكنشتاين. روسيا الآن ليست الإتحاد السوفياتي: الدول التي شكلت “مجاله الحيوي”، في أوروبا الشرقية وآسيا الاسلامية، انفصلت عنه، وتراوحت أوضاعها بين تمرد سلمي أو حربي، وبين إذعان للوصاية الروسية أو إصرار على التحرر منها. روسيا لم تَعد تأوي “الأممية الشيوعية”، المسماة “كومنترن”، تلك الهيئة العالمية التي كانت تجمع كل الأحزاب الشيوعية في العالم، لترشدها إلى سياستها وتوجهاتها وتسلحها، وتدرّبها وتعلمها أصول الحرب الشعبية  وتهديها المنح الدراسية الخ… كما تفعل الأمميات الاسلامية الآن، الشيعية منها والسنّية، وإن بأشكال مختلفة. الأممية الجديدة التي يحاول اليوم بوتين بناءها، وبالدعم المالي شبه المعلن، هي مع أحزاب اليمين الأوروبي المتطرف؛ أحزاب تلتقي معه بحرارة حول كراهية الديموقراطية، “جالبة الفوضى”، وحول القيم التقليدية المسيحية. ما يسهِّل تحويل سوريا إلى “أرض مقدسة، أرض روسيا: الأرض التي وطأها أوائل النساك الروس في القرون الوسطى” (سيمن باغتزاروف).

روسيا اليوم لم تَعُد تبني مع الأحزاب الشيوعية إلا علاقة نوستالجيا، حزبها الشيوعي نفسه صار يحتل في “الإنتخابات” التشريعية أدنى القائمة، ومن يحكمها هو حزب “روسيا الموحدة” وقائده بوتين نفسه. وبوتين هذا، باعث اليسارية العربية الممانعة من رميمها، هو الآن أغنى رجل في أوروبا، يملك أربعين مليار دولار كأسهم في شركتَي الغاز والبترول الروسيتين (ستانيسلاس بلكوفسكي). وله كلمة مأثورة: “من لا يأسف على إنهيار الإتحاد السوفياتي ليس له قلب، ومن يريد إعادة بعثه فليس له عقل”.

بوتين قومي روسي، يريد الرفع من شأن الهوية الروسية التي تضعْضعت مع إنهيار الإتحاد السوفياتي. وليكون بوتين على قدر المسؤولية القيادية التي ألقاها على عاتقه، كوَّن عبر العقد ونصف العقد من حكمه ملامحه “التاريخية”، حيث مزج بين شخصية بطرس الأكبر وستالين والقياصرة المتعاقبين والكهنة الأرثوذكس فضلا عن جهاز المخابرات الأكبر “الكا أجي بي”؛ وقد ترعرع في هذا الأخير ونشأ. روسيا الخالدة، الجوهرية، القافزة على تاريخها القريب نحو السحيق، المتغنية بالاستبداد وبالهوية القومية، ليست أبدا مواصفاتها مطابقة مع ما يحب ان يتصوره الممانعون اليساريون، المتمسكون بقشرة أمل بالية. فبوتين ليس لينين، وروسيا ليست الإتحاد السوفياتي.

دلال البزري – المدن[ads3]

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي عكس السير وإنما عن رأي أصحابها

2 Comments

  1. أساسا كل شيوعي أو يساري عربي هو داعشي بالفكر والميول لافرق بينهما من حيث احترام القيم الإنسانية والآدمية وحقوق الإنسان فكلاهما دكتاتور في طروحاته وأفكاره المصيبة دائما بنظره وكلاهما لايمانع في سبيل تحقيق مشروعه بأن تجري أنهار من الدم وكلاهما له مشروعه الوحدوي الوهمي الكبير وكلاهما يؤمن بضرورة إزالة الفوارق بين المجتمع عن طريق لبس الزي الموحد سواء كان بدلة كاكية أو زيا أفغانيا وكلاهما يستند (للسلف الصالح) لاستلهام أفكاره سواء كان لينين أو ابن تيمية الفرق الوحيد بينهما بأن اليساري يفضل قطع الرؤوس مع احتساء الفودكا والداعشي يقطع الرؤوس بدونها .

  2. الحقيقة أن الطرفين في سوريا يخلطان روسيا بالإتحاد السوفييتي ، فمعظم المعارضين يقولون هذه الأيام أن روسيا ستكرر هزيمتها في أفغانستان ، ها هي تغريدة لفيصل القاسم اليوم كمثال على ذلك : (اضحك كثيرا عندما اسمع بعض الشبيحة وهم يبشرون بعضهم البعض ان روسيا ستحسم الوضع في سوريا خلال٤ اشهر. اسألوا روسيا متى دخلت افغانستان ومتى خرجت )