فورين بوليسي : ” سوريون ينقذون الألمان ” .. أكثر من 1500 طبيب سوري يعملون في ألمانيا

ليس اللاجئون السوريون بحاجة إلى ألمانيا فقط، ولكن ألمانيا أيضاً بحاجة للاجئين السوريين، فجزء الثورة البشرية السورية الذي جرفته الحرب من وطنه بات محلّ ترحيب من قوى متعددة متباينة؛ ألمانيا الاتحادية وتنظيم داعش الذي يسعى إلى اجتثاث مظاهر الحداثة.

ولكن ماهي الثورة البشرية التي يتنافس عليها الألمان مع الدولة الإسلامية؟!

يجلس الطبيب أبو محمد مرتدياً نظارته على مكتب بغرفة مستطيلة تمتلئ بالملاحظات المكتوبة بخط اليد، يرتدي أبو محمد، البالغ من العمر ثلاثين عاماً، قميصاً وسروالاً من الجينز وحذاءً رياضياً. ولا يمكن رؤية أي معطف أبيض وهو يباشر الكشف على مريض يجلس أمامه.

ويبدأ الطبيب تقييمه بأسئلة أساسية: بم يشعر المريض وكيف يمكنه وصف آلامه؟ ويشتكي الشاب، قائلاً “لدي حمى وصداع”.

يسأل أبو محمد بألمانيّة أنيقة لا تخلو من رطانة “منذ متى تظهر عليك هذه الأعراض؟” ويجيب الشاب قائلاً أنه يعاني منذ أيام عديدة، ثم يخضع المريض لعملية الفحص الطبي.

على مدار ثلاث ساعات في صباح أحد أيام شهر نوفمبر/ تشرين الثاني بوسط ألمانيا، يطرح أبو محمد جراح العظام أسئلة تشخيصية على مجموعة من المرضى، وجميعهم مهاجرون يلتحقون بفصول اللغة الطبية التخصصية.

وحينما يتوقف أبو محمد عن الحديث، سواء بصفته طبيباً أو مريضاً، يقلب في أحد الكتب وبعض الأوراق التي يحتفظ بها داخل ملف. تذكره الصورة الموجودة على سطح الملف اللامع بابنه البالغ من العمر تسعة شهور والذي يعيش على مسافة تتجاوز ألفي ميل.

يقول أبو محمد “ابني يكبر بعيداً عني ولن أحظى بمولود أول مرة أخرى. هذا يؤلمني”.

تناقصٌ هائل في أعداد الأطباء في سوريا

أبو محمد طبيب من سوريا وقد فرّ من وطنه على غرار العديد من الأطباء في بلاده التي مزقتها الحرب سعياً وراء العمل والأمان بالخارج. (ولحماية أسرته، طلب عدم استخدام اسمه الحقيقي وعدم تحديد مكانه في ألمانيا أو مسقط رأسه في سوريا).

قبل اندلاع الحرب، كان هناك 31 ألف طبيب في سوريا، وفقاً لتقديرات وزارة الصحة السورية. وتشير تقديرات منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان حالياً إلى فرار نحو نصف هؤلاء الأطباء من البلاد؛ كما تم اعتقال أو قتل مئات آخرين من الفرق الطبية. وبينما تظل الأغلبية العظمى من اللاجئين السوريين البالغ عددهم 4.5 مليون لاجئ في منطقة الشرق الأوسط، ترفض العديد من بلدان المنطقة ممارسة الأطباء النازحين لمهنة الطب. ويعد الحصول على تصريح للعيش وممارسة المهنة في الولايات المتحدة وبريطانيا وغيرها من البلدان الغربية صعباً للغاية وقد يستغرق شهوراً، بل وسنوات.

لماذا ترحّب بهم ألمانيا؟

وتعتبر ألمانيا مختلفة، حيث ترحّب بالأطباء السوريين مثل أبي محمد من خلال منحهم تأشيرات دخول قصيرة الأجل تسمح لهم بتجنب إجراءات اللجوء المضنية. (في عام 2015، دخل نحو 430 ألف سوري من طالبي اللجوء السياسي إلى ألمانيا).

ووفقاً لتقديرات الجمعية الطبية الألمانية، يعمل نحو 1500 طبيب سوري حالياً في ألمانيا، من بينهم 319 تم تسجيلهم خلال عام 2014.

وتقول ماريا ميشوك، عضوة البرلمان التي تترأس اللجنة الصحية بالبرلمان “حينما يفر الأطباء السوريون بسبب المخاطر التي تهدد حياتهم أو جراء النزاع المسلح بصفة عامة، فمن الصائب أن نمنحهم اللجوء إلى ألمانيا وأن ندمج مهاراتهم الطبية”.

ومع ذلك، فإن منح السوريين حق اللجوء ليس مجرد لفتة إنسانية؛ فألمانيا تحتاج إلى أطباء. إذ يعتزم واحدٌ من بين كل سبعة أطباء اعتزال العمل خلال السنوات الخمس القادمة. ويغادر آلاف الممارسين البلاد سنوياً للعمل بالخارج.

ووفقاً لتقديرات مستشار شركة البحوث الاستشارية الدولية، رونالد بيرجر، سوف تحتاج ألمانيا إلى 111 ألف طبيب لخدمة مواطنيها بحلول عام 2030.

ولسد الثغرات في المجال الطبي، تستعين ألمانيا بأطباء أجانب منذ سنوات عديدة من العديد من عواصم أوروبا الشرقية – بوخارست وصوفيا وأثينا – حيث يريد الشباب الأطباء الفرار من الأزمات الاقتصادية. وقد ازداد عدد الأطباء الأجانب بالبلاد بين عامي 2010 و2014 بنسبة 60 بالمائة. وبينما تساهم رومانيا بأكبر عدد من الأطباء في ألمانيا، فإن أعداد الأطباء السوريين الفارين من جحيم الحرب لا تقل كثيراً عن هؤلاء.

وتتمثل المأساة في الفراغ الذي يخلفه هؤلاء وراءهم. فيقول كارل بلانشيت، المحاضر في بحوث النظم الصحية بمدرسة لندن للصحة العامة وطب المناطق الاستوائية: “حينما يتعلق الأمر بمستقبل الرعاية الصحية في سوريا ، فلابد أن نتوقع ما هو أسوأ. هناك الكثير من المستشفيات المدمرة في سوريا. ولا يريد أي طبيب أن يعمل بمستشفى لا يستطيع أن ينقذ حياة المرضى فيها”.

أما الطبيب السوري أبو محمد فيقول وهو يتناول الطعام في مطعم ماكدونالدز عقب انتهاء محاضرته “نحن الأطباء لم نختر ألمانيا. بل ألمانيا هي التي اختارتنا”.

فيما مضى كان نظام الرعاية الصحية السوري مفخرة الشرق الأوسط بمشافيه الحكومية وشبكة عياداته الخاصة، حيث استثمرت الدولة السورية طوال النصف الثاني من القرن العشرين كثيراً جداً في قطاع الصحة العام، فارتفع متوسط عمر الفرد من 56 عاماً سنة 1970 إلى 73.1 عاماً سنة 2009 حسب وزارة الصحة السورية، فيما انخفضت نسبة وفيات حديثي الولادة من 132 وليداً لكل ألف إلى ما لا يتعدى 17.9.

وبحلول عام 2010 كان 83% من الأطفال يتلقّون لقاح شلل الأطفال، مقارنة بـ13% من الأطفال فقط قبل 30 عاماً.

يقول الأستاذ فؤاد م. فؤاد الطبيب الجراح من حلب والذي يعيش في لبنان الآن “كان النظام يعمل بشكل جيد إلى أبعد مدى، حيث كان المواطن العادي يحصل على علاج للسرطان والأمراض القلبية، وحتى البلدات الصغيرة كانت بها عيادات عناية أولية.”

أما أبو محمد والذي تشتمل عائلته الممتدة على عدة أطباء فلطالما عرف منذ صغره أنه سيعمل يوماً ما في مجال الطب، غير أنه للأسف عندما كان ينهي تدريبه في الطب العظمي عام 2011 اندلعت الحرب السورية لتقضي بذلك على أحلامه وعلى كل إنجازات سوريا في ميدان الطب.

تدهور الوضع بعد الثورة

في البدء لم يحفل أبو محمد كثيراً بالاحتجاجات التي عمت شوارع البلاد ولم يأبه أو يقلق لأنه كان قد شاهد على التلفاز سقوط الأنظمة الدكتاتورية في تونس ومصر، فافترض أن دور الرئيس السوري بشار الأسد لا بد سيحين. ويستذكر أبو محمد قائلاً “مرت 6 أشهر من التظاهرات السلمية في الشوارع التي نزل إليها شباب صففوا شعرهم بالجيل مرتدين أبهى قمصانهم وأكثرها أناقة”.

لكن الأمور اتخذت منعطفاً سيئاً حين فتحت الشرطة النار على المتظاهرين، ولم تلبث المراكز الطبية أن أضحت هي الأخرى مستهدفة في تلك الحرب الشعواء. ويروي لنا أبو محمد كيف أن جنود النظام دخلوا المستشفى الذي كان يعمل به ذات يوم “وقالوا لنا أنتم تعالجون الثوار! ثم أمرونا بالخروج ونصبوا مدافع الهاون على سطح المستشفى.”

تخضع جميع المشافي والأطباء لاتفاقيات ومواثيق جنيف التي تؤمن لهم الحماية، لكن أطراف النزاع السوري تجاهلت كل هذه الأعراف بشكل سافر.

وتقول منظمة أطباء حقوق الإنسان أن قوات النظام بالذات تستخدم الاعتداء على مرافق الرعاية الصحية كسلاح في الحرب، إذ يقول ويدني براون، مدير برامج منظمة أطباء حقوق الإنسان “عندما يقتل طبيب، تكون الخسارة أكثر من حياة شخص واحد، بل تشمل كذلك حياة الأشخاص الذين كان بإمكانه أنقاذهم.”

وطبقاً للأرقام التي جمعتها هذه المنظمة غير الحكومية فقد بلغت حصيلة الاعتداءات على المشافي منذ بدء الحرب وحتى أواسط يناير/كانون الثاني 2016 حوالي 336 اعتداءً سقط فيها 697 من العاملين في مجال الرعاية الصحية من أطباء وممرضين ومسعفين ضحايا.

والعام الماضي كتب فريق من 3 محققين في مجلة New England Journal of Medicine الدورية المتخصصة بأخبار الطب والأطباء “لقيت بعض الطواقم حتفها في غارات على مستشفياتهم وعياداتهم، فيما قضى البعض بعد الإصابة بأعيرة نارية، كما أعدم أو عذب حتى الموت ما لا يقل عن 157 طبيباً”.

وفي مدينة حلب بالذات توقف ثلثا مشافي المدينة عن العمل فيما اختفى 95% من أطبائها.

طبيب في غرفة التعذيب

رافق الحظ أبا محمد لعدة أعوام، فقد تطوع للعمل في المستشفيات والعيادات الميدانية التي تعالج المقاتلين الثوار، حيث ارتجل إسعافات لإصابات البطن وتهشم العظام وغيرها من الجروح معتمداً على موارد شحيحة.

كان عملاً محفوفاً بالمخاطر، فبسبب انقطاع المواصلات كان أبو محمد يضطر للتنقل على قدميه حاملاً أحماله الثقيلة من سوائل وريدية ومعدت جراحية. وكان نقل المعدات يتم أحياناً عبر شبكة مجاري المدينة، فيما طفق مسؤولو الحكومة يذيقون المقاتلين الأسرى الذين وقعوا في أيديهم ألوان العذاب ليعترفوا بأسماء الأطباء الذين عالجوهم.

ثم ذات نهار في مطلع عام 2014 جرى توقيف واحتجاز أبي محمد عند نقطة تفتيش للنظام، حيث سيق إلى مركز شرطة وزج به في زنزانة النظارة المزدحمة، ومكث هناك أسبوعين يخضع للتحقيق. عمد الضباط إلى وصل يديه بقطبين كهربيين وتهديده بصعقه إن لم يعترف ويقر بمساعدة الثوار، لكن حظه لم يفارقه إذ تمكن من إقناع سجانيه أنه بريء، فأفرج عنه مع تحذير بعدم معالجة أي مقاتلين مناهضين للحكومة.

أيقن أبو محمد أن عيون النظام ستتبعه أينما سار وتقتفيه وترقبه أينما حل، ولذا عزم على شد الرحال والفرار. استأجر سائقاً خبيراً بنقاط التفتيش التي يقبل ضباطها الرشاوى، وانطلق نحو إحدى دول الجوار (وطلب منا عدم ذكر اسم ذلك البلد حفاظاً على حياة من يسلكون ذاك الطريق).

عبرت سيارته الحدود، لكن أبا محمد ظل على حذره. “خشيت أن يبلغ السائق عني السلطات، ولذلك لم أجرؤ على الإقامة في الفندق الذي اقترحه عليّ، وهكذا دفعني الخوف إلى قضاء الليلة الأولى نائماً وأنا جالس”.

بعدها أرسل أبو محمد في طلب زوجته الطبيبة كذلك، وبدأ الاثنان رحلة البحث عن عمل. غير أنهما فوجئا أن درجتيهما الطبيتين لا تؤهلانهما للحصول على تأشيرة عمل، فعزم الزوجان اللذان بشرا بحمل أول مولود لهما حينها على أن يذهب أبو محمد إلى تركيا لتأمين عمل، حيث أنهما سمعا بالتساهل الكبير مع ممارسة الأطباء السوريين لعملهم وحرفتهم في تركيا، أما الزوجة فقررا أن عليها العودة إلى عائلتها في سوريا ريثما تضع مولودهما الأول.

في إسطنبول عمل أبو محمد نفسه مع منظمة غير حكومية توفر الرعاية الطبية للاجئين، لكن وردته أخبارٌ بأن الحكومة التركية لن تمنح أطباء اللاجئين أي تراخيص عمل، وهنا بدأ أبو محمد البحث من جديد لكن في أماكن أبعد هذه المرة (جديرٌ بالذكر أن الحكومة التركية عدلت قوانينها في يناير/كانون الثاني من العام الجاري لتسمح للاجئين السوريين، ومن ضمنهم الأطباء، بالعمل فيها).

كان أبو محمد متحدثاً جيداً باللغة الإنكليزية حيث سبق وأنهى دورة تدريبية في أحد مستشفيات ولاية إيلينوي الأميركية، فيمم أنظاره نحو الولايات المتحدة علها ترحب به، لكنه اكتشف أنه ما من سبيل للتقدم بطلب فيزا أميركية، ناهيك عن الحصول عليها، مالم يأتِه عرض عمل رسمي منها، كما أفاد ويليام كوكس المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية بأن المتقدم بطلب فيزا ينبغي أن يكون إما خريج كلية طبية معترف بها من قبل وزارة التعليم الأميركية، أو أن يكون قد أتمّ المرحلتين الأوليين من امتحان الترخيص الطبي الأميركي بالإضافة إلى إتقان اللغة الإنكليزية لكي يسمح له بمزاولة الطب في الولايات المتحدة.

صرف أبو محمد النظر عن أميركا ليتجه بتطلعاته نحو بريطانيا، غير أن متاهة المتطلبات البريطانية دوخته من كثرتها ما بين اجتياز امتحانات وتحصيل شهادات لكي يتسنى له مجرد الحصول على تأشيرة دخول.

ألمانيا هي الحل

عيل صبر أبي محمد وضاقت الأرض به إذ كان يعيش في نزلٍ فندقي بعيداً عن عائلته،وكاد ييئس لولا أن هاتَـفَه من ألمانيا صديقٌ جراح من بلدته كان هو الآخر يعالج الثوار قبل أن يهرب من سوريا لاحقاً.

لم يطلعنا على اسم صديقه لاعتبارات أمنية، لكن أبا محمد قال “لقد أخبرني صديقي أنه تمكن من الحصول على فيزا وعلى وظيفة تدريبية بل وحتى على عرض عمل، وقال لي أن علي القدوم إلى ألمانيا.”

أطباء سوريون كثر في تركيا أكدوا لأبي محمد أنهم سمعوا الكلام نفسه، ولذلك أجمعوا على تجربة حظهم مع الفيزا الألمانية.

لم يكن أبو محمد يعرف عن ألمانيا حينها سوى المرسيدس والبي إم دبليو وبايرن ميونيخ والحربين العالميتين الأولى والثانية وجدار برلين، لا بل حتى أنه قال لي مضيفاً “حتى أنني لم أكن أعرف سبب سقوط ذاك الجدار الشهير.” طوال حياته، لم يحلم أبو محمد أن يؤسس لنفسه حياة خارج حدود الشرق الأوسط، بيد أنه عزم على التوجه إلى السفارة الألمانية في أنقرة فبراير/شباط 2015 مدججاً بكل مؤهلاته وشهاداته الطبية، وكم كانت فرحته عظيمة حين علم أن تلك الشهادات كانت كل ما يكفيه.

أزمة قطاع الصحة في ألمانيا

لوهلة، بدا كل شيء بخير في نظام الرعاية الصحية الألمانية. ففي عام 2013 كانت نسبة الأطباء إلى سكان ألمانيا حوالي 4،1 طبيباً لكل 1000 مواطن، وهي خامس أعلى نسبة بين دول منظمة التعاون الاقتصادي. ثم ارتفع عدد الأطباء في السنة التالية بنسبة 2،3 %. لكن تلك الأرقام تخفي خلفها تباينات شديدة واتجاهات مثيرة للقلق.

نسبة الكبار في السن ترتفع بسرعة في ألمانيا: فأكثر من 20% من سكان ألمانيا يبلغون من العمر 65 عاماً أو أكثر، فضلاً عن أن البلد الأوروبي يسجل أعلى نسبة للسكان متوسطي العمر (46،5 عاماً) على مستوى العالم. تتطلب الزيادة في أعداد المواطنين كبار السن توفير المزيد من الرعاية الصحية. بيد أن كثيراً من الأطباء سيتقاعدون قريباً، حوالي 51 ألف طبيب سيتقاعدون بحلول عام 2021، كما يتضاءل عدد الأطباء الشباب. ففي عام 1993، كانت أعمار ما يقرب من 27% من الأطباء أصغر من 35 عاماً. أما اليوم، فإن هذه النسبة تدنت لتصل إلى 18،3%. في الوقت ذاته، يهاجر ما يقرب من 3000 طبيب كل عام بهدف الحصول على فرصة عمل بالخارج.

وبالنسبة للعدد الذي يمكث بألمانيا، فإن كثيراً منهم ينجذب نحو المدن التي توفر مرافق طبية أفضل ورواتب أعلى، بالإضافة إلى المميزات الأخرى التي لا توفرها المدن الصغيرة. وفي السياق ذاته أوضح تقرير لعام 2015 أن ثلاث مدن رئيسية في ألمانيا أو ما يسمى ب “المدن الولايات”، وهي برلين وهامبورغ وبريمن، لا تعاني من نقص في أعداد الأطباء. في المقابل تعاني بلدات أخرى من هذه المشكلة، مثل بلدة “زونهبرغ” التي تبعد 60 ميلاً عن الحدود الألمانية التشيكية ويعيش فيها حوالي 24 ألف مواطن. وقالت كريستينا زيتزمن، مديرة الهيئة المحلية لمدينة زونهزبرغ “لم أترك جُبّاً دون أن أفتش فيه أو باباً دون أن أطرقه من أجل جلب أطباء إلى هنا”.

وتضيف “أخبرهم بأن موقعنا رائع، وشبكة مواصلاتنا مدهشة، ولدينا فرصٌ ممتازة لبناء منازل”. لكن رغم كل تلك الجهود، لا يزال لدى المستشفيات 14 وظيفة شاغرة، وقد مرت أكثر من ستة أشهر على الإعلان عن هذه الشواغر دون أن يتقدم لها أحد.

وما يزيد الأمر سوءاً أن بعض الأطباء يعملون عدد ساعات أقل: ففي عام 2011 ارتفع عدد الأطباء الذين يعملون بدوام جزئي ليصل إلى 54 ألف طبيب بعد أن كان هذا العدد 31 ألف طبيب فقط قبل عقد من الزمن. ويرجع السبب في هذا الأمر إلى نسبة غير هينة من الطبيبات اللائي يقللن عدد ساعات العمل من أجل رعاية عائلاتهن.

وتعتبر وظيفة الطبيب العام على وجه التحديد من التخصصات التي تواجه مخاطر ندرة وجودها، حيث إنها لا تحظى بنفس الاحترام الذي يحظى به العاملون بالتخصصات الأخرى مثل استشاري الأعصاب مثلاً.

ووفقاً لما ذكرته صحيفة “دي فيلت” الألمانية فإن حوالي 11% من طلاب الطب يطمحون إلى التخصص في فرع الطب العام، بينما يعمل 40% من الأطباء في هذا التخصص حالياً. (بدأ الائتلاف الحاكم بألمانيا في تبني خطة تعمل بدورها على توجيه مدارس الطب نحو الممارسة الفعلية بصورة أكبر بغرض زيادة تدريس فرع الطب العام بحلول 2020).

واتخذت الجمعية الطبية الألمانية (BÄK) وكذلك جمعية “ماربورجر بوند” خطوات خوفاً من تفاقم الأمر، حيث طالبت الجمعيتان الحكومة الألمانية المسئولة عن تمويل مدارس الطب وتحديد عدد الطلاب بتلك المدارس، بأن تزيد من تسجيل عدد دارسي الطب بنسبة 10% على الأقل. ويقدر عدد الطلاب الذين ينضمون إلى مدارس الطب في ألمانيا بحوالي 10600 طالب كل عام، وهو نفس العدد الذي كان يسجل في هذه الكلية بألمانيا الغربية قبل الوحدة.

الأجانب هم الحل الأمثل

ونجح المسؤولون في تجاوز الأزمة من خلال جذب العقول الأجنبية. واليوم يعمل في ألمانيا حوالي 4000 طبيب روماني، و3000 طبيب يوناني، و2700 طبيب نمساوي، و2000 طبيب بولندي. (الدولة تعترف بالشهادات الطبية المحصَّلة من جامعات بلدان الاتحاد الأوروبي). وكثير من المستشفيات تلجأ إلى وكلاء التوظيف والمعارض التجارية الأجنبية من أجل شغل الوظائف الشاغرة لديها.

ففي ولاية “سكسونيا”، بدأ الاتحاد المحلي للأطباء بالولاية مشروعاً لتدريب عشرين طبيباً كل عام بجامعة “بيتش” المجرية، حيث يمنح البرنامج مصروفات الدراسة للطلاب المشاركين في مقابل تعهّدٍ منهم بالعمل لمدة خمسة أعوام على الأقل في مجال الطب العام بالمناطق الريفية لولاية سكسونيا.

وبالنسبة للسوريين، يظهر الحماس الألماني لاستقبال الأطباء من خلال التقليل النسبي للعراقيل التي قد تواجههم عند دخول البلاد. فقد انتظر أبو محمد ثلاثين يوماً من أجل الحصول على تأشيرة سياحة بجواز سفره، والتي يمكن أن تُستبدل بتأشيرة طالب فور الوصول. وفي مارس 2015، سافر أبو محمد بالطائرة إلى فرانكفورت.

وبينما، صرح أحد مسئولي الخارجية الألمانية بأن الأطباء السوريين لا يحصلون على معاملة مختلفة فيما يتعلق بعملية الهجرة. إلا أن بعض الأطباء الآخرين قالوا أن تجربتهم كانت مشابهة لما حدث مع أبي محمد.

تبلغ “أريج ملهم” الخامسة والعشرين من العمر، وقد حصلت الطبيبة الدمشقية المفعمة بالحيوية على تأشيرة دخولها من سفارة ألمانيا ببيروت. وصلت أريج مدينة “لايبزيغ” بولاية ساكسونيا في مارس 2015، واستكملت دورتها لتعلم الألمانية بنهاية العام. وتصر ملهم الآن على التحدث بالألمانية وهي تتقنها بمهارة. تقول الطبيبة الشابة “لقد أعطتنا ألمانيا الفرصة نحن الأطباء للوصول إلى أراضيها دون الحاجة إلى ركوب القوارب”.

في الوقت الحالي، تأخذ مجموعة من شبكات الدعم بالتشكل. كان مصعب الشقاقي وهو صديق قديم لأبي محمد، يدرس الدكتوراه، فضلاً عن درجته الطبية، في ولاية “سارلاند” الألمانية عندما اندلعت الحرب بسوريا. وبعد أن أنهى دراسته وفترة التدريب التي تلتها، عمل الشقاقي جراحاً للقلب في أحد مستشفيات مدينة “كايزرسلاوترن”. وهو الآن يرى في نفسه مرشداً غير رسمي لمواطنيه الراغبين في أن يحذوا حذوه.

الشقاقي يقول لمن يطلب استشارته: “أرسل إلي سيرتك الذاتية وإن تلقيت أخباراً عن أي وظيفة شاغرة سأعلمك”. وقد ساعد الشقاقي أبا محمد نفسه، والذي كان يعرفه منذ سنوات الدراسة. وسجل أبو محمد اسمه في دورة تعلم اللغة عندما وصل من تركيا.

الصعوبات التي تواجه الأطباء السوريين في ألمانيا

ليس الطريق سهلاً على الدوام أمام الأطباء السوريين، فهنالك إجراء متعارف عليه في أوساط البيروقراطية الألمانية يشكل حجر عثرة لكل الوافدين الجدد. يقول الشقاقي “المستشفيات هنا تقذف بالكرة في ملعبك ثم تقول لك هيا العب وأرنا مهارتك، ثم يقررون ما إذا كنت تسهم في الإضافة إلى فريقهم أم لا، لأن الألمان لا يمنحونك الوظيفة من دافع الشفقة.”

يحفظ أبو محمد عن ظهر قلب الحواجز التي عليه تجاوزها: عليه الحصول على 5 شهادات مختلفة تثبت مستوى إتقانه للغة، ثم عليه الحصول على ترخيص عمل لعدة أشهر تحت إشراف طبيب مؤهل تأهيلاً كاملاً، بعدها عليه البدء بعملية التسجيل المطلوبة من جميع الأطباء الذين من خارج دول الاتحاد الأوروبي لمزاولة عملهم.

ولا تخلو كل مرحلة من عراقيل ومطبات، فالتسجيل بدورة لغة واحدة مثلاً قد يكلف أكثر من 1000 دولار أميركي؛ كما أن التسجيل قد يستغرق أشهراً من التحضير.

محمد شيخو طبيب داخلية كردي من شمال غرب سوريا، أنهى لتوه وظيفة تدريبية وأرسل بـ200 طلب للتقديم على وظائف مؤقتة أخرى، لكنه ما زال ينتظر الموافقة على تسجيله. يتصل كل يوم بالجهة الحكومية المسؤولة عن منح التراخيص الطبية فيجيبونه أن عليه الانتظار. لكنه يقول أنه ما عاد يطيق الانتظار.

بعض المراكز الطبية تتحمل أعباء مادية وغيرها من أجل مساعدة السوريين في الوقوف على أقدامهم وتخطي المرحلة الأولى، فمستشفى “Zeisigwaldkliniken Bethanien ” في ولاية ساكسونيا الألمانية يوفر لأطبائه من الأجانب دورات لغوية وبرامج إشراف، فضلاً عن تقديم المساعدة لتسهيل التعامل مع السلطات الألمانية بل وحتى خدمة الإسكان المؤقت في أحد مبانيه.

وقال مايكل فيهيلمان، معاون مدير المركز، أنهم يرحبون بالمزيد من الأطباء السوريين شريطة أن يوافق هؤلاء على البقاء والعمل لصالح المستشفى بعدما يساعدهم في الحصول على التسجيل في الدولة.

وليس الأمر مختلفاً كثيراً في مستشفى سانت إليزابيث الكاثوليكي التعليمي في مدينة لايبزيغ. حيث قال د.غيرهارد شولز، كبير الأطباء في أحد أقسام الطب الداخلي في مستشفى سانت إليزابيث “اتصل بي مدير الموارد البشرية قبل 9 أشهر وقال لي إن طبيباً سورياً قد تقدم بطلب وظيفة، فهل أنتم بحاجة لواحد؟ أجبته بنعم لأني دوماً بحاجة لأطباء داخلية.” لم يكن الطبيب مسجلاً ، فوظفه د. شولز بصفة متدرب غير مأجور، وكرر ذلك ثانية بعد برهة حين تقدم طبيب سوري آخر لوظيفة.

ويبدو أن الخبر ذاع وانتشر لأن طلبات السوريين توالت، وبات لدى د. شولتز طبيبان متدربان منهما الطبيبة مُلهم التي قالت “اغرورقت عيناي بالدموع حين أخبرني الأستاذ شولتز أن لي مكاناً في قسمه.” أما شولتز الذي لم يشترط على متدربيه البقاء في سانت إليزابيث بعد الحصول على تراخيصهم، فقال ببساطة “يسعدني تدريب الأطباء.”

في ما يتعلق بموضوع زيادة البرامج المخصصة لهم والتي من شأنها تسريع السماح لعدد أكبر من الأطباء السوريين بالانخراط في نظام ألمانيا الصحي، ترى الطبيبة ملهم أن على الحكومة توفير برامج تدريبية خاصة بالسوريين، ويوافقها ألبرخت أديلمان المدير العام التنفيذي لمستشفى سانت إليزابيث في ضرورة التوسع في نطاق المساعدات والدعم، فيزيد عليها قائلاً “ينبغي وبسرعة توفير الوظائف التدريبية للأطباء السوريين ومنحهم تدريباً مطولاً في مستشفيات أكبر. لكن السؤال هو من سيدفع لهم دخلاً أثناء فترة خضوعهم للتدريب؟”

وكان وزير الصحة هيرمان غروهي قد تحدث في أكتوبر/تشرين الأول الماضي إلى صحيفة “Passauer Neue Presse” قائلاً أن الحكومة تريد الإسراع والتعجيل بإدخال الأطباء السوريين إلى الوسط الطبي، لكنه لم يدلِ بأية تفاصيل حول كيفية ذلك.

لكن نوافذ الأمل والفرص مشرعة تنفتح واحدة تلو الأخرى، ففي 24 أكتوبر/تشرين الأول الماضي سن مجلس النواب الألماني (البوندستاغ) قانوناً يسمح للأطباء المهاجرين ممن هم بدون رخص ألمانية بالعمل تحت إشراف أطباء مرخصين في مراكز إيواء اللاجئين التي تضم 1.1 مليون طالب لجوء.

ألمانيا وداعش يتصارعان على الأطباء السوريين

في مدينة شيمنتز الواقعة شرقي البلاد، أجرى فايهيلمان من مستشفى بيثانيان حواراً مع طبيب في دمشق عبر سكايب في خريف 2015 وقد أقرّ قائلاً “إن وجود أزمات في بلدان أخرى أمرٌ مؤسف للغاية بالطبع؛ ولكن إذا فرّ الأطباء من أوطانهم، فإن قدومهم إلى ألمانيا أمرٌ يفيد كلا الطرفين”.

ومع ذلك، بقدر ما تحتاج ألمانيا إلى أطباء، فإن سوريا في أشد الحاجة إليهم. حتى أن تنظيم “الدولة الإسلامية”، الذي يعتزم إبادة كل آثار الحداثة في الشرق الأوسط، قد اعترف بعواقب الفرار الجماعي للأطباء من سوريا. وفي عام 2015، شن التنظيم حملة دعائية مصورة لتشجيع العاملين المهرة على عدم مغادرة سوريا، وأعلن خلال مايو/ أيار مصادرة منازل أي عاملين في مجال الصحة يفرون من الرقة التي تم إعلانها عاصمة للخلافة ولا يعودون إليها ثانية خلال 30 يوماً.

هل يمكن أن يعودوا؟

وقال أحد أطباء حلب منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان عام 2015، “إذا ما توقف القصف، سوف يعود الأطباء. نحتاج فقط إلى وقف عمليات القصف”. ورغم ذلك، قال أحد الأطباء السوريين في ألمانيا أنه من الصعب تصور العودة. ويقول الشقاقي “كنت أخطط للعودة بصفتي أستاذاً للمساعدة على تحسين مهارات شباب الأطباء السوريين، ولكني لم أعد أفكر في ذلك”. ويعتقد فؤاد الذي يعمل جراحاً في لبنان أنه من غير المحتمل أن يعود الأطباء مرة أخرى، فقد قال “سيكون من الصعب للغاية إيجاد من يحلُّ محل هؤلاء الأطباء.

ولابد أن نبدأ تدريب جيل جديد الآن حتى يكون لدينا فرصة لبناء نظام رعاية صحية في سوريا بعد انتهاء النزاع”، وهو أمرٌ شبه مستحيل بحكم الحالة المزرية التي تعيشها الدولة.

ويعتزم أبو محمد البقاء ويقول “الألمان أكثر وداً من العرب”، وهو الرأي الذي لم يغيره حتى بعد تفاقم المشاعر المناهضة للاجئين في أعقاب الاعتداءات في شوارع كولونيا.

وفي الغرفة الصغيرة التي يعيش بها، يتحدث أبو محمد مع زوجته وابنه عبر سكايب حينما يكون هناك إمكانية للاتصال عبر شبكة الإنترنت. وقد رأى مؤخراً الصبي يحاول الوقوف للمرة الأولى بمفرده واغرورقت عينا الأب بالدموع لرؤية هذا المشهد. ومع ذلك، لن يضطر أبو محمد للانتظار طويلاً لرؤية عائلته، فسوف تلحق زوجته وابنه به في أوائل شهر يونيو/ حزيران القادم وحينذاك سيبلغ ابنه من العمر 17 شهراً وسيكون قادراً على السير. وسوف تبدأ زوجته إجراءاتها الانتقالية لممارسة الطب في أوروبا. (huffpostarabi)[ads3]

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي عكس السير وإنما عن رأي أصحابها