الفاتيكان و خمير الفريسيين : حلب ليست غروزني

زائر الموقع الرسمي لإذاعة الفاتيكان يعثر على موادّ كثيرة تخصّ معاناة السوريين عموماً، وأهل حلب بصفة خاصة. وتنقل الإذاعة، على لسان البابا فرنسيس نفسه، نداءات تعاطف وإشفاق وقلق، في ما يتصل بأعمال القصف تحديداً، والحثّ على إجلاء المدنيين، والأطفال أولاً. وفي واحدة من أحدث مقابلاته العامة مع المؤمنين، قال البابا: «يتجه فكري مرة جديدة إلى سوريا الحبيبة والتي تعاني بشدة»، مضيفاً أنه يتحد مع سكان حلب في معاناتهم، من خلال الصلاة والقرب والروحي. وإذ عبّر عن ألمه العميق وقلقه الشديد إزاء ما يحصل في هذه المدينة، حيث يموت أطفال ومسنون ومرضى وشباب كما نقلت الإذاعة، جدّد البابا دعوة الجميع إلى الالتزام بحماية المدنيين لكونه واجبًا إلزاميًا وملحاً: «أتوجه إلى ضمير المسؤولين عن عمليات القصف الذين سيحاسبون أمام الله!».

وإذا صحّ أنّ المرء، الناظر إلى الحال هذه من زاوية واقعية مبسطة، وبصدد الملف السوري في حصيلته الراهنة، لا ينتظر من الفاتيكان ما هو أبعد، أو أكثر، من مواقف التعاطف الروحي؛ سواء صيغت بلغة إنجيلية مفعمة بالألم، أو ذهبت أبعد فألمحت إلى الحساب يوم الدين، أو التزمت الحدود الدبلوماسية التي لا تخرج بها عن الحياد إلا في مستوى التآخي الإنساني مع العذاب. فهل يتوجب، أخلاقياً أولاً، ثمّ تاريخياً تالياً، أن يكون العكس هو الصحيح: أي أن ينحاز الفاتيكان إلى الضحية والقتيل، ضدّ مجرم الحرب والقاتل، وأن يسمّي الأساء بمسمياتها الفعلية، بوضوح وصراحة، دون تلطيف وتشذيب، ثمّ دون حيادية لا تنتهي إلى المثالية الصرفة بل إلى المواربة كذلك؟

سؤال وجيه، بالطبع، رغم أنّ التاريخ لا يقدّم عليه إجابة شافية، بل لعلّ مواقف الفاتيكان تشير إلى النقيض. هنالك، أولاً، ميل الكنيسة إلى تسويات ما تزال جزئية فقط، أو مجتزأة ناقصة، في الملفّ الأكثر حساسية، والأعلى مسؤولية أخلاقية في الواقع؛ أي مواقف الصمت أو التواطؤ أو حتى المباركة، التي اتخذتها بعض المؤسسات الكاثوليكية إزاء الجرائم النازية. وعلى سبيل المثال، في خريف 1997، أقرّت الكنيسة الكاثوليكية الفرنسية، بعد 57 سنة، أنّ صمتها المطبق على ترحيل 75 ألف يهودي إلى المعسكرات النازية (لم يبق منهم على قيد الحياة سوى ثلاثة آلاف) لم يكن سلوكاً مسيحياً لائقاً، وهو بالتالي يستوجب الاعتذار العلني وبأفصح العبارات.

«إننا نسأل الله الغفران، ونريد من الشعب اليهودي أن يستمع إلى كلمات توبتنا هذه»، غصّ الأسقف أوليفييه دوبيرانجيه وهو يتلو نصّ التوبة، محاطاً بما لا يقلّ عن ثلاثين من كبار أساقفة الكنيسة الكاثوليكية الفرنسية. ولكي يقترن الاعتذار بالدرجة المطلوبة من التفلسف حول الذاكرة وجدل التاريخ، بدأ الأسقف دوبيرانجيه خطبته بهذه العبارة الدالة: «الحدث الرئيسي الأكبر في تاريخ القرن العشرين، أي محاولة النازيين إفناء الشعب اليهودي، يطرح على الضمير أسئلة جلية لا يمكن لأي كائن بشري أن يتجاهلها. ولأنها أبعد ما تكون عن المطالبة بنسيان ذلك الحدث، فإن الكنيسة الكاثوليكية تعرف أن الضمير يتأسس بفعل الاستذكار، وأنه ما من مجتمع، وما من فرد في مقدوره العيش بسلام مع الذات حين يكون الماضي مطموساً أو كاذباً».

كان الكلام جميلاً وسليماً تماماً، خاصة إذا تذكّر المرء الصمت (الرهيب بالفعل!) الذي التزمته الكنيسة الكاثوليكية إزاء ترحيل اليهود، وإخضاعهم لسياسات تمييز جائرة، مثل تعليق نجمة داود على الصدر بصورة إلزامية، والمنع من الوظائف الدبلوماسية والعسكرية والتدريسية، ومصادرة الأملاك. أكثر من ذلك، ثمة تلك العبارة/ المسمار التي رددها، آنذاك، الكاردينال بيير جيرلييه أسقف ليون: «الماريشال بيتان هو فرنسا، وفرنسا هي الماريشال بيتان»، ورددت أصداءها جدران كاتدرائية بوردو العريقة أثناء قيام الماريشال بزيارة الكاتدرائية، بصفته زعيم حكومة فيشي المتعاونة مع النازيين. وثمة ذلك النداء، الرهيب بدوره، الذي أطلقه الكاردينال الفرنسي الكاثوليكي بودريار عام 1941: «لأنني قسّ وفرنسي يمرّ بمرحلة حاسمة، هل في وسعي أن أرفض إقرار المشروع النبيل المشترك الذي تقوده ألمانيا، والذي يسعى إلى تخليص فرنسا وأوروبا والعالم بأسره من الهواجس الأشد خطورة، وإقامة تآخٍ صحي بين الشعوب على خلفية تجديد مسيحية القرون الوسطى؟ ها قد حان الوقت لحملة صليبية جديدة. وأؤكد لكم أن ضريح المسيح سوف يتحرر. ومن خلال أحزان اللحظة سوف ينبلج فجر جديد».

الاعتذار، بالتالي، كان واجباً على الكنيسة، وحقّاً لا يُنازع لآلاف اليهود الفرنسيين الذين أبيدوا أو اضطُهدوا أو خضعوا لهذه أو تلك من ممارسات التمييز على أساس المعتقد الديني. ولكن… ألم تكن المناسبة، أو ما يشابهها من مناسبات، تستثير اعتذاراً مماثلاً عن صمت الكنيسة الكاثوليكية الفرنسية (ذلك الصمت الذي كان مطبقاً أحياناً، نسبياً أحياناً أخرى) إزاء مليون ضحية جزائرية، أثناء حرب التحرير؟ وإذا كانت تعقيدات أرشيفية سياسية وتاريخية، ما تزال تكتنف هذا الملفّ بالذات، فماذا عن المجزرة الرهيبة الشهيرة التي وقعت عام 1961، وذهب ضحيتها 200 من المتظاهرين الجزائريين، الذين قضوا غرقاً حين دفعتهم مفارز الشرطة الفرنسية إلى مياه نهر السين، في قلب باريس، أيام الجنرال دوغول دون سواه؟ وماذا عن المفارقة الرديفة لهذه الجريمة البشعة، والمتمثلة في أنّ قائد الشرطة، الذي أعطى الأمر بقمع المتظاهرين إلى درجة إبادتهم جماعياً، لم يكن سوى موريس بابون… الذي شاءت فرنسا أن تحاكمه علانية بتهمة تسهيل تسليم اليهود إلى النازيين؟

وبمعزل عن مقدار الشكّ أو اليقين حول تنويعات نظرية المؤامرة، التي تقول بتأثير مجموعات الضغط اليهودية في حياة العالم السياسية والاقتصادية والمالية، وكذلك الاجتماعية والثقافية والدينية كما يذهب البعض، فإنّ من الإنصاف القول إنّ هذه المجموعات واصلت إحراز انتصارات مؤزرة في حكاية اعتذار الكنيسة الكاثوليكية. وقد يقول قائل، محقاً بالطبع، إنّ مأساة اليهود لا تشبه مأساة الجزائريين، ولا السوريين في أيامنا هذه؛ فيردّ عليه آخر، محقاً من جانبه أيضاً، أنّ الموقف من المآسي الجماعية لا يجوز أن يخضع لسلّم درجات تفضيلية، أو أولويات. ولكن، في المقابل، وبين هذا القائل وذاك، يعيد التاريخ استذكار ملفات أقدم عهداً تثبت صفة الرعاية الاستثنائية التي صارت الكنيسة تمنحها للهولوكوست، بدليل الاعتذارات المتواصلة بصدد وقائعه المختلفة، بالمقارنة مع صمت الكنيسة إزاء مآس أخرى ليست أقلّ احتشاداً بالأهوال والفظائع.

على سبيل المثال الأبرز: ما تزال الكنيسة الكاثوليكية الإسبانية تمارس الصمت المطبق إزاء عمليات الإبادة الجماعية التي مارسها الفاتحون الإسبان ضدّ الأقوام الأصلية الأمريكية (الهنود الحمر في تسمية كريستوفر كولومبوس)؛ وسط لامبالاة الكنيسة، ولكن… مع مباركتها للمذابح في أمثلة عديدة! والتاريخ يسجّل أنّ المبشّر المسيحي كان العمود الرابع في تنفيذ الفتح، بعد الملاّح، والكاتب المؤرّخ، والفاتح العسكري. يومذاك كان الفقيه الإسباني خوان دي سيبولفيدا قد برّر إبادة أهل الأرض هكذا: «كيف يمكن لأحد أن يعتبر غزوهم، وإبادتهم في حال الضرورة، أمراً غير مبرر وهم في ما هم عليه من همجية وبربرية ووثنية وكفر ودعارة»؟

وقبل أيام ذهب البابا فرنسيس إلى إنجيل لوقا، فاقتبس يسوع: «إحذروا خمير الفريسيين،‏ الذي هو الرياء»؛ ولعلّ الاقتباس لا يخص المرائين المنافقين هنا وهناك في العالم خارج الفاتيكان، فحسب؛ بل ينطبق كذلك على مواقف كنائس كثيرة لا ترى تشابهاً بين حلب ـ أو دير الزور أو دوما أو الزبداني أو قدسيا… ـ وبين أوشفتز؛ أو حتى… غروزني!

صبحي حديدي – القدس العربي[ads3]

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي عكس السير وإنما عن رأي أصحابها

‫3 تعليقات

  1. كل ما يقوله البابا جيد واتمنى لو ان احدا يسمعه ولكن للاسف فان من يتاشدهم البابا لايقاف المذبحة هم قتلة وصم بكم عمي لا يفقهون

  2. بابا بالعصر الحالي!! نحنا عام 2016 !! البابا يادوب يمون على سكان دولتو الفاتيكان!! اتذكرت واحد اجدب مسيحي على عكس السير مبارح عم يعلق من كل عقلو و يلوم البابا لانو عم يساهم باسلمة اوروبا!! اي البابا تبعي انا بمون اكتر من بابا الفاتيكان اتركوا بهمو هالمسكين!!

  3. كل مايقوله البابا كذب وضحك عالذقون بامكانه أن يوقف الحرب خلال ساعة لكن باعتبار أن أغلب الضحايا مسلمون سنة فان القلق والاستنكار يكفي فقط