” جهاد الاكتئاب ” يحرك ذئاب ألمانيا ؟
بينما كان الحزن لا يزال يخيم على مدينة ميونيخ الألمانية، بعد عملية القتل العشوائية التي راح ضحيتها تسعة أشخاص غالبيتهم من الشباب، كرّت سبحة الهجمات في المدن الألمانية. واللافت ان السلطات الألمانية والتقارير الامنية والمعطيات التحليلية اجمعت على ان الشاب الألماني من اصل ايراني الذي اطلق النار في ميونيخ، كان يعاني من اضطرابات نفسية. وتكرّر الامر في مدينة أنسباخ حيث فجر طالب لجوء سوري عبوة ناسفة فقتل نفسه وأصاب آخرين، وقيل ايضا انه يعاني من اضطرابات نفسية. والخلاصة نفسها التي جرى التوصل اليها بعدما هاجم شاب بفأس وسكين ركّابًا في بافاريا، ونفذ شاب آخر هجوما بالسكين في ريوتلنغن. وقد تبنى تنظيم “الدولة الاسلامية” (داعش) هجومين من الهجمات الاربعة، ومعلوم ان هذا التنظيم كان اطلق العنان لاستراتيجية “الذئاب المنفردة” لتشكل كابوسا في الدول الغربية حيث لا قواعد ولا خلايا منظمة، وحيث دعا في مناسبات عدة انصاره الذين يعيشون في اوروبا واميركا لارتكاب أعمال من هذا القبيل. وهذا ما دفع الى التساؤل هل “الذئاب” الألمان من المرضى النفسيين الذين يعانون من اضطرابات في الصحة العقلية والراغبين في التعبير عن انفسهم من خلال العنف؟ وهل نحن امام نوع جديد من “الجهاد” هو جهاد الاكتئاب والعلل النفسية؟
قبل مدة روّجت مواقع التواصل التابعة للتنظيمات الجهادية شريط فيديو مدته 13 دقيقة وعنوانه “لا حياة من دون جهاد”، ظهر فيه ثلاثة رجال يدّعون أنهم بريطانيون، ويدعون الشباب المسلمين في الغرب “للانضمام إليهم في الجهاد والمشاركة في الحرب في العراق”، في وقت كان الجيش العراقي يخوض مواجهات مع “داعش” في المناطق الحدودية بين العراق وسوريا.
وتحدث الرجال الثلاثة بالانكليزية مستخدمين بعض الكلمات العربية واقتباسات من القرآن. ويسأل احدهم ويدعى أبو البراء الهندي “هل أنت على استعداد للتضحية في سبيل الله بمنصبك الكبير وسيارتك الضخمة وعائلتك؟”، ويضيف “إلى كل إخواني الذين يعيشون في الغرب، أنا أعلم كيف تشعرون لأني كنت أعيش هناك. تشعرون في قلوبكم بالاكتئاب. وعلاج الإكتئاب هو الجهاد”. ويضيف “يا جميع إخوتي، تعالوا إلى الجهاد لتشعروا بالشرف والسعادة التي نشعر بها”.
وقال الرجل الآخر يدعى أبو مثنى اليمنية “الرجال يستعدون للقتال في العراق، إذ إن الحكومة المحاصرة تطلب من الولايات المتحدة تنفيذ ضربات جوية لقمع التمرّد، لقد شاركنا في معارك في الشام، وسوف نذهب إلى العراق في غضون أيام قليلة للقتال هناك، وسوف نعود ونذهب إلى الأردن ولبنان بلا أي مشاكل”.
وفي ألمانيا، كشف الإعلان الرسمي لوزير داخلية ولاية بافاريا يواخيم هيرمان أنّ منفّذ الهجوم على المحتفلين بمهرجان الموسيقى في أنسباخ بحقيبة ملغومة بايع “داعش”، وأعلن على صفحات التواصل الاجتماعي عزمه الانتقام من الألمان قبل إقدامه على تفجير نفسه بمن حوله، وهنا لا بد من التساؤل كيف تحوّل طالب لجوء ضعيف الحيلة باحث عن الأمان إلى منتقم من البلد الذي آواه وحماه لمدة سنة تقريبا؟ والسؤال نفسه ينطبق على الافغاني الذي هاجم ركّاب القطار في فورتسبوغ، والايراني الذي اطلق النار في ميونخ ببافاريا، وطالب اللجوء السوري الذي هجم بساطور على سيدة حامل.
ينقل موقع “دويتشه فيله” الألماني عن الباحث في شؤون مكافحة الإرهاب جاسم محمد انه منذ ان اطلق أبو البراء الهندي نداءه الى المكتئبين ونصحهم بأن “علاج الاكتئاب هو الجهاد.
تزايدت في أوروبا العمليات الإرهابية بدءا من الهجمات في فرنسا وبروكسيل مرورا بأسبوع ألمانيا الدامي، ومن غير المنتظر أن تنتهي “غزوات القتل الدامية” في القريب العاجل.
ويوضح أن تنظيم “داعش” “غيَّر إستراتيجيته، فترك الجماعات المتطرّفة في أوروبا لأنها تحت المراقبة وتحوم دائما حولها الشبهات، واتجه نحو الأفراد الذين لا توجد لديهم ارتباطات اسلاموية أو نشاطات، ولم يكونوا تحت رادار الاستخبارات وأجهزة الأمن الأوروبية. وبهذا يخاطب التنظيم الشباب الذين يعانون من الاكتئاب والمشاكل النفسية، وأصحاب السوابق الجنائية ومدمني المخدرات، وهذا ما كان واضحا في عمليات الدهس في نيس بفرنسا، وهجمة قطار فورتسبورغ والهجوم الانتحاري في مدينة أنسباخ.
وتضع هذه الحقائق تحديات خطيرة أمام أجهزة الأمن الألمانية، فهي مطالبة بمراقبة تحركات عدد غير محدود من الأشخاص. والى ذلك اعتبر جاسم محمد أنّ الأجهزة الأمنية تعرف نحو 500 شخص في مراكز الإيواء يُحتمل أن يكونوا أهدافا لتنظيم “داعش”، ويمكن أن يتحولوا في أي لحظة إلى جند للتنظيم أو مقاتلين عنده، وهي مراتب مختلفة تنظيميا.
ويُجمع البعض على أنّ حالة من الاكتئاب ربما سادت بعض من نفّذوا الهجمات الدموية، ولكن علماء ومختصين في شؤون الاكتئاب وثقافة العنف وظاهرة الانتحار نفوا إمكانيّة أن يكون الاكتئاب وحده سببا للهجمات الدموية غير المتوقعة من البعض. وفي هذا السياق يشرح الباحث النفسي المتخصص في قضايا الانتحار غيورغ فيندلر للموقع نفسه، تصوره عن الهجوم الدموي في ميونخ، الذي نفذه شاب ليس لاجئا حديثا، بل ولد قبل 18 عاما في ألمانيا وترعرع فيها، فقال: “عليّ أن أوضّح بداية أن وصف مكتئب، يدلّ على ما يبدو عليه الإنسان بالنسبة للآخرين، ولذا أقول هنا إن الشرطة كانت حذرة جداً في وصف المعتدي بهذا الوصف”. ويضيف “علامات اكتئاب” لا تعني قط أنّ المصاب يعاني من مرض نفسي، وحتى إذا كان يعاني من الاكتئاب، فإن من يعانون من هذه الحالة لا يشهرون أسلحة ويقتلون الناس بها بشكل عشوائي. المكتئبون عادة يستهدفون أنفسهم بالعنف. من هنا لا يمكن الافتراض أنّ الاكتئاب كان سبب الهجوم”.
بيد ان الدكتور نبيل يعقوب الذي عمل لمدة عشر سنين في مركز لإيواء اللاجئين شرق ألمانيا يؤكد أنّ “غالبية اللاجئين الذين يمارسون العنف هم رجال شبان في حالة أزمة من الناحية النفسية، وينتظرون بين يوم وآخر الحسم في مصير بقائهم أو رحيلهم عن ألمانيا، وهو ما يفسر ردود أفعالهم العنيفة”.
وهكذا تتمكن “داعش” واخواتها من استقطاب المخلفات البشرية، على المستوى النفسي والوجودي، مقابل اعطائهم صكوك ملكية في الجنة، وفي المقابل فان بعض الغاضبين لعدم حصولهم على فرصة لائقة في المجتمع، وجدوا في العنف وسيلة للانتقام. واذا كان هؤلاء المقاتلون جزءًا من المشكلة، فان الجانب الأخطر هم الوكلاء الذين يتصيّدونهم ويوظّفونهم، فهؤلاء تحركهم مصالح صريحة ومطامع واضحة، ولا طائل من جهود مكافحة الإرهاب دون محاصرتهم واجتثاثهم.
يمكن أن يجادل البعض بأهمية وضع البرامج لإخراج الشباب من الإحباط والاكتئاب، ولكن الاولوية المطلقة، هي لوأد ظاهرة التنظيمات التكفيرية والفكر التكفيري بأي ثمن، قبل ان يتحول العالم الى مستشفى للأمراض العقلية.
أمين قمورية – النهار[ads3]