سوريا مسرحاً لالتفاف موسكو و أنقرة على ” سايكس – بيكو “
مع حلول مئة عام على إبرام اتفاق سايكس – بيكو، تجهد دولتان كانتا ضالعتين فيه في شكل أو في آخر، في تعويض خسائرهما من الاتفاق، لكن في جزء فقط من المنطقة التي استهدفها، هو سورية. الأولى التركية التي خسرت الحرب وفقدت معظم مساحة إمبراطوريتها لمصلحة دول أخرى توزعت حصصاً، والثانية الروسية كانت خسارتها طوعية عندما انسحب قادتها الجدد من الاتفاق وكشفوا تفاصيله للعالم في إحراج للقوتين الاستعماريتين، بريطانيا وفرنسا.
وتبدو روسيا اليوم كأنها نادمة على قرار الانسحاب، ويبدو «القيصر الجديد» فلاديمير بوتين راغباً في إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء وتعويض «الحصة» الروسية المفقودة من الإرث العثماني، لكن مع شريك جديد هو الولايات المتحدة، وفي الساحل السوري بدلاً من ضفتي البوسفور.
وللمفارقة، يتماشى المسعى الروسي، أو يكاد يتطابق، مع ما تعيشه تركيا من رغبة مستفحلة في العودة إلى عهد العثمانيين المنقضي، ورغبة «السلطان الجديد» أردوغان في استعادة مجد سالف لم يعد ممكناً، ولو في الشكل، واعتباره أن «الخلافة الإسلامية» حق مكتسب لبلاده لا بد من استرجاعه تدريجاً، بعدما ألغاه العلمانيون الأتراك. فبالنسبة إلى أنقرة، ليس سايكس – بيكو مجرد اتفاق بين القوى المنتصرة في الحرب الأولى على إعادة رسم خريطة المنطقة العربية عبر تقسيمها، بل هو تذكير بموت الإمبراطورية العثمانية الذي يرفضه الحكام الإسلاميون اليوم، وبالقيود التي تكبل تحركهم في الجوار الشرق أوسطي.
وما يشجع موسكو وانقرة على المضي في سعيهما، ان المنطقة العربية، موضوع اتفاق التقاسم، تعيش اليوم حالا من التفتت والانهيار، سواء في العراق او في سورية ولبنان – فيما فلسطين مقتطعة ومقطعة – أين منها وضعها أواخر أيام «المريض» العثماني، فينسج كل منهما علاقات مع أطراف فيها، يحتاجهم إما إلى التغيير وإما لمنعه.
لكن دون مسعاهما صعوبات وعقبات كثيرة. ولا شك في أن الاشتباك القائم بينهما، على خلفية الحرب السورية ومن خلالها، يندرج في إطار تنافسهما على النفوذ والتسويات والحصص. ويستخدم كل منهما علاقاته هذه للإضرار بمصالح الآخر وبمكانته وقدرته على التدخل وفرض الحلول، مثلما حصل عندما منعت روسيا عمليا الطيران التركي من دخول الأجواء السورية.
أما الاميركيون، مهندسو «النسخة المنقحة» من سايكس – بيكو التي ترى في الكيانات الصغرى مخرجاً من فشل الاندماجات الدينية والطائفية والقبلية والعائلية مثلما ارتآها ورسمها أسلافهم البريطانيون والفرنسيون، فيلعبون على «الحبلين» ويمسكون بطرفيهما، يشدونهما تارة ويرخون طوراً، متحكمين بحركتي الروس والأتراك والحيز المتاح لهما، فإذا تجاوز أحدهما الحدود المسموح بها مارسوا عليه ضغوطاً سياسية ومادية، مثلما حصل أخيراً في قاعدة «تي فور» الجوية السورية قرب تدمر، حيث أقام الروس مركزاً متقدماً لمروحياتهم، قبل أن يدمره قصف دقيق نسب إلى «داعش».
وبعد النفي الروسي لوقوع خسائر في الحادث الذي أحرقت فيه أربع مروحيات روسية على الأقل، نُشرت صور للقاعدة المدمرة التقطت بالأقمار الاصطناعية وسربها الأميركيون بالطبع. وفهمت موسكو الرسالة، وتلقفت فرصة إعلان الأميركيين بدء هجوم لاستعادة شمال الرقة بواسطة قوات كردية وعربية مشتركة من «داعش»، فسارعت إلى إعلان رغبتها في التنسيق مع واشنطن والمشاركة في العملية الجارية، مؤكدة ضرورة تخلي الأميركيين عن تشككهم في الأهداف الروسية.
ولأنه لم يعد ممكناً لروسيا أن تحصل على اسطنبول ومضيق البوسفور ومساحات كبيرة في شرق الأناضول وفي شمال كردستان تمتد حتى الحدود الإيرانية، وجد بوتين بديلاً في طرطوس التي أقام فيها قاعدة بحرية تصل أسطوله بمياه المتوسط، وهو كان هدف الاتفاق التاريخي. وهذا ما تقره له واشنطن بموجب الاتفاق غير المعلن بينهما على تقسيم سورية بين الطوائف والولاءات والإتنيات، بعدما تبينت استحالة بقائها موحدة.
وبالحديث عن التقسيم، يبدو أن أحد أهداف التفجيرات الأخيرة التي ضربت مدينتي جبلة وطرطوس كان إثارة ردود فعل ضد النازحين السنّة إلى هذه المنطقة التي تشكل جزءاً من «سورية المفيدة» وفق ما حددها نظام بشار الأسد، لأن عددهم الكبير يهدد «النقاء» والسيطرة الطائفيين.
وبين موسكو وواشنطن وانقرة، ونقاط لقائها واختلافها، وفي انتظار حسم مصير دولة «داعش» وحدودها وما إذا كان ممكناً تحجيم التنظيم قبل وصول إدارة أميركية جديدة خلال شهور، تظل سورية ساحة للأخذ والرد، ويدفع شعبها الثمن من دمه ومستقبله.
حسان حيدر – الحياة[ads3]
تظل سورية ساحة للأخذ والرد، ويدفع شعبها الثمن من دمه ومستقبله بسبب ضعف رئيسها الولد الوريث٠