السياسة كصنع للمشكلات العامة

بعد أسابيع من تفجر الثورة السورية بادرت الدولة الأسدية إلى إعطاء الجنسية لكرد كان أقدمهم قد حرم منها قبل نحو نصف قرن. كانت هذه المشكلة بنداً ثابتا في جدول عمل الديمقراطيين السوريين منذ أيام «ربيع دمشق»، ومطالب الناشطين الكرد طوال الوقت، دون أن تلقى أي استجابة. وبعد الثورة عولجت المشكلة التي كان يتضرر منها فوق 100 ألف من السكان دون عواقب من أي نوع ودون اعتراض من أحد.
ومنذ أيام «ربيع دمشق» أيضاً كانت هناك مطالبة واسعة لم تلق أي استجابة بإلغاء المادة الدستورية التي تمنح حزب البعث دور «القائد للدولة والمجتمع». فقط بعد الثورة بعام اعتمدت الدولة الأسدية دستوراً جديداً لا يتضمن هذه المادة. هنا أيضاً لم نشهد أدنى حد من الاعتراض البعثي أو غير البعثي، أو أي نقاش في هذا الشأن.

وفي مقالة بالانكليزية نشرت يوم 24 آب 2014 عن طائفية الدولة الأسدية، نسب أميل حُكيِّم، وهو مختص بالدراسات الأمنية الشرق الأوسطية في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، نسب إلى من وصفه بـ»رجل أعمال علوي» كلاماً قاله قبل الثورة، في عام 2009، يفيد بأن من شأن تحول واسع ضمن الجماعة العلوية إلى مراتب الطبقة الوسطى أن يجعلها «غنية، سمينة، وكسولة»، غير قادرة تالياً على القتال من أجل بقاء النظام أو غير راغبة فيه. وهو ما يبدو أنه يوجب إبقاء قطاعات واسعة من العلويين مُفقرة، لا تعيش من غير بيع قوة قمعها لرأسمالي السلطة، الدولة الأسدية.

وقبل نحو ثلاث سنوات من الثورة السورية جرى تداول مشروع قانون جديد للأحوال الشخصية، كان بالغ الغرابة. فعدا أنه لم يكن هناك طلب معلوم على قانون أحوال شخصية جديد، فإن المسودة المقترحة تكلمت بصورة استفزازية على «ذميين»، وهو تعبير غاب عن القوانين السورية منذ تشكل سوريا المعاصرة قبل نحو قرن، ومواده بالغة البطريركية والتمييز ضد المرأة. المشروع الذي أتيح تداوله العام على نطاق واسع عام 2008 طوي مثلما ظهر، بعد أن أثار موجة من التوتر والانفعال في أوساط المهتمين بالشؤون العامة من السوريين. في سوريا التي لا يجري تعيين آذن في إدارة عامة بدون موافقة المخابرات، على ما علق وقتها على مشروع القانون الدكتور اسماعيل الحامض (مخطوف من قبل داعش منذ نحو 3 سنوات)، جرى نشر وتداول قانون تمييزي جداً وطائفي جداً للأحوال الشخصية، وجرى توجيه النقاش باتجاه مسؤولية مشايخ مجهولين يبدو أنهم كتبوه، لا إلى النظام، أو حتى الحكومة التي أعلنت بعد هياج واسع طي المشروع كأن لم يكن!

تلقي هذه الأمثلة الأربعة متعددة المستويات سؤالاً عن آليات صنع السياسات العامة في «سوريا الأسد»، وعن البنية السياسية الكامنة خلفها. وفقاً لمنطق الدولة الحديثة في كل مكان يفترض المرء أن عمل السلطات العامة موجه نحو معالجة المشكلات الاجتماعية وحلها، ثم التفرغ لمواجهة غيرها، وأن المجتمعات تتقدم عبر عمل نخب الحكم على هذا النحو، بما يعود بالمنافع على السكان، ويمتص أية توترات اجتماعية محتملة. وأنه في الشؤون الإشكالية التي قد تواجه جهود معالجة مشكلات اجتماعية بتذمر قطاعات من السكان، يمكن لنخبة السلطة أن تعمل على تغيير المواقف العامة بصور متنوعة، منها النقاش العلني وحملات الإقناع والحوار، ومنها إظهار المنافع المحتملة لمعالجة المشكلة المعنية على النحو المقترح لا غيره، ومنها تعويض المتضررين بصور متنوعة، ومنها تأجيل المعالجة المقترحة أو حتى إلغاؤها. المعيار في كل حال هو مجتمع يتحرر ويغتني، وتوترات عامة أقل. لكن حيال مثال الدولة الأسدية نحن مسوقون بالأحرى إلى الكلام على نموذج آخر للدولة، الدولة الي تصنع المشكلات كي يرتبك بها محكوموها وبغرض إضعافهم جميعاً أمامها، وتوسيع هوامش مناورتها الذاتية حيالهم. هنا لا تتمايز الدولة عن السلطة كتفويض مؤقت بإدارة الدولة، ولا تبادر الدولة – السلطة إلى معالجة المشكلات إلا إذا كانت تجني عوائد منها أكبر مما يعود على المجتمع ككل، وتعزز قدرتها على الإمساك به. المجتمع الجيد عند الأسديين وأشباههم هو المجتمع الممسوك وليس المجتمع المتماسك.

لم يبادر النظام إلى معالجة مشكلة المحرومين من الجنسية لأن ليس هناك سبب وجيه من وجهة نظر تكوينه لأن يعطي مكسباً لقطاع من السكان يخفف التوتر العام في البلد، بدلا من الاحتفاظ بورقة يمكن أن يبيعها يوماً أو يفاوض عليها ويحصل على مقابل مناسب. عالج المشكلة فقط حين كان متوقعاً أن يجني منها عائداً يتمثل في تحييد الكرد أو اجتذابهم إلى صفه في مواجهة الثورة. قد نتذكر أنه في الفترة نفسها أيضاً، وفي الوقت نفسه تقريباً، كان النظام يطلق سراح سجناء سلفيين من معتقلاته، كان بعضهم موقوفاً منذ عامين أو ثلاثة، وكان ظاهراً أن إخلاء سبيلهم لم يكن بادرة نحو حل مشكلة سياسية أو حقوقية عامة (طل الملوحي التي كان عمرها 18 عاما وقت اعتقالها عام 2009، ونالت حكما بخمس سنوات لا تزال في سجن النظام اليوم)، بل هو مساهمة في تصنيع مشكلة تسهم في إضعاف محكوميه الثائرين. الأمر، تالياً، لا يقتصر على عدم المباردة إلى معالجة مشكلات اجتماعية، بل إلى خلق مشكلات تعود على مالكي الدولة بمكاسب سياسية إضافية. وكانت سياسة النظام اللبنانية طوال عقود تنضبط بهذا النموذج: إشعال الحرائق، ثم تحصيل مكاسب من نافذين إقليميين ودوليين على المساهمة في إطفائها.

وحين اعتمد دستور جديد أغفل المادة التي تنصب حزب البعث قائدا للدولة والمجتمع كان الغرض إعطاء انطباع بوجود عملية سياسية وإصلاحات تباع للإيرانيين والروس، وللغرب. في واقع الأمر كان حزب البعث ميتاً منذ سنين طويلة، لكن كان من شأن إزالة زائدة ميتة استجابة لطلب معارضين أن يُطمِّعهم بالمزيد. وفقط حين صار متوقعا جني عائدٍ ما من التخلص من شيء عديم القيمة يجري بيع هذا الشيء لراغبين في الشراء.

وكان من شأن تحسن عام في أوضاع العلويين أن يفقد النظام قوة القمع التي يعتمد عليها في بقائه، وأن يجعل قطاعات متسعة منهم غير معتمدة عليه في دخلها ومعيشتها، فتطور مواقف أكثر استقلالية.

وبدت سياسة النظام الإسلامية، وليس مشروع قانون الأحوال الشخصية فقط، موجهة نحو إثارة توترات اجتماعية وتنابذ السوريين، بحيث تكون الدولة الأسدية هي الحل في محتمع متخاوف، تتراجع فيه ثقة السكان ببعضهم.
وفي كل حال، أظهرت الدولة الأسدية على الدوام استعداداً طيباً لتغيير أي شيء بشرط أن يبقى كل شيء على ما هو عليه. وما ينبغي أن يبقى على ما هو عليه تحديداً هو الموقع المهيمن للأسديين حيال المجتمع، أي التحكم بتفاعلاته وتوجيهها على النحو الملائم للدولة-السلطة.

وخلال أربعين عاماً امتنع على دولة الأسديين حل مشكلات بسيطة في بلد ليس فقيراً بالموارد: كهرباء لا تنقطع، خبز متوفر على نحو دائم، وسائل نقل عام تصون كرامة السكان، مدارس تتحسن. على هذا المستوى الأخير تاريخ سنوات الأسديين هو تاريخ تدهور المدرسة العامة. وبمجملها، هذه أوضاع عامة أبقت السوريين مشغولين بعيشهم المحض، ومن ارتفعت رؤوسهم ونظروا حولهم، كانت لهم بالمرصاد وظيفة أمنية متضخمة، هي الوحيدة التي تحسنت هيكلتها وتعزز انضباطها طوال الأعوام الأربعين.

هذا نسق سياسي خاص، تعمل الدولة فيه على صنع التوترات والمشكلات في مجتمع المحكومين، وليس على تخفيف التوترات ومعالجة المشكلات مما لا يخلو منه أي مجتمع. ويرتبط هذا النسق الخاص بأولوية نخبة الحكم المتمثلة في البقاء «إلى الأبد»، وما تقتضيه من إضعاف مجتمع المحكومين وشغلهم بمشكلات لا تنتهي. وهو بعد أوثق ارتباطاً بنزع الطابع الوطني للدولة في سوريا لمصلحة السلالة وخلودها، والانفصال الأخلاقي والثقافي للدولة السلالية عن محكوميها. هذا النسق السياسي الخاص هو نسق الدولة السلالية أو السلطانية المحدثة، وهو في تقابل ضدي مع الدولة الوطنية أو الدولة – الأمة.

وليس المآل التدميري لهذه النموذج على نحو ما نشهده اليوم في سوريا منفصلاً عن أسسه في تصور غير وطني وغير إنساني للسياسة، التعامل مع المحكومين كأعداء والحرص على تفريق صفوفهم وتكبيل أيديهم. سياسة الدولة الأسدية بعد الثورة استمرار لسياسة الدولة الأسدية قبل الثورة، لكن بمقياس الأوضاع الجديدة.

ياسين الحاج صالح – القدس العربي[ads3]

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي عكس السير وإنما عن رأي أصحابها

تعليق واحد

  1. مقال رائع مع أن مصيبتنا الكبرى مع النظام لم تكن في إثبات شرعيته أو في خوفه على (أبديته) من السوريين لأنها لاتبرر مافعله المقبور ووريثه الأهبلوف بنا من إفقار وإذلال وتجهيل وتعتير ….ولخوفه على وجوده فضل إلهائنا بحل المشاكل اللامتناهية التي يختلقها يوميا بغية إشغالنا بالبحث عن حلها وعن لقمة عيشنا التي أصبح الحصول عليها أصعب وأصعب يوما بعد يوم. لقد كان بإمكان النظام اتباع سياسة الدول الخليجية وإلهائنا بسبل الرفاهية وإشغالنا بتبديل سياراتنا والحديث عن كيفية قضاء عطلاتنا بدل إشغالنا بالوقوف في طوابير الذل للحصول على الخبز والغاز والسكر والرز والشاي ….الخ إذا لماذا اختار النظام الذل بدل الرفاهية مع العلم بأن الإذلال سيولد القهر وحب الانتقام أما الرفاهية فقد تولد التململ والضجر ولكنها لاتصل لمستوى الانفجار كما حصل لاحقا في الثورة السورية ؟ الإجابة على هذا التساؤل يتعلق بتاريخ من وصلوا للسلطة وأحقادهم السوداء الدفينة الموروثة منذ زمن الإقطاعي ولشعورهم بالدونية ورغبتهم بالانتقام الشامل وإذلال وقهر من يفترض بأنهم أحفاد الإقطاعيين !! هذا النظام بتركيبته الأمنية الطائفية لايمثل إلا الحقد الأعمى بأقبح صوره وأشكاله ولأجل حقده وانتقامه أذلنا وأفقرنا لخمسين عاما ولأجل الحقد والانتقام كذلك دمر سوريا بمن فيها فهل اشتفى غليل حقدهم الآن ؟ لاأعتقد ذلك .