مأزق الإسلام السياسي

هناك ظاهرة تحدّت الإسلام السياسي بقوة، مذ وجد “الإخوان المسلمون” أنفسهم أمام سؤال: ما العمل، الذي طرحته عليهم مبادرة النظام الناصري إلى إحكام قبضته على المؤسسة الدينية، الأوقافية والأزهرية من جانب، وتبين لقادتهم أن عائد نشاطهم الدعوي يميل، سياسياً، نحو الصفر، وأن بديله العسكري لا يستطيع حماية الجماعة، بل هو مكلف إلى درجةٍ تهدّد بالقضاء عليها، كما أكّد، خلال الخمسينيات، صدامها مع النظام العسكري الجديد في القاهرة، من جانب آخر.

ولأن الجماعة لم تقدم جواباً ناجعاً على تحدٍّ سياسيٍّ تلازم مع ضمور شعبيتها، وصعود جماهيري كاسح لخصمها الناصري خصوصاً، والقومي عموماً، ولأن تلاشي قدراتها ودورها بدا وكأنه يؤذن، في الوقت نفسه، بتلاشي دور الإسلام السياسي في حياة المجتمعات العربية الراهنة، فقد طرح أتباع العمل السياسي الإسلامي على أنفسهم مهمة البحث عن بديلٍ، يعيده إلى موقعه، طرفاً نقيضاً للنظم القومية الصاعدة، وقد جاء الرد من تيارين رئيسين، حاولا سد الفراغ الذي ترتب على تراجع تيار التغيير، من خلال الدعوة، واعتمدا سياسة إسلامية، قالت بالحاكمية الإلهية، بتطبيق الشرع. هذان التياران جسّدهما:

تيار سني كانت أطراف منه منتسبة إلى جماعة الإخوان المسلمين أو قريبة منها، بيد أنها انفكت عنها بتأثير من فكر أبي الأعلى المودودي ثم سيد قطب، وأنشأت تنظيمات جهادية مسلحة آمنت أن الإسلام يقدّم نظريةً في الحكم قدسية الماهية، تسمو على أية نظرية وضعية بلورها بشر، وأن في استطاعة المسلمين إقامة نظام إلهي المصدر، لا تخالطه أية شوائب دهرية أو دنيوية، وأن إقامته رهن بتأسيس فرق أو كيانات جهادية سرية، لا بأس عليها إن كانت قليلة العدد، إن أوكلت تحقيق دعوتها وبلوغ هدفها إلى السلاح: أداتها الرئيسة لتعبئة المجتمعات الإسلامية، وإعدادها لمعركة تكمن دعويتها في سلاحها ووعد الدولة الإسلامية، الذي يتكفل باجتذاب المؤمنين إلى الجهاد، وبالانفكاك عن دعاة هم في “فقهاء السلطان” الذين يجب تحرير عقول المؤمنين مما يزرعونه فيها من خروجٍ على الدين، يتجسّد في دعوتهم إلى التعايش والتمازج بين الإسلام والنظم الوضعية، برفع قبضتهم عن المسلمين، وقصر العلاقة مع النظم القائمة على الجهاد ضدها، ومواجهة قمعها وعنفها بأقصى قدر من القوة والعنف، وإسقاطها كنظم كفر وعلمانية، وعداء لله ورسوله.

تيار شيعي أوصلته الثورة الإيرانية عام 1979 إلى الحكم في طهران، تزعمه الخميني، وادّعى لنفسه شرعية إسلامية، استمدها من نظريةٍ جعلت ولاة الفقيه منتدبين من الإمام الغائب، ومزودين بصلاحياته في الحكم طوال غيبته، وحولت مذهب أهل الشيعة إلى أيديولوجية قومية للدولة الإيرانية، والمذهب الوحيد المطابق للإسلام، ووفقت بين رجل الدين ورجل السياسة، وبين سياسته والدين، وجعلت الملالي ساسةً والساسة ملالي، والمذهب الشيعي عقيدةً، تنوجد الدولة الإسلامية بها دون غيرها، فهي مصدرها الذي يبطل أي مصدر آخر. ويطرح علاقة الإسلام بالسياسة في سياق مغاير لكل ما سبق للحركات الإسلامية أن طرحته، جماعة الإخوان المسلمين كما الجماعات السلفية والجهادية التي يجب أن تعمل إيران على منع وصولها إلى السلطة في أي بلد إسلامي، كي لا يكون هناك أي بديل لنظامها: ممثل الإسلام الوحيد، وإن كان من المفيد تغذية نزعات التطرف السني، واستخدامها أدواتٍ إرهابيةً، تمكّن طهران من الضغط على العالم، وزج الإسلام السني في صراعاتٍ داخليةٍ، تستنزفه وتسلبه القدرة على امتلاك خيارات يقبلها المؤمنون والعالم، تستطيع بناء نظم تنفذ خططاً تنموية، تتفاعل بصور متبادلة وإيجابية مع العالم المتقدم، وتكوير العالم الإسلامي حول خياراتٍ يقبلها، أبرز نماذجها في أيامنا نظام حزب العدالة والتنمية الذي يقود تركيا، ويقدم بديلاً ناجحاً وعقلانياً لنظام ملالي إيران المغرق في الطائفية والعداء للمختلف من المسلمين من جهة، وللسلفية الجهادية وتنظيماتها السنية التي اخترق كثيرا منها، من جهة أخرى.

بسبب التطرّف الشيعي الذي تجسّده دولة الملالي وتنظيماتها المسلحة، المعادية لوسطها الأغلبي، السني، والمزروعة في أماكن متعدّدة من ديار المسلمين، والتطرف السني الذي نجح في تأليب العالم ضده، وأجبره على اعتبار وصوله إلى الحكم في أي مكان خطاً أحمر يستدعي منع تخطيه استخدام القوة لضرب السلفيين والجهاديين، باعتبارهم إرهابيين يهدّدون أمن البشرية وسلامها. ونتيجة للخيارات الخاطئة التي اعتمدها نظام الإخوان في مصر، بقيادة الرئيس محمد مرسي، وأفقدته، بسرعةٍ قياسيةٍ، ما كان قد اكتسبه من قوة وحضور خلال ثورة عام 2011، أو حصل عليه من شرعية عبر انتخابات رئاسية نزيهة، يبدو الحكم الإسلامي وكأنه فقد أهليته السياسية في التجربتين، وقابليته لحماية استقلاله النسبي عن المذهبية، وقدرته على ابتكار أنماط من الحكم، ليست من حاكمية البشر (الملالي) أو الجهاديين (القاعدة وداعش)، ويبدو أنه انخرط في تطرفٍ تمزيقي يحول دون نجاح أي جهدٍ سياسيٍّ، يدير الدولة والمجتمع، استناداً إلى قيمه، من دون أن يكون دينياً بالضرورة، أو بصورة حصرية.

بانفراد تركيا بالتوفيق بين تعاليم الإسلام الأخلاقية ومبادئه القيمية من جهة ومتطلبات بناء دولة حديثة ومجتمع تعددي من جهة أخرى، وبتخلق معركة يخوضها الغرب ضد العالم الإسلامي، يحاول ترجمتها إلى اقتتال شيعي/سني، تمس حاجة دول كبرى وإقليمية عديدة إلى إفشال تجربة “العدالة والتنمية” في تركيا، ويناصبها التطرّفان، الشيعي والسني، العداء، ويعملان لإفشالها بالوسائل كافة، وتقييد قدرتها على منع العالم الإسلامي من الانتحار بأيدي مكوناته المذهبية، وما أعدته للاقتتال بينها من أسلحة وجيوش ومرتزقة وإرهابيين. وإذا كان حكم “العدالة والتنمية” قد أفشل انقلاب العسكر بالديمقراطية ووحدة الشعب التركي، فإنه سيواصل، على الأرجح، صموده عبر دفع نظامه الديمقراطي إلى أكثر صوره وأشكاله تقدماً، واستخدام ممكناته الهائلة لحل ما تواجهه دولته ومجتمعه من مشكلاتٍ، سينجح في ثلم مخاطرها بقدر ما تتعمق ديمقراطيته بالمواطنة المتساوية وحقوق الإنسان، وتترجم إلى عدالة ومساواة وكرامة إنسانية.

يكمن جذر استهداف تركيا في استثنائية نموذجها وعقلانيته وفرادته، وتحوله خلال فترة قصيرة إلى خيار وطني/ مجتمعي من طراز رفيع، واتخاذه صورة ردٍّ واقعي وناجح على السعي الدولي إلى تفجير العالم الإسلامي من خلال تناقضاته وخلافاته وصراعاته، التي لم تجد حكوماته القائمة، الضعيفة والتابعة، سبيلاً إلى وقفها أو تخفيف وطأتها، وتحرّضها، في المقابل، حركاته الدينية مذهبية الطابع، المعادية للعقل والعصر. بما أن انفجار العالم الإسلامي يتطلب، بين أشياء أخرى، الإجهاز على النموذج التركي، فإن هذا النموذج يرجح أن يبقى مهدّداً بمخاطر نجح في تخطي أولها بالأمس، ولا بد من نجاحه في تجاوز بقيتها غداً، ما دامت نجاته تعني وجود فرصةٍ حقيقية لنجاة العالم الإسلامي.

ميشيل كيلو – العربي الجديد[ads3]

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي عكس السير وإنما عن رأي أصحابها

‫6 تعليقات

  1. يكاد ان يقول ميشيل كيلو ان نظام الحكم في تركيا بقيادة اردوغان هو استمرار للعلمانية وهو بديل ثالث عن جكم الإخوان المسلمين أو نظام الملالي في إيران في نوع من المحاباة والتزلف الممجوجين والمقيتين. والحقيقة هي عكس ذلك تماما ,فنظام الحكم في تركيا حاليا بزعامة أردوغان يبتعد عن العلمانية ويسير بتركيا نحو نظام ديني دكتاتوري مستلهما “فكر” الإخوان المسلمين.لاحد يدري ان نجح نظام اردوغان في “انفراد تركيا بالتوفيق بين تعاليم الإسلام الأخلاقية ومبادئه القيمية من جهة ومتطلبات بناء دولة حديثة ومجتمع تعددي من جهة أخرى….”
    اين التعددية في طرد اكثر من 50 الف موظف وعسكري من وظائهم وفقا للائحة الإتهام التي إعدت سلفا قبل الإنقلاب المفبرك من قبل مخابرات اردوغان,أين الدولة الحديثة في إضطهاده للأاقلية المسيحية في تركيا, ينسى او يتناسى الأخ ميشيل كيلو أن الذي أتى بأردوغان إلى السلطة بإنتخابات عام 2014 هو التفجيرات في تركيا والتي ذهبت بأرواح الأبرياء من مواطنيه والتي هو العقل المدبر وارئها وأرسى مناخ من الخوف والرعب كي يلجأ إليه الناس “كمنقذ” وهو تكتيك كنتم تتهمون به بشار عدو اردوغان.ثم ماذا بشأن دعم ورعاية اردوغان لقطعان داعش وفتح الحدود إلى سوريا بلدك كي يعملو الذبح والصلب والحرق في أقذر سياسة خارجية في التاريخ. وفقا لمقالة ميشيل كيلو أعلاه كاد أردوغان أن يكون رسولا. ولك عيب عليك أستحي على دمك . فإما انك أضعت البوصلة بالكامل أو أن الدولارات فعلت فعلها.

    1. ههههههههههخ: مقال فريد من نوعه وذكاء خارق عابر للقارات شو. هاد شو هاد شو هالفظاعة ٠ فعلا اردوغان ديكتاتور طرد اكثر من خمسين الف موظف وعسكري من عدد سكان تركيا البالغ ثمانون مليون ٠ بعدين اردوغان أتى الى السلطة بواسطة تفجيرات تركيا ٠ فعلا اردوغان ارهابي خطير وسياسته مافي أقذر منها بالتاريخ ٠ لك أنا بحياتي كلها ما عّم شوف يا جماعة اخرى من تحليلات ***ت المنحبكجية ٠ ايها اللعين. بشار الإهبل قتل نصف مليون إنسان وشرد حوالي سبعة مليون واعتقل وعذب عشرات الآلاف من جملة عدد سكان سوريا البالغ ثلاث وعشرون مليونا اي بقي من عدد سكان سوريا حوالي اثنا عشر مليون ٠ وكلامي موجه لهذا الكلب الجربان البايع ضميره وشرفه ٠ من اخرج المجرمين والقتلة من السجون والبسهم لباس افغاني ومكيجهم وهم من كبار عكاريت المخابرات ٠ ثم دعمته ايران بجماعات القاعدة التي رعتها وكفلتها ايران فولدت مسخا مشوها هي داعش التي قتلت من السنة عشرات الآلاف وظلت بعيدة عن ايران وحدود ايران ٠ فهمت يا حمار ٠

  2. كيلو يسمح لنفسه بتقييم الإسلام و الجماعات الإسلامية و كأنه يمتلك المنطق و الحكمة و العلم الذي يخوله لإطلاق الأحكام فهو من أشد أعداء الإخوان المسلمين بل و أقول كل المسلمين إلا من أظهر منهم تنكّرا لدينه.
    أنا أدعوه، إذا أَحَبَّ، كونه نصرانياً و لابد أنه بجلالة قدره و غزارة علمه أولى بذلك، أن يكتب لنا تفسيراً عن ظاهرة نكران الجميل الذي يتصف به نصارى الشام و الذين عاشوا معنا لأكثر من 14 قرناً متمتعين بحمايتنا و احترامنا و حريتهم ثم لا يتوانون عن خيانتنا و نصب العداء لنا بل و عون أعدائنا علينا سواء في سوريا أو لبنان؟؟؟
    أم أنه خبير في المسلمين عن سواهم؟؟؟

    1. كيلو لايفهم شء لانه وقف مع المعارضه معظم افرادها من امثالك اللذين يلغون الاخر وافكارهم جهاديه قبيحه من الذبح واشوي والغلي وجميع فنون التعذيب اما ان تقول ان المسيحين هم ناكري الجميل لامثالك خسئت انت ومثالك فهذا الارض ارضنا منذ البداية وامثالك غزاة لارضنا يجب ضردهم من ارض السريان

  3. انا احترم هذا الشخص بغض النظر عن ديانته كل مواقفه تشهد انه وطني مخلص محب لشعبه ٠ بشار الأهبل استطاع إقناع الدروز والنصارى ان مصلحتهم مع النظام ٠ او بعبارة اخرى يتم تهديدهم بحياتهم واولادهم وأعمالهم اذا انحازوا للثورة السورية ٠ هو انظف بكثير من هذا العلوي التافه يللي يدعي انه معارض وهو عنصري طائفي خنزير لوءي حسين ٠ وكيلوا أفضل بكثير من بعض المعارضين يللي بس بنشوف اشكالهم ولا نعلم قرعة ابوهم من وين ٠ مرة ثانية لم نرى اي موقف شاذ لهذا الانسان ٠ بل التزام كامل بأهداف الثورة السورية ٠