مغامرات ترامب و غارات بوتين : تكامل الحياء و الدماء
خلال الأسبوع المنصرم، وحده، الذي شهد كثافة عالية لعمليات الطيران الحربي الروسي ومروحيات النظام السوري ضدّ مناطق في إدلب وريفها؛ ارتفع عدد الشهداء السوريين المدنيين إلى 90، بينهم 22 طفلاً و20 امرأة، فضلاً عن عشرات الجرحى. ذروة هذه الوحشية وقعت قبل يومين، حين قُصف تجمّع للمدارس في بلدة حاس، القريبة من كفرنبل، فبلغ عدد الشهداء ـ حتى ساعة كتابة هذه السطور، بالطبع ـ 35 مدنياً، بينهم 11 طفلاً و7 نساء. قبل مجزرة حاس، كانت أعمال القصف قد استهدفت مدن وبلدات وقرى جسر الشغور ومعرة النعمان والبارة والشيخ مصطفى والنقير، ومعرشمارين وبابولين…
في وسائل الإعلام الروسية، حتى تلك التي تُلصق صفة «المعارضة»، أو الليبرالية، أو النأي عن سياسات الكرملين، أو تعكس وجهة نظر رجال الأعمال الأقرب إلى الغرب (والمرء يضع جانباً إعلام المافيا الروسية، لأنه مرآة بالغة الإخلاص للنظام)… ثمة تطبيل وتزمير لتصريحات وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، حول توقف المقاتلات الروسية عن قصف حلب خلال الأيام الماضية/ وثمة، في السياقات ذاتها، ولع بحديثه عن «الممرات الآمنة» لتأمين خروج المدنيين من حلب؛ ومباركته لمقترحات المبعوث الأممي، ستافان دي ميستورا، حول ممرات أخرى موازية لانسحاب مقاتلي جبهة النصرة (الإعلام الروسي، في غالبيته، لا يعترف بالتسمية الجديدة: «جبهة فتح الشام»!).
ماذا عن إدلب؟ ماذا عن مدارس حاس؟ ماذا عن تلامذة المدارس؟ لا شيء، تقريباً؛ أو لا وقائع خارج تلك التي يتحدث عنها الوزير شويغو.
ولا غرابة، أيضاً، في واقع الأمر. هذه قوة عظمى تمارس جرائم الحرب في سوريا، بصفة يومية؛ فلا تستثني مستشفى، أو مدرسة، أو مخبزاً، أو سوقاً شعبية، أو مسجداً. وهي تستخدم كلّ صنوف الأسلحة، خاصة المحرّمة منها دولياً، وبالأخصّ تلك الصنوف التي عفا عليها الزمان، ومن الأجدى إسقاطها على مدن وبلدات وقرى سوريا، بدل تلويث أراضي روسيا الأمّ عن طريق إتلافها أو طمرها (كما يتفاخر فلاديمير جرينوفسكي، زعيم «الحزب الليبرالي الديمقراطي الروسي»!). وهي قوة عظمى لا تجد رادعاً يردعها، ضمن صفوف ما يُسمّى «المجتمع الدولي»؛ وتجد أكثر بكثير مما تحتاج من خنوع وتبعية بشار الأسد، وشهيته لتحليق القاذفات الروسية في أربع رياح سوريا، وإفناء البشر والشجر والحجر…
فماذا، في المقابل، عن القوة العظمى الأولى: الولايات المتحدة الأمريكية؟ وماذا عنها، ليس على صعيد السياسات الرسمية لإدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما، فهذه باتت كلاسيكة؛ بل على صعيد الإعلام الأمريكي المستقل، أو الذي يزعم استقلالية أوسع بكثير من تلك التي تُنسب إلى الإعلام الروسي؟ ثمة مقالات الاحتجاج على خيارات البيت الأبيض، التي مكّنت موسكو من هذه الحال في سوريا؛ ولا يخلو المشهد من كتابات الإشفاق على الضحية السورية، وتقارير التعاطف مع الأطفال بصفة خاصة، واستهجان السلوك الروسي، وتقريع سيد الكرملين فلاديمير بوتين نفسه. وبين هذه وتلك، ثمة أولئك الغيارى على انحسار السطوة الأمريكية في العالم عموماً، وفي الشرق الأوسط خصوصاً؛ وأولئك الذين يعلقون الآمال على احتمال استئناف نفوذ واشنطن الكوني، على يد إدارة هيلاري كلنتون إنْ فازت، أو حتى دونالد ترامب!
وإذا كان في الوسع تفهم انشغال أمريكا بالانتخابات الرئاسية الوشيكة، فإنّ مقدار الانهماك بغارات بوتين الدموية يبدو مكمّلاً ـ من حيث معدّل النفاق الأخلاقي، بادئ ذي بدء ـ لانهماك أمريكا بتعقّب افتضاح الأسرار حول مغامرات ترامب الجنسية: غارة لا تجبّ مغامرة، ولكنّ المغامرة تفعل… فلا تجبّ فقط، أو تُلهي وتُنسي وتحرف الانتباه فحسب، بل تحثّ أيضاً على مزيد من النفاق! فإذا جرى ربط ما، وهذا إجراء نادر تماماً، بين الغارة والمغامرة؛ فإنّ الغائب الأكبر ـ أو بالأحرى: المغيّب، عن سابق قصد وتصميم ـ سوف يكون مقدار التنافر بين التباكي على الأخلاق الجنسية للمرشح ترامب، والتباكي على الأخلاق العسكرية للرئيس بوتين! وفي كلّ حال، شائع أيضاً ذلك المقدار من التعامي عن مستويات التورط الأمريكي الفعلي على الأرض السورية، مقابل الزعم بعدم الرغبة في التورط!
والحال أنّ عناصر كثيرة في المشهد الأمريكي الراهن تعيد التذكير بمغامرات جنسية أخرى، لرئيس أمريكي هذه المرة، وليس مجرد مرشح للرئاسة: بيل كلنتون، ومونيكا لوينسكي، وغراميات المكتب البيضاوي، ودراما التحقيقات، ودراما المحاكمة، ودراما التبرئة… وبذلك فإنّ المرء لا يلوم الأمريكيين هذه الأيام، إذا ما استعاد مناخات تلك الأزمنة المشحونة بالمسرح السياسي والجنائي والبوليسي والقضائي. وبعد أكثر من نصف قرن على صدور رواية جورج أورويل «1984»، ولكن على نحو كان سيقشعرّ له بدن «الأخ الكبير» نفسه، كان الأمريكي يصل الليل بالنهار وهو يكدّس معرفة أورويلية كاملة الشفافية، حول تفاصيل الحياة الجنسية لرئيسه الحبيب، الذي انتخبه مرّتين. كل شيء، تقريباً: أيّة فانتازيا جنسية كانت تستهويه أكثر، وأيّ شعر إيروسي ألهب مخيّلته، وأيّ الأماكن كانت الأنسب للغرام، أيّ الأوقات، أيّ الثياب…
آنذاك تحدّث البعض ــ بهمس خافت، سرعان ما تعالى تدريجياً ــ عن الأبعاد النفسية الأعمق وراء هذا السعار الجماعي المحموم لهتك الأستار الشخصية للرجل الأوّل في البلد، الذي يزعم أبناؤه أنه بلد هو العالم بأسره. يومئذ، بالفعل، حلّ زمان أمريكي عجيب أتاح لنا أن نقرأ كبار المنظّرين الليبراليين وهم يذكّرون الدهماء بأن تفاصيل الحياة الشخصية هي مكوّن أساسي في صناعة الوجود الإنساني المتمدّن (كما ينبغي أن يُقارن بالوجود الإنساني البربري، في الأدغال على سبيل المثال!). «لماذا يجد الأمريكيون كلّ هذه المتعة في هتك الأعراض»، سأل أنتوني لويس، قبل أن يجيب بأسى عميق: «ألأننا فقدنا الإحساس بقيمة الحرّية الشخصية في المجتمع الأمريكي»؟ ولكن ماذا عن حرّية ترامب، اليوم؟ وأيّ نفاق يسحب هذه «الحرّية» من تلك؟ وهل هذه المغامرات الجنسية هي، حقاً، أمّ القضايا التي تشغل الناخبين قبل أسابيع قليلة تسبق التصويت؟
في غمرة هذا الاقتران بين المغامرة الجنسية والغارة الدموية، بين أمريكا وروسيا؛ تظلّ على الألسن، وطيّ المقالات والتقارير والتحليلات، عبارة «محاربة الإرهاب»، بوصفها مقتصرة على جهاديي سوريا والعراق، من السنّة حصرياً. الميليشيات ذات التمذهب الشيعي، القادمة من أصقاع شتى؛ و»حزب الله» اللبناني، الذي صار في سوريا جيشاً كامل العديد والعدّة؛ وضباط وعناصر «الحرس الثوري» الإيراني، وغيرهم وسواهم… ليسوا، البتة في عداد الإرهاب. ومثلهم، بل قبلهم، ليس إرهابياً أبداً العدوان العسكري الروسي، الذي أتمّ سنة أولى ونيف؛ وليست إرهابية أعمال القصف الوحشي التي لا تُبقي ولا تذر…
صحيح أننا نقرأ، في الصحافة الأمريكية، نقداً شديداً للتدخل العسكري الروسي؛ ونقرأ، في الصحافة الروسية، نقداً لا يقلّ شدّة لاحتضان البنتاغون بعض الفصائل العسكرية «المعتدلة» في صفوف المعارضة السورية؛ ولكن هيهات أن نعثر، هنا أو هناك، على ما يوحي بصفة «الإرهاب» لدى أيّ من الفريقين. وبذلك فإنّ انشغال واشنطن وموسكو بالملفّ السوري له حيثيات متنافرة غالباً، أو متناقضة أحياناً؛ ولكنّ المآلات، بصدد توصيف فعل القوتين العظميين، سياسياً وعسكرياً ـ ثمّ أخلاقياً، لمن يشاء! ـ ليست على درجة مماثلة من التنافر أو التناقض. وليست هذه خلاصة جديدة، في أية حال، ما خلا أنها تتجدد تلقائياً؛ كلما أريق ماء الحياء في فضيحة جنسية عند ترامب، أو أريقت دماء سورية، في قصف وحشي يأتمر بأمر بوتين.
تكاملٌ بين الحياء والدماء، ليس أقلّ!
صبحي حديدي – القدس العربي[ads3]