” حارس الذكريات ” يرافق السوريين من مقبرة كوس إلى أرض الأحلام الأوروبية

لكن ماذا لو جاءت الموافقة من وراء البحار، وذهب محمد إلى «أرض الأحلام» في أوروبا؟ من سيهتم بهذه القبور، خصوصاً قبر تلك الرضيعة التي لا يعرف سوى أن عمرها شهر ولا يزال جسمها الطري المبلل بالمياه المالحة مقيماً بين يديه؟ من يغرس الأجساد الغارقة في التراب اليوناني ويسقي زهوره المحتارة بين ضيوفها وأهلها الأصليين؟ من يسحب ظلال الشجرات لتغطي ما ظهر من القبور في الصيف الحارق والجاف؟ من يحمل جثث الغرقى ويغسل ويكفن ويزرع القطن في أنوفهم ويحمل ويدفن القادمين الجدد؟ من يردم التراب على «ساكني» هذين القبرين اللذين جهزهما منذ أسابيع عندما تحين ساعتهما ومن سيزيل عنهما شبكات العناكب؟ من سيرتب حفر شواهد القبور بلغة عربية صحيحة؟ من سيعايدهم في العيد ويجلب لهم الزهور؟ من يعرف قاموس الدفن والفرق بين طقوس الدفن الكردية والعربية والعشائرية والمدنية والريفية؟

أين سيترك «حارس الذكريات والأحلام» قصص ٣٧ جثة لملمها من شواطئ جزر يونانية؟ هناك الكثير مما قالوه ونثروه في جيب أسراره، أين سيترك الأسرار والقصص والأحلام؟ أين سيترك عناوين أقارب الموتى في المهجر وأبنائهم وأحفادهم؟

محمد حارس الذكريات والأحلام، «رفيق» المقبرة والقبور والأكفان. يقيم بين عالمين، سورية التي تركها وراءه ويخاف العودة إليها وأوروبا التي يبتغيها وينتظر بلوغها. صار له «دهر» ينتظر في كوس، هذه الجزيرة اليونانية الصغيرة. ينتقل بتثاقل بين مخيم اللاجئين في مدينة كوس ومقبرة المسلمين في ضواحي عاصمة الجزيرة. بضعة كيلومترات، تغدو ثقيلة في كل يوم أثقل من الأكفان التي حملها بين يديه. هناك في هذه المدينة هموم عشرات السوريين بين ٤٠٠ لاجئ يقيمون في فندق. وهنا في الضاحية أنين ٣٧ شخصاً دفنوا وتركوا وراءهم عشرات الحكايا.

على تخوم كوس، مقبرة لمسلميها يديرها إمام مسجد المدينة. مسلمون من أصول تركية دفنوا هناك، بدأوا «يستأنسون» بجيران سوريين دفنوا أيضاً بعدما غرقوا خلال رحلة العذاب من سورية إلى تركيا إلى اليونان على أمل الوصول إلى أوروبا. جثة طفلة هنا وجثة كهل هناك. هنا بقايا شاب بين نتوء الحجر الفضي الحاد. وجسد منتفخ على رمال ذهبية هناك فاض عليها زبد فضي من فمه.

الذروة كانت العام الماضي في مثل هذه الأيام. عدد سكان هذه الجزيرة الصغيرة حوالى ٣٠ ألفاً بينهم ألف مسلم من أصول تركية، أضيف إليهم وقتذاك عشرون ألفاً. رحل هؤلاء، بعد توقف هنا على جمر الانتظار، إلى دول أوروبا هاربين من الجحيم السوري و»براميله المتفجرة» وسكاكينه الحادة إلى الوعود والأحلام الأوروبية التي جلبت 1.322 مليون بينهم ٣٠٨ آلاف طلبوا الحماية العام الماضي. وقتذاك كان المعدل اليومي لعدد الموجودين في هذه الجزيرة الصغيرة حوالى عشرين ألفاً. بلغ مئات الآلاف مبتغاهم… وغرق آخرون مع أحلامهم. بعض الغرقى «الموالين» أعيدوا إلى أراضيهم. أما الغرقى المعارضون فدفنوا في المهجر. الموقف السياسي يلاحق المرء إلى منفاه وقبره.

كان الشيخ شكري شريف ضماد أوغلو المرافق والحارس لهذه الجثامين «من لحظة تسلمها مرمية على شواطئ جزر يونانية إلى المسجد ثم المقبرة». يقول: «في كثير من الأحيان كان أقارب بعض الغرقى موجودين. نقوم سوية بغسيل الغريق وتكفينه والصلاة عليه ثم دفنه، بعدما نتأكد من أنه مسلم. نضع لكل منهم شاهداً… بعضهم طلب مني أن ننقش على الشاهد أسماء أقاربهم على أن يرسلوا لاحقاً لي كلفتها، وهي حوالى ٥٠٠ يورو، عندما يعودون في طريق العودة إلى سورية»!

إلى حين ذلك، ما يعزي الـ٣٧ «زائراً» في كوس، أنهم محاطون بنوع من الإلفة التي وفرها التشابه الكبير بين جزيرة كوس والأراضي السورية. البحر المتوسط الذي شطر جانبي الأرض، لم يغرق التشابه. شجرات الزيتون والفراشات وعصفور الدوري ولون التراب ورائحته وقساوته الهشة تحت القدمين والظلال التي تنتظر تحت أغصان الشجرات في هذه الجزيرة ذاتها التي تركها وراءهم الغرقى عندما تركوا مناطقهم في شمال سورية.
اهتمام شكري ومساعده سليمان لا يقتصر على الراحلين واللاجئين، بل يمس القائمين بين ضفتين. على بعد عشرات الأمتار من مسجد الساحة الرئيسية في كوس، يجلس ثالثهما علي بايزانو. يحمل في يده اليسرى هاتفه النقال. في اليمنى يتحدث على الهاتف الأرضي. يقف قربه شابان، كردي عراقي وأفغاني، منهمكان في تقطيع الخضار وتفوح وراء الثلاثة رائحة الطبخ. هم في عجلة من الأمر، إذ يقترب موعد الغداء.

قبل سنة، عندما شاهد علي نقص الطعام في ذروة وجود اللاجئين على هذه الجزيرة، قرر الدخول في العمل التطوعي. منذ مشاهدته امرأة «أوروبية» جاءت لتساعد «المسلمين»، قرر أن يحذو حذوها في أن يطبخ يومياً للاجئين في المناطق الساخنة أو في الأماكن المسموحة. كان يقدم في بعض الأحيان الطعام لألفي شخص، لكن العدد انخفض حالياً إلى ٤٠٠ شخص يقيمون في «فندقين» متجاورين على بعد مئات الأمتار من مطعمه في وسط كوس.

يقول نائب حاكم كوس ايلي سافيكس، وهو الذي جاء من خلفية اقتصادية تختص بالسياحة، أنه في منتصف العام الماضي، كان نصف سكان جزيرته من اللاجئين. «تعطلت أعمالنا وأغلقت محلات وهجر السياح الأجانب هذه الجزيرة. بدأ الناس يمتعضون، خصوصاً أن غالبية أعمالهم توقفت… لكن ذات يوم، شاهدت طفلاً سورياً جائعاً مع عائلته». يأخذ نفساً وينظر إلى من حوله، قلت: «ليس هناك شيء يستأهل. مذّاك صار همي مساعدة السوريين وتسهيل حياتهم قدر المستطاع».

ملف اللاجئين غير الشرعيين بات في أيدي الجيش والأمن، لكن سافيكس يحاول قدر المستطاع «تخفيف المعاناة» وإقناع ناخبيه بقبول «القادمين الجدد» الذين قد تطول زيارتهم، إضافة إلى العمل على «جبهة أخرى» تتعلق بإنقاذ الموسم السياحي، على أساس أن العودة إلى الدورة الطبيعية تتطلب ١٨ شهراً. وبدا حالياً فعلاً أن العجز الذي بلغ ٥٠ في المئة بات هذا الصيف ١٤ في المئة، إذ بدأت شوارع الجزيرة تستعيد سياحها الإنكليز، وبدأت حاناتها تعج بالسهارى.

توتر سوري – أفغاني

مع اقتراب الساعة الثانية بعد ظهر كل يوم، يتوقع نزلاء «الفندقين» وصول فريق علي حاملاً وجبة الغداء. لا يشعر بعضهم بالامتنان لهذا الأمر، لكن عمومهم ممنون. يحملون الوجبات إلى غرفهم كل يوم. ارتكاب فعل تناول الطعام أمام الغير «بمثابة عيب»، خصوصاً أنه على بعد بضعة أمتار يقع فندق آخر، فيه سياح من كل صوب يسبحون بلباس البحر ويقومون بما يريدون في أيام عطلتهم التي هربوا فيها من أمطار بريطانيا. لا توتر بين السوريين والسياح والمارة أمامهم، بل بينهم وبين والأفغان والباكستانيين الذين «ينافسونهم» على بعض ما يقدم إليهم وما ينتظرونه: موعد لتقرير مصيرهم، دروس تعليم اللغة، حصص رياضية … و «اليوغا للنساء الحوامل». وموظفو «المفوضية السامية لشؤون اللاجئين» يحضون الحوامل السوريات على اتباع هذه الدورات. لكن الدعوات لم تلق اهتماماً من امرأة واحدة حامل، هي الوحيدة بين اللاجئين.

في اليونان وجزرها ٥٦.٨٥٣ لاجئاً، ٤٨ في المئة منهم سوريون و٢٥ في المئة من الأفغان و٤ في المئة من العراق. وفي جزيرة كوس ٧٠٣ لاجئين، بينهم ١٥٥ سورياً و١٠٥ أفغان و٥٦ عراقياً و٢٩٧ باكستانياً. وعادة ما يقيم اللاجئون بعد وصولهم إلى الجزيرة، بما فيها كوس، لدى قوات الجيش والأمن، في «نقاط ساخنة» للتأكد من وثائقهم وأوضاعهم. ويسمح فقط لـ «الحالات الخاصة» بالخروج من هذه المعسكرات إلى هذين «الفندقين» حيث يحصلون على أوراق تسمح لهم بالتجول في المدينة ضمن حدود معينة، إضافة إلى معالجات ومراجعات طبية… في انتظار قرار في شأنهم: إعادتهم إلى تركيا بموجب اتفاق بين الاتحاد الأوروبي وتركيا في آذار (مارس) الماضي أو إعادة التوطين ولم الشمل في دول أوروبية معينة.

السوريون الموجودون في هذين «الفندقين» يحملون معهم الكثير من القصص. جميعهم جاؤوا تهريباً من سورية إلى تركيا ثم إلى كوس. جميعهم جربوا «قارب الموت» قارب «البلم»، وهو قارب مطاطي يحمل قاعدة خشبية. معظمهم جاؤوا خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة. أي أنهم عاشوا سورية لحظة بلحظة و «تطورها» من التظاهرات السلمية تحت الغطاء الجوي والعسكرة والأسلمة والتطرف والحصار والقصف و «البراميل» والصواريخ إلى «الخطف» الإقليمي والدولي.

أعضاء الدفعة الجديدة من اللاجئين، بينهم السوري والفلسطيني، بينهم الكردي والعربي، بينهم العازب والمتزوج، امرأة وطفلةٌ أبوها مقيم في قبر «تحت سقف الوطن»، رجل وطفلتاه وأمهما في دولة أوروبية أمامهم. جاؤوا من مناطق محاصرة من القوات النظامية أو متداخلة بين سيطرة النظام والمعارضة. كلهم دفعوا أموالاً كي يصلوا إلى هذه المنصة الموقتة. بعضهم باع ممتلكاته أو منزله أو استدان… لأن «الأمل مات في سورية» ولا بد أن «نجرب شيئاً جديداً، على الأقل هناك فرصة أن يكون جيداً، بينما البقاء في البلد يعني فقط انتظار الموت».

«فلسطين» وشم في شوارع يونانية

خالد، شاب في الثلاثين من عمره، كان يعمل في محل لصنع المفروشات المنزلية في مخيم اليرموك قرب دمشق. المخيم تعرض للحصار منذ أكثر من سنتين. هو شاهد كل أنواع القصف. «البراميل» والصواريخ والقنابل. عايش حصار القوات النظامية للمخيم. شاهد أناساً يأكلون قططاً وأعشاباً. وكي يؤكد صدق ما يقول، يشير إلى أن «بعض أصدقائي وجيراني أكلوا الأعشاب. أنا لم آكل. من معه النقود دائماً يستطيع العثور على طريقة. يدفع أكثر ويحصل على ما يريد». مشكلته كانت مشكلتين: الأولى، أن طفلته باتت تعاني من نوبات صرع. طفلة تأقلمت مع ما حولها. طفلة لم تتأقلم. تأتيها حالات فجائية تجعلها ترتجف وراء النظارات. المشكلة الثانية، أنه بات موضع اتهام. طالما أنه بقي في مخيم اليرموك المحاصر، هذا يعني أنه «متعاطف مع المسلحين».

كلمة «فلسطين» التي وشمها على يده اليـــمنى، لم تشفع له. علم فلسطين الذي نقشه على يده الأخرى، لم يشفع له. الذي شفع له أنه باع بعض ما يملك بأبخس الأثمان وقرر الرحيل من المخيم. هذه أول خطوة، لكن ليـــست النهاية. كيف يمكن له المرور عبر الحواجز النظامية. المخيم محاصر. حصار اســـم على مسمى. وجد ضالته في أنه تعرف إلى شخص ذي نفوذ. «أمير حرب»، يعـــيش على تــمرير أمثال خالد عبر الحواجز. عقد صفقة معه. صفقة شاملة. العبور عبر الحواجز مع بطاقات الطائرة من مطار دمشق إلى مطار القامشلي شرق البلاد قرب كردستان العراق. وهذا ما يحصل. ومن هناك دفع مئات الدولارات لسمسار نقله من مطار القامشلي عبر مناطق الأكراد إلى حدود تركيا ثم إلى إزمير، حيث كان ينتظره المهرب الذي وضعه مع آخرين على «البلم» ليسافر تحت جنح الظلام إلى كوس.

جنح الظلام، أيضاً استظل به فؤاد عندما ترك شارع سليمان الحلبي في مدينة حلب. ترك منطقة خاضعة لسيطرة النظام منذ أكثر من ثلاث سنوات. يقول: «قصف وقصف متبادل. خوف وفوضى. فقدان الأمل… قررت الرحيل «طالما أن النظام لم يعد قادراً على فرض سيطرته». بالنسبة إلى فؤاد «إذا تنحى (الرئيس) بشار الأسد الآن، ستزداد الفتنة. المعارضة مشتتة وليست قادرة على حكم البلد». رأي، لا يتفق معه لاجئون سبقوه إلى كوس قبل سنوات ويعتبرون أن «المشكلة هي في ممارسات النظام». فؤاد قوّى قلبه وانتقل إلى عفرين، حيث سيطرة الأكراد، وتعاقد مع سمسار نقله إلى حدود تركيا ثم إلى بودروم التركية… حيث كان «البلم» ينتظره وغيره إلى كوس بعدما بلغ عدد الراغبين في ركوب الأمواج ٦٠ مغامراً.

بهزاد قصته مختلفة وأكثر إثارة. كان يعيش مع عائلته في القامشلي. يقول: «لست مع بي كي كي»، أي «الاتحاد الديموقراطي الكردي» برئاسة صالح مسلم الذي سيطر تدريجياً على شمال سورية وشمالها الشرقي وأعلن إدارات ذاتية قبل حوالى سنتين. ويضيف: «لم أعد أطيق الحياة. إذا أنت لست معهم، فأنت ضدهم وستتعرض للتهميش والظلم والقهر… عندما كان الجيش مسيطراً بات كل الناس جيشاً حراً. عندما سيطرت جبهة النصرة باتوا جبهويين. وعندما سيطر بي كي كي باتوا يبايعون القائد عبدالله أوجلان. النظام نجح في برنامجه الخبيث في جعل الكل يحارب الكل، قوات النظام في جوار المقاتلين الأكراد في القامشلي. وفيها أعلام النظام وأعلام حزب الله وأعلام بي كي كي والآن علم روسيا… لم أعد أطيق الحال وقررت الرحيل».

القرار سهل رغم صعوبته، لكن التنفيذ أصعب. جرب مرة بعد مرة الهروب عبر شقوق الظلام إلى الجانب الآخر من الحدود. حاول الذهاب إلى حدود تركيا القريبة، في الطريق التي كان سلكها قبله خالد آتياً من مئات الكيلومترات قرب دمشق، لكنه تعرض مرات عدة لإطلاق النار. أخيراً وجد ضالته. تسلم عرضاً مغرياً يقوم على اعتبار كلفة الطفلين بكلفة طفل واحد. جمع حوالى ثلاثة آلاف دولار أميركي وأعطى المبلغ إلى سمسار وسيط يتعامل مع «بي كي كي» وقادة عشائر عربية، فنقلوه من قرب معبر ربيعة على حدود العراق إلى كردستان العراق… باتجاه تركيا.

أن تكون كردياً وأن تشترك في «الحلم الكردي»، لن يعفيك السمسار من كلفة النقل. دفع مئات الدولارات له وأسرته وشقيقه كي يركبوا البغال لعبور النهر بين كردستان العراق وتركيا. مغامرة ليست بعدها مغامرة، خصوصاً إذا أضيفت لها بعض الرشقات النارية من «البيشمركة» وحرس الحدود. بعدها، أخذوا الحافلة التركية باتجاه إزمير. لكن الرحلة لم تكن سهلة إذ اعتقلوا من قبل الشرطة التركية وبقوا مع مئات الموقوفين لأكثر من أسبوعين في سجن تركي قبل أن يفرج عنهم وتفتح لهم الطريق إلى البحر… إلى «قارب الموت».

«البلم» عبارة عن أنبوب مطاطي يتم وضع أخشاب فوقه. وينشر حوالى ٦٠ شخصاً عليها. وما كان على بهزاد سوى البحث على شبكات الإنترنت و «فايسبوك» عن مهرب مرتبط بشبكة تهريب من بودروم أو إزمير. وبالفعل وجد ضالته وتحدث معه بالهاتف النقال. وكي يخفف الكلفة، قرر أن يقود «البلم». لم يقد الشاب الكردي في حياته سيارة. أكثر ما فعله أنه كان يركب الحمار لدى ذهابه إلى أرضه الزراعية في ريف القامشلي. علمه المهرب «سر المصلحة». قال: «انفخ الأنبوب المطاطي وشغل المحرك وتوكل على الله وسر باتجاه الأضواء في الطرف الآخر من البحر. ساعتان أو ثلاث وتكون هناك». جهز نفسه نفسياً وعضلياً، لكن لمرتين أو ثلاث تأجل موعد الإقلاع إلى أرض الأحلام الموقتة. لكن في النتيجة أقلع «البلم»… وما إن دخل المياه الإقليمية اليونانية حتى جاءت سفينة حربية وكشفت مصيرهم بالأضواء ثم نقلتهم إلى مقر الشرطة. استفاد من كون زوجته حاملاً وأن لديه أطفالاً … نقل بعد ثلاثة أشهر من مقر الشرطة و «النقطة الحارة» إلى «الفندق» مع غيره من أصحاب «الحالات الخاصة».

لكن متى يعود بهزاد إلى سورية؟ يقول: «عندما ينتهي حكم بي كي كي. أنا لم أحمل سلاحاً وأكره السلاح. لا أريد أن يتعلم أبنائي مناهجهم العقائدية. بدأوا يعلّمون أطفالي عن معنى الاستشهاد والانتحار والقتل وتعظيم أوجلان… لا أريد هذا. طالما هم موجودون لن أعود حتى لو تأسست كردستان سورية»، أمر لا يوافق عليه أكراد آخرون يشعرون بالنشوة من الإنجازات التي يحققها «الاتحاد الديموقراطي» بدعم من التحالف الدولي بقيادة أميركا ضد «داعش» ومن روسيا.

بينما كان يستفيض بهزاد في معارضته لـ «بي كي كي»، مر رجل إرلندي. حشريته دفعته إلى السؤال. هو كان وضع قاربه الخاص على بعد مئات الأمتار وأراد التشمس سيراً على الأقدام في شوارع كوس. عندما عرف أنهم سوريون في انتظار الرحيل وخائفون من العودة إلى تركيا، راحت دموعه تنهمر على وجنتيه الحمراوين… لتتسلل إلى أسفل خديه. وقال مستفيداً من «تجربته» الإرلندية: «الشعب (السوري) وضع حلمه أمامه وحلمه سيتحقق»… ومضى تحت الشمس.

بودروم، التي عبر منها لاجئون تحت جناح الظلام، كانت تضم قبل سنة ٢٠ ألفاً. أما الآن، فليس هناك عدد واضح موجود علناً. لكن حاكمها محمد كوشدون غاضب من عدم التعاطي الجدي من المجتمع الدولي مع قضية اللاجئين، حيث في تركيا خمسة ملايين لاجئ بينهم ثلاثة ملايين سوري. كوشدون الذي كان يتحدث لـ «الحياة» في أحد فنادق بودروم عشية محاولة الانقلاب العسكري، يقول: «عار على الإنسانية كيفية التعاطي مع قضية اللاجئين. يجب أن ننتظر جميعاً لأن أياً منا ممكن أن يكون لاجئاً في أي لحظة».

كوشدون كان يحتفل مع رئيس الوزراء اليوناني السابق جورج باباندريو بـ «التوأمة» بين كوس وبودروم. هاتان المدينتان السياحيتان اللتان اختصرتا المسافة بينهما في ثلث ساعة، كانت «قوارب الموت» تقطعهما في ثلاث ساعات أو أكثر… كأنها تبحر في بحر من الدم. أصبحت المدينتان السياحيتان، التركية واليونانية، «شقيقتين» عربوناً للصداقة التي أطلق شرارتها باباندريو مع وزير الخارجية التركي الراحل إسماعيل جيم وحولا شرارة الحرب إلى شمعة أمل بعد عرض المساعدة في إنقاذ الأتراك الذين أصيبوا في هزة أرضية قبل سنوات. قال، من على تلة في بودروم تطل من وراء البحر جزيرة كوس، إنه خاطب «إنسانية اليونانيين لمساعدة جيرانهم… وفوجئنا بأن الاستجابة أكثر من المتوقع: زرعنا شجرة زيتون بدل الألغام. تحدينا الصور النمطية لتركيا لدى اليونانيين ولليونان لدى الأتراك… بدلاً من تثبيت الصورة الخاطئة».

كان باباندريو سعيداً عندما كان أهالي بودروم يرحبون به، بل إن رجالاً من الشرطة التركية توقفوا لأخذ صور معه. الانقلاب الذي أحدثه في العلاقات بين أنقرة وأثينا، كان موضع حديث أهالي المدينة الساحلية، عشية محاولة الانقلاب في أنقرة وإسطنبول.

القدرة على قلب مسار الأحداث، هي ما كان ينتظر مئات السوريين في كوس وعشرات الآلاف في اليونان وثلاثة ملايين لاجئ في تركيا كي يعودوا إلى بلادهم… وإلا فـ «إعادة التوطين» في تركيا أو أوروبا في انتظار الفرج على أمل عدم نسخ التجربة المرة للفلسطينيين.

ابراهيم حميدي – الحياة[ads3]

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي عكس السير وإنما عن رأي أصحابها

تعليق واحد

  1. عندما تتحكم بالدول مجرمين سفاحين كالأسد
    ويدعم من قبل مجرمين امثاله بوتين واوباما وإيران
    فباطن الارض خير من ظاهره