خراب دورة الحياة السورية

صحيح أن الكثير من الطائفية المُستترة عرفته الحياة العامة السورية، خصوصاً في السياسة ومؤسسات الدولة وعالم الأعمال، حيث كانت أهم أدوات الأسدية لحُكم البِلاد لعقود، ولإدارة أشكالٍ من التوازنات المعقولة بين الجماعات الأهلية.

لكن أيضاً كان ثمة ما هو مخالف تماماً لذلك في الحياة اليومية المُجتمعية السورية، مما تنامى بفضل ديناميات تنموية واجتماعية واقتصادية وتعليمية حدثت بكثافة خلال العقود الخمسة الأخيرة. فقد كانت سورية زاخرة بالكثير من أشكال «الاختلاط الديموغرافي» والتعايش والسلام الاجتماعي المعقول، وباتت جميع البيئات السورية ملونة بنسبٍ متفاوتة من السُكان والحساسيات. لقد بدأت تتبلور ثقافة اجتماعية مليئة بالشيفرات والرموز الثقافية واللغوية السورية الخاصة، لم يكن أقل منها تبلور طبقة سورية وسطى ما، وإن كانت مُنهكة اقتصادياً، لكن مئات الآلاف من السوريين الأعلى تعليماً كانوا يعتبرون أنفسهم سوريين مدنيين أولاً، عابرين للهويات المذهبية والدينية الجهوية.

لم يكن من خارج هذا الواقع تضخم الكثير من المُدن المركزية وتنوعها، فدمشق وحلب وحُمص واللاذقية غدت إلى حدٍ معقول «مُدنا متروبولية» بتشكيلاتها الاجتماعية. مثلاً، كان ثمة في مدينة حلب وحدها قُرابة نصف مليون كُردي سوري، وما يقارب مليون كُردي في دمشق، كانوا محملين بنزعة قومية كُردية، لكنهم لم يكونوا يستبطنون نزعات من الكراهية والعدوانية تجاه محيطهم الاجتماعي، وكانت مستويات التفاعل بينهم وبين المُحيط بالغة الثراء، وكذلك كان ثمة عشرات الآلاف من الكُرد السوريين في حُمص والساحل.

الأمر نفسهُ كان ينطبق على العلويين السوريين، الذين بفضل ديناميات الاقتصاد والامتيازات في مؤسسات الأمن والدولة، تركوا بيئتهم الجغرافية في الساحل واستقروا في جميع الجغرافيات السورية. فعشرات آلاف العائلات العلوية استقرت في مُدنٍ قصية من سورية، حيث بقيت لأكثر من أربعة عقود، حتى أصبح الكثير مُنهم بحُكم الواقع أجزاء من تلك البيئات. وهو أيضاً ما ينطبق على باقي الجماعات الأهلية.

كانت ديناميتا التعليم والاقتصاد الفردي قد ساعدتا على نمو الكيمياء الاجتماعية السورية وحيويتها. فالجامعات المركزية الحُكومية الخمس ضمت مئات آلاف الطلبة السوريين القادمين من كُل الأطراف، حيث سمح تطور المواصلات بتنقلهم السلس حتى بوتيرة أسبوعية، ما بين مناطقهم وهذه المُدن. وبسبب تمركز التنمية في تلك المُدن الخمس حيث الجامعات الحكومية، فالغالبية العُظمى من هؤلاء الطلبة الجامعيين استقروا في مناطق دراستهم، وغدت علاقتهم بأريافهم ومُدنهم الصغيرة أقل حيوية، وبالتالي أقل ولاء.

هذه الطبقة السورية من المُتعلمين نفسها، كانت قد فرزت الطبقة الوسطى السورية بكل تشوهاتها ومُشكلاتها الاقتصادية، كما فرزت مئات الآلاف من الشُبان السوريين المُنخرطين في شبكة الاقتصاد السوري المُعولم والاحتكاري، كشركات النفط والاتصالات والسيارات الخ… ولأسباب مُختلفة مُتعلقة بالولاء لنمط الحياة وشبكة العلاقات وضرورات العيش المُشترك في المُدن، كانوا الأقل طائفية وقومية، بل الأقل مُبالاة بالسياسة والأيديولوجيات عموماً.

شيء رديف لذلك تأسس بسبب طبيعة الاقتصاد. فسورية لم تكن دولة ريعية بالمعنى النفطي. فالريعية كانت فقط شكلاً من التضخم البيروقراطي والاستيعاب الوظيفي من قِبل السُلطة، أي شكلاً من البطالة المُقننة ليس إلا. لكن السوريين في عمومهم كانوا، في دورة الحياة الاقتصادية الحقيقية، يحيون في نمط من «اقتصاد الظل» والخدمات والتي تجاوزت نسبتها ثلاثة أرباع القيمة الكُلية للاقتصاد السوري. فشبكات التهريب والعمل في العُمران والنقل وتصدير العمالة الرخيصة إلى دول الجوار والعمل في بسطات البيع المُفرق والصناعات البسيطة والمتوسطة والصناعة لمصلحة الشركات العالمية، كانت جوهر الاقتصاد السوري. وهذا عنى أن سورية لم تعد دولة زراعية بالمعنى التقليدي، ولا حتى دولة ذات اقتصاد مركزي مُنقاد من الدولة، بل على العكس تماماً، رتّب السوريون حياتهم الاقتصادية وكأن الدولة غير موجودة تماماً، ولا تتكفل بأي شيء، بل مُجرد ثقل اقتصادي.

لقد تطلبت تلك الحياة الاقتصادية كثافة في الكيمياء الاجتماعية اليومية وتجاوز الكثير من خطابات الهوية. لكنها أيضاً كانت دافعاً لتبلور واستبطان الغُبن من قِبل ملايين السوريين، وأن هذه الكيمياء في دورة حياتهم اليومية يجب أن تدفهم إلى المزيد من الانتظام السياسي والثقافي والطبقي المُستقل عن السُلطة وهيمنتها على المُجتمع السوري. وهذا ما كان النِظام السوري يمنعه بكُل شكل، فيحطمه ويخلق ديناميات ومؤسسات لقمع أي مصدر له، وهو الشيء الجوهري الذي تسبب باندلاع الثورة ورسم الملامح الجوهرية للسياق الذي حكم تطورها.

فشيء مما كان قد قاله ماركس عن الرأسمالية التي تحمل خرابها في داخلها كان ينطبق على سورية ومجتمعها الحيوي. ذاك أن تلك الحيوية من دون حريات عامة أو اعتبار لمكانة البشر، تغدو لا شيئاً، بل عتبة على درب الخراب.

رستم محمود – الحياة[ads3]

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي عكس السير وإنما عن رأي أصحابها

‫5 تعليقات

  1. للاسف الكاتب مو فهمان شي!! التوزع الديموغرافي الحالي بسوريا صنع في اقبية مخابرات الاسد!! اهم قاعدة كانت عند المقبور الخالد ممنوع طائفة عرقية او دينية تسكن بمنطقة كاملة لحالها!! وعلى هالاساس هجر قسريا بعض العرب بالجزيرة لمناطق الاكراد وبعض البدو حطهن بالقوة حول مدينة السويداء والاكراد بحكم البحث عن عمل اتوزعوا بين الشام وحلب!! اما حبايب قلبنا العلوية فعملوا انتشار عشوائي وما خليت منهن محافظة و خاصة دمشق!! وماتنس تحريض دفين للطوائف كلها ضد السنة عن طريق تخويفهن على حياتهن من هالوحوش!! كلها سياسة حقيرة لبسهل عليه حكم الكل!! بالمختصر التوزع الديموغرافي الحالي انجز بالمسطرة ماكان عشوائي نهائيا!! الشي الوحيد يلي ما انتبهلو دنب الكلب لانو ما كان فاضي عم يطوب سوريا باسم ابن خالتو رامي الحرامي وهو هجرة الفلاحين في منطقة الجزيرة بسبب الجفاف، صدقوني هي كانت عامل هام بتدهور الاقتصاد السوري للحضيض. بدل ما يحل المشكلة عمللهن مخيمات باطراف المدن وعلى اثرها انخفض انتاجنا من القمح بشكل مخيف لدرجة الامارات اشترتلنا قمح عام 2010 لدعم مخزونا الاستراتيجي!! يعني دنب الكلب بكل غباء ما انتبه لما يسمى بالسياسة الامن الغذائي!! اضافة لمشروع الانضمام لاتفاقية الغاد او السوق الاوربية المشتركة!! يلي حابب يهز بدنو يدور بغوغل على نص الاتفاقية ويدعيلي!! ورفع الدعم عام 2009 كان اول خطوة باتجاه هالاتفاقية وكان رايح باتجاه رفع الدعم حتى عن الخبز بالنهاية مشان ننضم اسم الله علينا للسوق الاوربية!! ونسيان حضرتو انو هيك اتفاقية ما بتتطبق ببلد متل سوريا شلة تجار متحكمين ب90% من الاقتصاد ونظام الضرايب سمك لبن تمر هندي!! واخر شي بيطلعلك منحبكجحشي وبقلك سوريا كانت عم تقوى اقتصاديا وعايشين احلى عيشة!! ماحضرتو البابا تبعو شريك حدا من هالحرمية المذكورين اعلاه وكان نازل شفط على حساب هالشعب!! 37% نسبة البطالة رسميا بتقرير صادر عن وزارة العمل عام 2010 فيكن تشوفوا عالنت!! سوريا كانت قبل عام 2011 سفينة عم تغرق ببطء والشعب عم يحس بالبلل تدريجيا متل السفينة الحقيقية ركاب الدرجة التالتة بالقاع اول مين بيغرقوا وبالاخر ركاب الدرجة الاولى عالسطح!! وصدقوني بدها كان كم سنة كمان لحتى المنحبكجحشي يصير على راس الثوار بعد ما تتضرر مصالحو!! وبيجي بقلك كنا عايشين احلى عيشة!!

  2. صديقي يجب ان تكون ذكي وفهلوي وتتكيف بسرعة لقد انتهت سوريا القديمة كلياً ونصف الشعب هاجر وهرب الى الخارج وخصوصاً الى اوروبا ومن هرب الى اوربا يفضل مسح الاحذية في اوربا على العودة الى دول نامية من العالم الثالث لعدة اسباب منها تعليم اطفاله وانظمة متطورة وغيرها الكثير وانا اكلمك حتى لو انتهت ازمة سوريا تماماً ، وبالتالي انسى من تبقى هم الفقراء وعادة الفقراء الذين يدخلون في الجيش واجهزة الامن وحتى المقاتلين كلهم فقراء فعادة من قدم التاريخ الفقير هو من يحارب ، اما الادمغة السورية والطبقة الوسطى انتهت من زمان وولت الى غير رجعة

  3. حقيقة لا أعرف مايشعر به ذيل الكلب الأهبلوف ومسؤوليه التقدميين عندما يلتقون بنظرائهم من الرؤساء أو المسؤولين القادمين من دول لاتمتلك أية موارد طبيعية أو صناعية أو زراعية أو سياحية ذات قيمة كدول أوروبا الشرقية سابقا أو دول شرق آسيا الناشئة ومع ذلك يعيش الفرد فيها بمستوى معقول من النظافة والرفاهية والتنظيم والخدمات الاجتماعية والتعليم والصحة…. الخ فيما الأهبلوف يحكم بلدا يملك الذهب الأسود وهو النفط والأصفر وهو القمح والأبيض وهو القطن عدا عن السياحة والتجارة المشهورين فيها عالميا منذ أيام الفينيقيين ولذلك أتسائل ألا يشعر مسؤولينا مع الأهبلوف بالغيرة من تلك الدول عندما يجتمعون مع مسؤوليهم ؟ ألا يتمنون أن نكون بمستواهم على الأقل ؟ فالإنسان عادة يغار من الآخرين ويتمنى أن يكون بمستواهم أو أفضل منهم إلا مسؤولينا وذيل الكلب ياسبحان الله يتلذذون بإذلالنا وإفقارنا لسبب بسيط آخر غير الفساد والرشوة وهو أنهم حثالة المجتمع فعلا وطالما هم عاجزين على الارتقاء بمستواهم لمستوى البشر فلابأس إذا من سحب المجتمع بأكمله كي يغرق في مستنقع قذارتهم لعشرات السنين فذلك لايهم فالمهم هو ذيل الكلب وبس…. دبكة للحمير.

  4. اخ مواطن لبناني، غلطان انت كتير!
    اي سوري يحلم بلرجوع الى بلده، كمان متلي، بعد 35 سنه بلغربه و كل سنه زياره الى سوريا…..
    مع الاسف بعد التحضير للرجوع بلشت الحرب.
    لحتى الان عم نحلم بسوريا قبل الحرب.
    الغربه هي الشتات، هاد كان مخطط السيده ميركل و غيرها من الصهاينه، الشتات للسوريين. هاد كان اقوى سبب لماذا المانيا فتحت ابوابها، كل شي كان مخطط له من قبل.
    حتى اعرف سوريين عاشو لمده طويله جدا بالمانيا و توفو فيها، و كان حلمهم الوحيد الرجوع الى سوريا. مع الاسف……..

  5. مخطئ من ظن أو يظن أن سوريا قابلة للنسيان و أن ابنها قابل للذوبان في بلاد تستقبل اللاجئين على مضض . ابن و ابنة سوريا في عالم الشتات ينطق لسان حاله قبل لسان مقاله بكلمات فيروز في أغنيتها الرائعة:
    سنرجع يوماً إلى حينا **** ونغرق في دافئات المنى

    سنرجع مهما يمر الزمان **** وتنأى المسافات ما بيننا

    فيا قلب مهلاً ولا ترتمي **** على درب عودتنا موهنا

    يعز علينا غداً أن تعود **** رفوف الطيور ونحن هنا