رئيس للبنان بعد انتهاء حرب سوريا
تمثل النكات السياسية في معظم دول العالم التعبير الصادق عن مزاج الرأي العام ومستجدات احتجاجاته ومطالبه.
وقد تميّز المصريون عن رفاقهم العرب بإنتاج كميات من النكات السياسية الساخرة تمثّل صور المعارضة والاعتراض ضد العهدين الملكي (فاروق) والجمهوري (عبدالناصر).
وبما أن اللبنانيين قد انتقلوا خلال هذه السنة من إطلاق النكات الساخرة ضد الآخرين… الى إطلاق النكات التهكمية ضد أنفسهم، فإن المحلّلين يعتبرون هذا التحوّل المفاجئ في مثابة عودة الى أجواء السبعينات، ولو من دون سلاح.
آخر نكتة سمعتها تتردّد في لبنان تختصر مأساة الوضع القائم بكل تصدعاته ومزالقه. والنكتة تروي الواقعة التالية: فتح مواطن لبناني شباك شقته القائمة في عمارة مرتفعة جداً، فإذا به يشاهد شخصاً يهوي بثقله عن السطح.
ومدّ رأسه من الشباك ليسأله بفضول:
– كيف شايف وضعك حتى الساعة؟
وأجابه على عجل وهو يهوي بسرعة نحو الأرض: حتى الآن… وضعي محمول!
العبرة المُستقاة من المعنى الرمزي لهذه النكتة تشير الى أن حال السقوط السريع التي يختبرها المواطن اللبناني ستؤدي به حتماً الى الارتطام بأرض الواقع… والهلاك. لكنه في لحظات الهبوط المتسارع، يحاول تقطيع الوقت الضائع بالانصراف إلى معالجة شؤونه الخاصة، والاستغناء عن دور الدولة.
ومثل هذه الحال ظلّت تتطور الى الأسوأ منذ انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال سليمان في 25 أيار (مايو) 2014، وخلوّ منصب الرئاسة من خلف. وتشير المادة الدستورية المتعلّقة بهذا الموضوع الى ضرورة تحوّل مجلس النواب الى هيئة ناخبة فقط، خلال الأيام العشرة الأخيرة من ولاية الرئيس.
وكعادة اللبنانيين في مواجهة المحظورات، فقد استنبط رئيس المجلس نبيه بري، حلاً سمّاه «تشريع الضرورة». وقد استُعمِل هذا الحل لتخطّي سلسلة عقبات، أهمها عقبة تمويل البنك الدولي وسواه من المؤسسات الاقتصادية (600 مليون دولار) بهدف تمويل مشاريع حيوية مثل مشروع مياه الأولي.
لكن مخرج «تشريع الضرورة»، الذي وظّفه الرئيس نبيه بري لحلّ الكثير من القضايا الشائكة، لم يصلح لحلّ عقدة رئيس الجمهورية. وهي العقدة التي يعتبرها البطريرك الماروني بشارة الراعي، المسألة المركزية القادرة على حلحلة كل المسائل العالقة. وهو يعوِّل على انتخاب رئيس جديد للجمهورية خلال المهلة الدستورية، لاقتناعه بأن هذه الخطوة الضرورية الملزمة تعطي زخماً لمؤسسات الدولة، وتستعيد دور لبنان المعطل في المنطقة. أي دور الاستقرار والسلام والعيش المشترك بين المسيحيين والمسلمين، في وقت يجري التذابح بين أبناء المذاهب الواحدة.
ويبدو أن شكوك البطريرك الماروني قد ازدادت خلال الشهرين الماضيين، في أن المحركات الخارجية – أميركية كانت أم إيرانية، فاتيكانية أم سعودية – غير مهتمة بإيجاد حل. والدليل أن مجلس النواب فشل أكثر من ثلاثين مرة في توفير النصاب القانوني لجلسة انتخاب رئيس الجمهورية. وفي كل مرة كان يحضر الى المجلس 37 نائباً، علماً أن النصاب يتطلّب حضور 86 نائباً.
ويرى عدد من نواب الكتل المسيحية، أن الفراغ الذي أحدثه غياب رئيس الجمهورية أثّر في عمل البرلمان وتحوّل حصراً الى هيئة ناخبة للرئيس.
وعلى رغم وجود بعض المحايدين، إلا أن البرلمان اللبناني موزّع بين مجموعتين، هما قوى 14 آذار بزعامة رئيس الحكومة السابق سعد الحريري، وقوى 8 آذار بزعامة «حزب الله» المعتمد في تمويله وتسليحه على إيران.
مع ازدياد حالات التسمّم وارتفاع عدد المصابين بأوجاع المعدة، أصبحت هموم اللبناني محصورة بصون صحته، واتقاء أعراض التلوث الجرثومي الناتج من اختلاط مجاري المياه بأكياس النفايات.
ووفق نتائج الأبحاث العلمية وما نشرته المختبرات، فإن التلوث في لبنان لم يعد وقفاً على مياه المجاري المائية المختلفة، وإنما تعداها ليصل الى المياه الجوفية للآبار… والى المياه المعبأة بزجاجات الشركات المرخصة. لهذا السبب امتلأت المستشفيات بالمصابين بالتيفوئيد وحالات التقيؤ والتهاب الكبد الفيروسي.
على المستوى الأمني، يفاخر اللبنانيون بأن بلادهم سلمت، حتى اليوم، من أخطار الحرب الأهلية التي دمرتها طوال السبعينات والثمانينات.
كما يفاخرون أيضاً بأن «حزب الله» منع اندلاع تلك الحرب مرة ثانية، حفاظاً على دوره الوطني داخل الحدود وخارجها، وصوناً لمبدأ التعايش الذي يشكّل نموذجه مع العماد ميشال عون. وبوحي من هذه الاعتبارات، يرى المواطنون أن «حزب الله» يحارب أعداء نظام بشار الأسد في سورية… ويمتنع عن مقاتلتهم داخل لبنان!
لكنّ عدداً كبيراً من المواطنين لا يقبل بهذه الترضية الزهيدة، وإنما يطالب الحكومة بضرورة حمايته من أمراض البيئة وأكوام النفايات في الشوارع. لأن غياب السياح العرب والأجانب مرتبط بصور الملوثات، وليس بصور الخلافات التي تبثّها شبكات التلفزيون وأعمدة الصحف المحلية!
بعض المحللين يرجع عملية تأخر اختيار رئيس الجمهورية الى أسباب عدة خارجية وداخلية. أما السبب الخارجي فيحدّده «حزب الله» الذي يهمّه حسم الوضع السوري لمصلحة النظام وتفعيل الاتفاق الأميركي مع إيران في أقصر مدة مطلوبة. ومن المؤكد أن اللاعبين الأربعة – أي إيران وسورية الأسد و «حزب الله» والولايات المتحدة – تعتبرهم بعبدا من أكثر القوى تأثيراً في صنع الرئيس المقبل.
بينما يعود سبب تأخير قرارات القوى اللبنانية الناشطة، إلى الارتباك الذي تفرضه أزمة اللاجئين السوريين على مختلف مظاهر الحياة في الوطن الصغير. ولقد استُبدِلت كلمة «النازحين» بكلمة «اللاجئين» بعدما بلغنا غوردن براون، رئيس وزراء «حزب العمال» البريطاني السابق، أن هناك أكثر من مليون ونصف المليون سوري سيبقون في لبنان أكثر من سبع سنوات.
ومعنى هذا أن شغور منصب رئاسة الجمهورية سيعطي حكومة تمام سلام فرصة الاستمرار أطول مدة ممكنة بغرض تدبير شؤون الناس، واجتراح «تشريع الضرورة».
هذا الأسبوع، انفجرت أزمة دولية بين الولايات المتحدة وروسيا من جهة… وبين إيران وروسيا من جهة أخرى. ذلك أن واشنطن اتهمت موسكو بزيادة هجماتها الجوية على خصوم النظام السوري، بعدما فشلت الغارات السابقة في ردعهم وترويعهم. وقد وصفت الصحف الأميركية الورطة العسكرية الروسية بأنها «أفغانستان ثانية»، وأن غرق الرئيس فلاديمير بوتين في أوحال الحرب السورية سيطول أكثر مما توقع.
في حين اتهم وزير المخابرات الإيراني محمود علوي، روسيا بأن تدخلها في سورية يهدّد أمن إيران، وأشار في تصريحه أيضاً الى تزايد تهديدات الإرهابيين ضد بلاده، وأن أمن الجمهورية الإسلامية بات في خطر.
وكان القائد العام للحرس الثوري الإيراني محمد علي جعفري، أكد الأسبوع الماضي، أن روسيا تبحث عن مصالحها فقط من خلال تدخّلها العسكري المباشر في سورية. وأن الجارة الشمالية – أي روسيا – غير سعيدة بالمقاومة الإسلامية (أي بمشاركة «حزب الله» في عملية حماية النظام). وفي تصريح سابق، قال أن مواقف إيران لا تتطابق مع مواقف روسيا في شأن الرئيس بشار الأسد.
والثابت أن طهران فوجئت بحجم التدخل العسكري الروسي، واعتبرته اعترافاً بهزيمتها في سورية. كذلك، اعترضت بقسوة على الطريقة الاستفزازية التي استخدمها بوتين لدعوة بشار الأسد على عجل من دون أن يسمح له بتوكيل شخص آخر أثناء غيابه.
لذلك، اتصل الأسد بطهران طالباً منها مراقبة «قصر الشعب» في غيابه، ملمحاً إلى مخاوفه من حدوث محاولة اغتيال. وبقيت الأجهزة الإيرانية مستنفرة طوال مدة وجوده في موسكو، خصوصاً بعدما بثّ التلفزيون الروسي صورة لقاء الأسد مع بوتين.
اللافت، أن دعوة الأسد جاءت من بوتين كاستدعاء، بحيث أنه لم يكن لديه الوقت الكافي لاختيار وزراء مرافقين أو مراقبين، أو حتى مسجل لمحضر المحادثات.
وكل ما رشح عن ذلك اللقاء الذي شجّع الأسد على السفر خارج دمشق للمرة الأولى منذ انفجار المقاومة الداخلية، هو أن بوتين عرض عليه التفاهم مع منظمات الثوار، ومع شخصيات سورية مقيمة في المنفى. كما عرض عليه عدم الترشّح للرئاسة في الدورة الانتخابية المقبلة، وعدم التنافس مع شخص يساهم هو في اختياره. ويتردّد في موسكو، أن بوتين طلب منه تمضية فترة استجمام مع أسرته في روسيا، بحيث تكتمل الخطة الانتقالية من دون ضغط أو إيحاء. وفي نهاية اللقاء، أبلغه بوتين بقرار التدخل العسكري، وأن الحل السياسي يتم بالتشاور مع الدول المعنية. وقال أن التسوية ستكون تعبيراً عن إرادة الشعب، أي بانتخابات حرة.
وبعد البحث في التفاصيل التي عرضت على وزير الخارجية سيرغي لافروف والناطق باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، خرج الرئيس بشار الأسد من ذلك الاجتماع وهو يعرب عن أمله بدحر الإرهاب والعمل مع سائر الدول لإعادة إعمار ما تهدّم.
ويبدو أن إيران ليست مطمئنة إلى نتائج التدخل الروسي في شؤون حليفتها القديمة، وأن انتقادات كبار المسؤولين في طهران لم تكن أكثر من إنذار وتحذير بهدف إشعار بوتين بأن سقوط سورية في حضنه سينسف مشروع الهلال الشيعي!
سليم نصار * صحيفة الحياة[ads3]