الجرحى السوريون يدفعون ضريبة مرتفعة
يعيش في مناطق شمالي الأردن، القريب الحدود السورية، آلاف اللاجئين السوريين بعد رحلة ألم متواصل، تشابهت مراحلها رغم اختلاف نهاياتها، ويستذكرون تاريخاً زاهرًا لبلادهم وحاضراً أشبه بساحة حرب بلغت ذروتها.
الحرب دمرت أحلام وأمنيات شبان وسيدات وأطفال وشيوخ، ووضعتهم بين خيارين اثنين، كلاهما أشد وطأة من الآخر، فإما البقاء في منازلهم بانتظار برميل متفجر يقطع أجسادهم ويقتل أطفالهم دون رحمة، أو الموت برصاصة غاشمة مجهولة المصدر من القوى المتصارعة.
الأردن كانت واحدة من الدول الرئيسة التي استقبلت أكثر من مليون سوري، منذ بدء الحرب، الذين أجبروا قسراً على مغادرة منازلهم خوفاً على أرواح عائلاتهم، ومنهم من وصل الجانب الأردني من الحدود وقد حمل على جسده شكل الحرب الدائرة بإعاقة أو إصابة أو تشوهات.
محمد خالد، شاب سوري في العقد الثالث من عمره، لم تمنعه الهجمات التي نفذها النظام السوري على درعا مسقط رأسه، من الانضمام إلى أبناء بلده من الوقوف في وجه الظلم، والمطالبة بالحرية التي دفع ضريبتها، حاله كحال غيره.
يروي محمد قصته للأناضول، بينما عيون والديه تناظره بحسرة شديدة على ما حل به، “في السادس من شهر سبتمبر/أيلول 2012، وأثناء اختبائي في إحدى البنايات عن عيون قوات النظام التي أدرجت اسمي على قائمة المطلوبين، لمشاركتي في مظاهرات درعا، قامت قوة أمنية بإجراء كمين لجميع الموجودين”.
ويمضي محمد “ما كان مني إلا أن قمت بالقفز من الطابق الثالث للبناية مفضلاً الموت على الوقوع بأيدي قوات النظام، ولكن ما حل بي لم يشفع لي أيضاً، فقام أحد الجنود بإطلاق رصاصة علي أصابتني في الفقرة الثانية عشرة بظهري”.
“على الرغم من شدة إصابتي، قام الجنود باعتقالي وأنا غير قادر على الحراك (…)، وبعد أن أدخلوني المستشفى العسكري وأسعفوني حتى يتمكنوا من استجوابي، أطلقوا سراحي عندما تيقنوا أنني لم أعد قادراً على المشي (…)، وكما ترى هذا هو حالي، مشلول”.
ورغم محاولته تناسي حالته الصحية السيئة، واستمراره بترديد عبارة “إن شاء الله رح ننتصر”، أشار محمد إلى أن همه الأكبر أن يرى شقيقه الذي اعتقله الجيش السوري قبل أربع سنوات بتهمة التمويل والتحريض على الإرهاب، وكان يبلغ من العمر آنذاك 15 عاماً، على حد قوله.
زهور محمد الزعبي (32 عاماً)، حاولت جاهدةً ألا تترك منزلها في منطقة “اليادودة” التابعة لمحافظة درعا، ولازمته برفقة زوجها وأطفالها الأربعة حتى آخر أسبوع من شهر شباط/فبراير من العام الماضي.
ولم تعلم زهور أن القدر يخفي لها ألماً وجرحاً عميقاً سيعيش معها طيلة عمرها، وكأي أم أخرى زادت لوعتها واشتياقها لبكرها محمد ذي الثماني أعوام، الذي مضى على غيابه سبعة شهور في بيت جده بالأردن، وطلبت من والدها إرساله إلى سوريا كي تراه.
وبكلماتها المتلعثمة التي كان يطغى شرود الذهن على نطقها، تسرد زهور للأناضول تفاصيل فاجعتها، قائلة: “أنه في الثاني والعشرين من شهر شباط/ فبراير، الماضي وصل محمد إلى درعا، ولم تدم فرحتي بقدومه من الأردن كثيراً، لأنه وبعد ثلاثة أيام وأثناء لعبه بساحة البيت سقط علينا برميل متفجر، وتطايرت شظاياه في أرجاء المكان، استقرت إحداها في صدر محمد والأخرى في قدمه اليسرى”.
وتمضي الزعبي في حديثها وعيونها مليئة بالدموع “كانت الشظية ومن شدة سخونتها تذيب قدم طفلي، بينما أقف عاجزة عن فعل أي شيء لإنقاذه، والنتيجة طفل في مقتبل عمره مبتور القدم”.
جرح واحد وإن تشابهت الأسماء واختلفت التفاصيل، إذ لا يختلف محمد “الثالث” عن سابقيه، يبلغ من العمر تسعة عشر عاماً، يعيش مع والديه وأشقائه الستة، ينظرون اليه بحرقة، لكنهم في الوقت ذاته يحمدون الله ليلاً ونهاراً على عودته.
“أنا إنسان مسالم”، هذا ما بدأ به قاسم خابوري (47 عاماً) والد محمد في حديثه للأناضول، قائلاً “في الأول من تشرين أول/أكتوبر 2013، غادر ولدي محمد إلى مدرسته لتقديم اختبار في مادة العلوم، وبعد خروجه بنصف ساعة جرى إطلاق نار في المنطقة، وذهبت لأستطلع الأمر فأخبرني أحدهم بأن محمد أصيب في رأسه وأسعفه مجموعة من الشبان إلى القنيطرة”.
ويضيف خابوري “لم أتمكن من اللحاق بهم من كثافة إطلاق النار، ولكنني فقدت الأمل بنجاة ابني عندما عرفت أن اصابته في رأسه، واحتسبته عند الله كغيره من السوريين الذين استشهدوا”.
وتابع، “بعد مضي ثلاثة أشهر نشرت مجموعة من الأشخاص صورته للتعرف عليه، وبسبب تغيير ملامح وجهه لم أستطع أنا وزوجتي معرفته، لكن أحد زملائه في المدرسة أكد لنا بأنه ولدي محمد، وعاد لنا بحالة تدمي القلب، شلل نصفي ناجم عن تكسر في عظام الجمجمة، فضلاً عن نوبات اختلاج عصبي تصيبه بين فترة وأخرى”.
ومنذ منتصف مارس/آذار (2011)، تطالب المعارضة السورية بإنهاء أكثر من (44) عاماً من حكم عائلة الأسد، وإقامة دولة ديمقراطية يتم فيها تداول السلطة، غير أن النظام السوري اعتمد الخيار العسكري لوقف الاحتجاجات، ودفع سوريا إلى دوامة من العنف، جسّدتها معارك دموية بين القوات النظام والمعارضة، لا تزال مستمرة حتى اليوم وسقط خلالها آلاف القتلى، بحسب إحصائيات أممية”.
ووفق إحصائيات رسمية، يوجد في الأردن 1.4 مليون سوري، منهم 750 ألفاً، دخلوا البلاد قبل بدء الصراع في سوريا، بحكم القرب الجغرافي والديمغرافي، فيما سجل البقية كلاجئين.
ويزيد طول الحدود الأردنية مع جارتها الشمالية سوريا عن 375 كم، يتخللها العشرات من المنافد غير الشرعية، التي ما تزال معابر للاجئين السوريين، الذين يقصدون أراضيه نتيجة الحرب المستعرة التي تشهدها سوريا قبل نحو أربع سنوات. (Anadolu)[ads3]