” جيمس بوند ” آخر من ألمانيا الشرقية !

كان هناك قلق بشأن التأثير الذي يمكن أن تتركه أفلام “جيمس بوند” على الشباب في ألمانيا الشرقية. لهذا السبب، استحدث أحد الأستوديوهات السينمائية المملوكة للدولة عميلا سريا لينافس “العميل 007”. يستعرض “توماس روجرز” ثقافة شعبية تحيط بشخصية بطل شارك في الحرب الباردة، على الجانب الآخر من “الستار الحديدي”.

كان المسلسل التلفزيوني “داس أونزشيبار فيزييه” (ويعني درع غير مرئي) مسلسلا ناجحاً في ألمانيا الشرقية في سبعينيات القرن الماضي.

هناك مشهد في حلقة من الحلقات الأخيرة لهذا المسلسل ينسجم بسهولة مع أي من أفلام “جيمس بوند” في هذه الحقبة. يطارد “الكسندر”، وهو عميل وسيم مولع بقمصان بنية اللون ذات أزرار، منظمة تعتزم إجراء اختبار غاز أعصاب له تأثيرات عصبية وعقلية، على مدينة ألمانية.

لا يشك أحد في أن “الكسندر” عميل سري: فهو يعمل أثناء النهار في الدعاية والاعلان، ملتقطاً صوراً لنساء مثيرات يلبسن أحذية مثيرة ذات كعب عال. ولكن عندما تأتيه الأوامر، فإنه يستخدم ذكاءه ومهاراته القتالية ووسامته المتواضعة ليحمي المواطنين الألمان من أي أذى.

في هذه الحلقة، التي تحمل اسم “كينغ كونغ فلو”، تتبّع “الكسندر” وفريق عمله أحد المتآمرين، رجل ذي قبعة بنقوش مربعة وهو يدخل عمارة سكنية في فرانكفورت.

يدخل “الكسندر”، تحت جنح الظلام، الشقة باحثاً عن غاز الأعصاب ويكتشف حقيبة سفر مشبوهة مخبأة في المبرد. وأثناء تفحصه محتوياتها، يفتح الباب ويدخل العميل السري العدو. يدخل الرجلان في صراع، ويطير مسدس في أنحاء الغرفة، لكن “الكسندر” يتفوق في النهاية ويطرح غريمه أرضاً.

الرجل الذي صارع الكسندر وسقط مغشيا عليه ليس نكرة، بل إنه أمريكي يعمل لصالح وكالة المخابرات المركزية الأمريكية. أما “الكسندر” فليس عميلا سريا لدى دولة غربية، بل إنه عضو في البوليس السري لألمانيا الشرقية والمعروف بإسم “شتازي”.

يُعرف عن “شتازي” اليوم أساليبه الوحشية والقاسية في المراقبة من خلال تنصّته على المكالمات الهاتفية وممارسة الابتزاز واعتماده على شبكة ضخمة من المخبرين السريين لغرض قمع المعارضة الموجودة في ألمانيا الشرقية.
جرى تصوير ممارسات هذا الجهاز بشكل لا يُنسى في فيلم “حياة الآخرين”. وهو الفيلم الذي على جائزة أوسكار في عام 2006. تدور قصة الفيلم حول زوجين من برلين يتعرضان للمراقبة من قبل أحد عملاء ’شتازي‘.
عُرض مسلسل “داس أونزشيبار فيزييه” ” على شاشة تلفزيون ألمانيا الشرقية بين أعوام 1973 و 1979. في عالم هذا المسلسل، يظهر عملاء ’شتازي‘ باعتبارهم الأبطال الحقيقيين للحرب الباردة، وأنهم فقط القادرين على إبقاء جمهورية ألمانيا الديمقراطية سالمة آمنة من ائتلاف مشين من الأمريكيين والألمان الغربيين ونازيين متعصبين.

حرب ثقافية

قبل اتحاد ألمانيا الشرقية والغربية، كان المسلسل معروفاً عند الألمان الشرقيين فقط. لكن منذ توحيد شطري البلد، أصبح للمسلسل جمهور من المعجبين من ألمانيا الغربية أيضا. لم يعد الفضل في ذلك إلى براعته فقط، بل إلى أسلوبه في تقديم مرآة سياسية مثيرة تعكس أفلام التجسس الغربية.

في إحدى الحلقات، يتصدى جواسيس “شتازي” لخطط حلف الناتو التي تهدف لإثارة تصعيد عسكري مع جمهورية ألمانيا الديمقراطية. وفي حلقة أخرى، يكشف عملاء “شتازي” النقاب عن برنامج تسليح سري تديره جمهورية جنوب أفريقيا خلال عهد الفصل العنصري بالتعاون مع الولايات المتحدة.

في آخر حلقة من المسلسل، تتصدى شرطة “شتازي لمخطط لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية يحرض على ثورات “وطنية ـ فاشية” في اليونان وتركيا وإيطاليا.

جرى انتاج مسلسل “داس أونزشيبار فيزييه” من جانب أستوديوهات “ديفا” المملوكة للدولة. وكان الهدف، ولو جزئياً، هو مواجهة الشعبية التي حظي بها “بوند” في ألمانيا الشرقية خلال ستينيات القرن الماضي، وأيضاً لمواجهة الخطورة الكامنة في رسالة “بوند” الموجهة للشباب في ألمانيا الشرقية.

رغم أن أفلام “بوند” خففت من معاداة الشيوعية الموجودة في مؤلفات “إيان فليمنغ”، والتي تحولت فيها، على سبيل المثال، منظمة “سميرش” السوفيتية إلى عصابة “سبكتر” الشريرة نوعا ما، فإن تلك الأفلام كانت لا تزال سلاحا ً فعالاً في الحرب الثقافية بين ’الشرق‘ و’الغرب‘.

صوّرت شخصية “بوند” أحد عملاء المخابرات البريطانية الذي يتمتع بنفوذ واسع جدا وله القدرة على فعل أي شيء، فهو شخص ماكر، وفي أغلب الأوقات نراه مسيطراً بشكل محكم على الأحداث العالمية. وكما يقول المؤرخ “دومينيك ساندبرووك” في إحدى مناقشاته، فإن تركيز الأفلام على الأجهزة والأدوات، مثل الأقلام المتفجرة، لم يكن إلا احتفاءً مستترا بالرأسمالية البريطانية ما بعد الحرب العالمية الثانية.

كردّ فعل على ذلك، أنتجت أستديوهات “ديفا” في عام 1963 نوعية من أفلام التجسس عن ألمانيا الشرقية عُرفت بأفلام “كوندزشافتر” أو”الاستطلاع”، وذلك بعد سنتين من بناء “جدار برلين”. أول أفلام “كوندزشافتر” هذه كانت بعنوان “لأجل عينيك فقط”، وأخرجها يانوش فيتسي.

يدور الفيلم حول جاسوس من ألمانيا الشرقية يخترق أجهزة مخابرات ألمانيا الغريية ليمنع غزواً غربياً لجمهورية ألمانيا الديمقراطية. بطل الفيلم، “هانسن” هو شخص مثالي من ألمانيا الشرقية: لا يتناول المشروبات الكحولية، رجل مخلص لزوجته وأسرته ويرفض بشدة أن يرقص أي شكل من أشكال الرقص الغربي المنحط، مثل رقصة “التويست”.

لاقى الفيلم نجاحاً كبيراً، وخاصة بين شباب ألمانيا الشرقية، وشجع المؤسسة لكي تخلق شخصية معادية لـ”بوند” لتُعرض على شاشة التلفزيون الألماني.

لم يحاول مسلسل “داس أونزشيبار فيزييه” جهده لإخفاء مصدر الإلهام لفكرته: وعلى غرار “بوند”، أظهر عرض المقدمة رجلاً وهو يسير في ممر دائري. في وقتنا هذا، تشكل الأغنية الرئيسية للمسلسل أرضية مناسبة لاقامة دعوى قضائية باعتبارها تعدياً على حقوق المؤلف. ولكن على عكس “بوند”، فإن عملاء المخابرات الخارقين في هذا العمل الفني هم أصدقاء للطبقة العاملة (يذهب “الكسندر”، على سبيل المثال، إلى الحانة ليشرب مع ساعي البريد) ويمقتون أضواء الشهرة. ومع أن كلمات مثل “الشيوعية” قلما تذكر، فإن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية “سي اي ايه” ستُعرض باعتبارها منظمة شريرة ومدبرة للمكائد. أما ألمانيا الغربية فيتم تصويرها باعتبارها بلدا سطحيا غارقا في المادية.

في إحدى لقطات “كينغ كونغ فلو”، يوجه أحد أفراد العائلات الثرية في ألمانيا الغربية سؤالاً عرضياً لفرد آخر من العائلة، “كم هي الملايين التي ستحصل عليها اليوم؟”؛ ونشاهد حفلة عيد ميلاد حيث ينغمس الحضور في الملذات والعربدة المفرطة.

وفي لحظة ما أثناء الحفلة، نرى مجموعة من النساء يلبسن بكيني ضيق جدا ذهبي اللون ويرقصن أثناء نزولهن من درجات سلم، ثم يكشفن عن خاتم ماسي. ويرى البعض أن هذه المشاهد لها وقع مزدوج على المشاهد الألماني الشرقي، من الإثارة وبث الرعب في نفوسهم.

استند مسلسل “داس أونزشيبار فيزييه” على سلسلة من مؤلفات “هيربرت شاور” و “أوتّو بونهوف”، وكلاهما من الكتاب الألمان الشرقيين. أما المسلسل، وفقا لمعايير ألمانيا الشرقية، فقد حظي بشعبية هائلة. تابع ربع المسلسل الذي يتألف من 16 حلقة نصف جمهور مشاهدي التلفزيون على الأقل في جمهورة ألمانيا الديمقراطية. ووصلت نسبة مشاهدي إحدى الحلقات بعنوان “قلعة المياه”، إلى 60 في المئة تقريباً.

أساليب الدعاية

أحد الأمور المثيرة للدهشة عن المسلسل، بالنظر إلى أنها أُنتجت بشكل رئيسي لأسباب دعائية، هو أنه في الحقيقة مسلسل رائع جدا. الشخصية الرئيسية في الحلقات العشر الأولى هو عميل سري ومنشق أثناء الحرب العالمية الثانية واسمه “بريديبوش”.

يؤدي الممثل الألماني الشرقي “آرمين موللر-شتاهل” الدور بشكل مميز. إنه شخص ذو ذقن بارزة، واشتهر لاحقاً بأدوار في أفلام هوليوود مثل فيلمي “التألق” (شاين) و “صانع السلام”. صورت أغلب المشاهد بشكل رائع، وتضمنت لقطات تتبّع مذهلة مثل تصوير حركة قطار “بريديبوش” العائد من الاتحاد السوفيتي، بالإضافة إلى تصوير مثير للدهشة لألمانيا المصابة بصدمة ما بعد الحرب.

ولكن كما هو متوقع من أي عمل فني يظهر فيه عملاء “شتازي” وهم ينقذون العالم، فمن الطبيعي أن يكوننأ مسلسل “داس أونزشيبار فيزييه” مثيراً للسخرية في أحيان كثيرة. في الحلقة الافتتاحية، يُكلَّف بريديبوش بمهمة اختراق شبكة سرية من نازيين يخططون لانقلاب من الأرجنتين. وأثناء تنفيذه لهذه المهمة، يدبر بريديبوش خطة معقدة للغاية.

تتضمن الخطة تبادل الهويات وإغواء ضابطة سابقة في جهاز مخابرات النازيين. كما يكتشف أيضاً ديراً ايطالياً يهرب سرا مجرمي الحرب النازيين إلى أمريكا الجنوبية (وهي محاولة غير بارعة من قبل مسؤولي الدعاية في ألمانيا الشرقية للخلط بين الكنيسة الكاثوليكية والحركة النازية).

وعندما يصل إلى الأرجنتين، نراه يرقص بحماس في أحد النوادي مع إمرأة من السكان المحليين. الأمر الصارخ هنا هو أن من يقوم بالدور ممثلة ألمانية تضع مكياج لبشرة سوداء بشكل غير متساوٍ. وفي حلقة أخرى، يتسلق أحد عملاء المخابرات الأمريكية “سي اي ايه” قلعة ألمانية مرتدية بذة كاملة على غرار بذات المحاربين اليابانيين القدماء، “النينجا”.

طوال فترة وجودها التي امتدت لأربعين عما، أنتجت أستديوهات “ديفا” أعمالا أكثر بكثير من أفلام التجسس السينمائية والأعمال الفنية التلفزيونية، إذ أنها أنتجت عددا من الأفلام التي لاقت إعجابا كبيرا من الجمهور، من بينها فيلم “القتلة هم بيننا”، وهو أول فيلم ألماني يُنتج بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، ومحاولة مبكرة للتعامل مع الشعور الألماني بالذنب في زمن الحرب.

في عام 1974، كان “جاكوب الكذاب” الفيلم الوحيد من ألمانيا الشرقية الذي رُشح لجائزة الأوسكار. لكنه يصعب تماماً فصل أعمالهم الفنية عن النظام الوحشي الذي كان يجب عليهم دعمه.

يصبح التناقض واضحاً بين واقع جمهورية ألمانيا الديمقراطية وخيال مسلسل “داس أونزشيبار فيزييه”، عندما يؤخذ في الحسبان تغيير طاقم الممثلين في المسلسل. عندما اعترض “آرمين موللر-شتاهل” على المحتوى السياسي الوارد في بعض حلقات المسلسل، جرى استبعاده من فريق الممثلين، وسُجِّل إسمه لاحقاً في القائمة السوداء. وفي النهاية، فرّ إلى “الغرب” عام 1980.

وعلى نفس الشاكلة، أطيح بالممثل “غونتر شوز”، الذي خلف آرمين في أداء دوره في المسلسل من طاقم العمل. وقال إن أحد الأسباب هو أن بعض مشاهد المسلسل، وخاصة في حلقة “كينغ كونغ فلو”، كانت تحتوي على مبالغات يصعب تصديقها.

توماس روجرز – بي بي سي[ads3]

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي عكس السير وإنما عن رأي أصحابها