سورية في قبضة بوتين .. تهجير و مناطق نفوذ موقتة تنتظر ” الصفقة “
إذا كان العام ٢٠١٥، انتهى بظهور بوادر سياسية للتدخل العسكري الروسي المباشر في سورية، فإن ٢٠١٦ هو «عام روسيا» في سورية حيث قبض الرئيس فلاديمير بوتين على كثير من المناورات الديبلوماسية والغارات الجوية على أوراق الملف السوري. بات الكرملين عنوان الباحثين عن دور أو حل أو مناطق نفوذ جنوب البلاد أو شمالها أو غربها أو شرقها لقضم حصة أو تجنب فيضان منعكسات أمنية وبشرية إلى أراضيهم سواء كانوا حلفاء أو خصوماً. إنه عام الانحسار الإضافي تحكم السوريين، نظاماً ومعارضين، بقرارهم لمصلحة حلفائهم و «أصدقائهم» الذي عقدوا صفقات وتفاهمات وخاضوا معارك ومواجهات على أرضهم السورية وباسمهم ودمهم.
بعد أسابيع من التدخل الروسي في أيلول (سبتمبر) العام الماضي، وبعد توقيع الاتفاق النووي بين الغرب وإيران، انطلقت عملية فيينا التي أسفرت عن إقرار القرار ٢٢٥٤ في كانون الأول (ديسمبر) وتشكيل «المجموعة الدولية لدعم سورية» بقيادة أميركية – روسية ومشاركة الدول الكبرى والإقليمية لدعم تنفيذ القرار بهدف تشكيل «حكم تمثيلي غير طائفي» يؤدي إلى صوغ دستور جديد وصولاً إلى انتخابات بإدارة يجري الإشراف عليها من الأمم المتحدة. برنامج التنفيذ كان يمتد على ١٨ شهراً بعد ستة أشهر افتراضية من المفاوضات.
عملية فيينا، أوكلت واجبات للفرقاء والحلفاء الإقليميين. كان مطلوباً من موسكو أن تضغط على الحكومة السورية للمشاركة في عملية سياسية ذات مغزى. كان مطلوباً من واشنطن جمع أوسع طيف من المعارضة السورية بعد المؤتمر الموسع الذي استضافته الرياض في كانون الأول العام الماضي وأسفر عن تشكيل «الهيئة التفاوضية العليا» برئاسة رياض حجاب من ممثلي الكتل السياسية والفصائل الموجودة على الأرض. كان مطلوباً من عمان أن تستضيف اجتماعات أمنية لتصنيف التنظيمات الإرهابية والتوفيق بين نظرة تقتصر على اعتبار «داعش» و «جبهة النصرة» تنظيميين إرهابيين ونظرة تريد ضم ميليشيات شيعية موالية لإيران وفصائل إسلامية أخرى إلى «القائمة السوداء».
وانبثقت من «المجموعة الدولية» مجموعتا عمل: واحدة، تتعلق بتنفيذ اتفاق «وقف العمليات العدائية» الذي أنجز في نهاية شباط (فبراير) بين واشنطن وموسكو على عكس توقعات كثيرين. ثانية، تناولت الملف الإنساني وإدخال المساعدات إلى مناطق محاصرة أو صعب الوصول إليها وكانت تضم ١٨ منطقة، محاصر معظمها من القوات النظامية وميلشياتها.
عقد على الطريق
سعت المؤتمرات الوزارية التي عقدتها «المجموعة الدولية» في فيينا وميونيخ بداية العام، إلى تجاوز عقد ظهرت في المحادثات غير المباشرة بين وفدي الحكومة السورية و «الهيئة التفاوضية» في نهاية كانون الثاني (يناير). دمشق كانت، كما ظهر في مفاوضات ٢٠١٤، تريد التركيز على موضوع وحيد وهو يتعلق بمحاربة الإرهاب والضغط على الدول المجاورة لإغلاق الحدود ووقف دعم المعارضة أو «الإرهابيين» كما تسميهم، إضافة إلى دعم الجيش السوري. «الهيئة التفاوضية» كانت تريد التفاوض لتشكيل «هيئة انتقالية تتسلم الحكم» وتمهد للمرحلة الانتقالية في سورية بعيداً من الرئيس بشار الأسد، إضافة إلى ضرورة التزام البنود المتعلقة بوقف الحصار والغارات و «البراميل المتفجرة» وإيصال مساعدات إنسانية في القرار ٢٢٥٤.
بعد تعليق المفاوضات، سعت واشنطن وموسكو إلى إنجاز اتفاق «وقف العمليات القتالية» لتخفيف العنف وإيصال مساعدات على أمل أن يشكل ذلك أرضية لاستئناف المفاوضات. وهذا ما حصل. وعقدت بين 15 و27 نيسان (أبريل) جولات من المفاوضات غير المباشرة بين الحكومة و «الهيئة». واستطاع بعدها المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا تلخيص نقاط التفاهم، إذ أنه اعتبر مجرد حديث الوفد الحكومي عن تشكيل «حكومة واحدة وطنية» قبولاً بـ «الانتقال السياسي» بما شكل نقاط تقاطع مع المعارضة لتشكيل «حكم انتقالي جديد يحل محل ترتيبات الحكم الحالي». لكنه قال أيضاً إن هناك 18 نقطة خلافية بينها «كيفية تحقيق الانتقال السياسي»، وأن يضمَّن «إنشاء هيئة حكم انتقالية جامعة تتمتع بكامل الصلاحيات التنفيذية عبر التوافق على استمرار عمل المؤسسات الحكومية»، إضافة إلى «التعمق في رؤية الانتقال السياسي ووظائف الحكم الانتقالي وقواعده التشغيلية وكياناته وعضويته واختياره ومسؤوليته وارتباطه بمؤسسات الدولة خلال المرحلة الانتقالية»، وضرورة «تحديد أولويات الحكم بما يتعدى صوغ الدستور الجديد».
الموقف من الجيش وأجهزة الأمن بين «إعادة الهيكلة» و «التفكيك» و «الإصلاح» بحسب المعارضة، و «الدعم مطلق لها» بحسب الحكومة ورغبة مجلس الأمن والدول المعنية على عدم تكرار تجربة العراق وانهيار المؤسسات، بدا بين نقاط الخلاف «كيفية ممارسة الحكم السلطةَ خلال المرحلة الانتقالية خصوصاً ما يتعلق بالرئاسة والصلاحيات التنفيذية والرقابة على المؤسسات الحكومية والأمنية» و «تحديد المعايير اللازمة لإقامة جيش موحد ووطني ومهني ونزع السلاح وتسريح المقاتلين وإعادة دمج المجموعات المسلحة» و «أنسب الترتيبات الدستورية لمنح الحكم الانتقالي الشرعية القانونية». لذلك لا بد من وضع «أنسب خطة زمنية وأفضل عملية لصوغ الدستور الجديد ومبدأ فصل السلطات» و «التمييز بين أولويات الإصلاح وإعادة هيكلة مؤسسات الدولة وهيئاتها خلال المرحلة الانتقالية والإصلاح الشامل»، إضافة إلى «تحديد أهم القرارات القانونية والتنفيذية التي تكفل إجراء انتخابات حرة ونزيهة والاتفاق عليها تحت إشراف الأمم المتحدة»، إلى «آليات التنسيق لمكافحة الإرهاب وضمان حماية حدود سورية وسلامتها الإقليمية».
تدمر في «سورية المفيدة»
دمشق لم تكن معنية كثيراً بـ «الانتقال»، خصوصاً أن هذه الجولات التفاوضية جاءت على خلفية انتصار معنوي حصل في تدمر الأثرية. إذ استعادت قوات النظام السوري السيطرة على مدينة تدمر في آذار (مارس) بإسناد جوي روسي وتمكنت من طرد عناصر «داعش» الذين استولوا عليها في أيار (مايو) 2015. وإذا كانت استعادة القوات النظامية مناطق استراتيجية وواسعة في ريف اللاذقية شمال غربي البلاد بمثابة تحصين معقل النظام وإبعاد فصائل إسلامية ومعارضة عن القاعدتين الروسيتين في اللاذقية وطرطوس غرب البلاد، فإن وصول القوات النظامية إلى تدمر كان أول تمدد عسكري خارج «سورية المفيدة» التي تحصنت فيها القوات النظامية في الفترة السابقة، وإن كان «داعش» عاد ودخل إلى تدمر قبل أيام.
لوضع استعادة تدمر في إطار الخروج من عباءة «سورية المفيدة»، لا بد من العودة إلى تموز (يوليو) ٢٠١٥. كانت المرة الأولى التي يتحدث فيها الأسد عن إقليم للنظام وليس كل سورية. إذ قال في خطاب إن الجيش قادر على الانتصار، مشيراً إلى أن الـ «نقص» في الطاقة البشرية ربما يُضطره للتخلي عن مواقع للاحتفاظ بمناطق أخرى أكثر أهمية في الحرب ضد «المسلحين». وأضاف في كلمة ألقاها أمام رؤساء وأعضاء المنظمات الشعبية والمهنية في قصر الشعب وبثها التلفزيون السوري مباشرة إن «طاقة الجيش هي القوة البشرية، فإن أردنا من الجيش أن يقدم أفضل ما لديه، علينا أن نقدم أكثر ما لدينا». وذكر أن «كل شيء متوافر، ولكن ثمة نقصاً في الطاقة البشرية»، مضيفاً: «أحياناً نضطر في بعض الظروف إلى التخلي عن مناطق بغية نقل تلك القوات إلى المناطق التي نريد أن نتمسك بها».
كان هذا بعدما خسرت القوات النظامية محافظة إدلب أمام “جيش الفتح” (الذي يضم سبعة فصائل إسلامية بينها «النصرة») في ربيع ٢٠١٥ وتقدم “داعش” في حمص وتقدم فصائل “الجيش الحر” في ريف درعا بين دمشق وحدود الأردن. وقتذاك، كانت التقديرات تشير إلى أن القوات النظامية تسيطر على ١٦ في المئة من الجغرافيا السورية ومثلها للقوات الكردية المدعومة من أميركا، في حين كان يسيطر “داعش” على ٤٠ في المئة من الأرض السورية، وسيطرة فصائل المعارضة المختلفة على باقي المناطق. لكن التقديرات أن «سورية المفيدة» اتسعت إلى حدود ٤٠ في المئة من الجغرافيا السورية بعد الدعم الروسي واستعادة حلب.
استعادة الجغرافيا لم تترجم بعد بهيمنة موسكو على قرار دمشق. ولم تنفع الضغوطات التي مارسها الرئيس بوتين في منتصف آذار عندما قال إنه سحب طائرات ومعدات عسكرية للدخول في سياسة جدية عشية استئناف مفاوضات جنيف، بل إنه نشر لاحقاً منظومة صواريخ «أس -٤٠٠» وقرر تحويل ميناء طرطوس إلى قاعدة دائمة مثل قاعدة حميميم في اللاذقية مع نشر طائرات متطورة تعززت في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي بأسطول بحري ضخم. وتقصدت دمشق إجراء انتخابات مجلس الشعب (البرلمان) في منتصف نيسان في موعد تناقض مع برنامج استئناف مفاوضات السلام في جنيف في رسالة رمزية من أنها تريد فرض الأجندة السياسية الخاصة بها وليس الموجودة في «بيان جنيف» أو القرار ٢٢٥٤ والمواعيد المتفق عليها بين موسكو وواشنطن.
طعنة أميركية وغزل روسي
أولوية إدارة الرئيس باراك أوباما بقيت محاربة «داعش» وتقديم كل المساعدات العسكرية لتحقيق هذا. أما بالنسبة إلى باقي سورية، فإنه مستعد للعمل على الحل السياسي من دون أسنان عسكرية. أقام الجيش الأميركي في مناطق الأكراد ثلاثة مطارات عسكرية أميركية. اثنان في ريف الحسكة وثالث في عين العرب (كوباني) ينتشر فيها حوالى ٢٥٠ خبيراً أميركياً. في الجو قاذفات أميركية هي جزء من التحالف الدولي ضد «داعش». لكن البرنامج السري الذي تقوده وكالة الاستخبارات الأميركية (سي آي أي) استمر في دعم فصائل عسكرية في تركيا والأردن، مقابل تركيز وزارة الدفاع الأميركية (بنتاغون) على محاربة «داعش».
لكن عندما وصل «جيش سورية الجديد» إلى معبر التنف على حدود العراق بعد توفير غطاء جوي من راجمة صواريخ أميركية طويلة المدى من الأردن، قوبل ذلك برد روسي قاس. وفي ١٢ حزيران (يونيو) و١٦ تموز (يوليو) الماضيين، أغار الطيران الروسي على معسكر لقوات خاصة أميركية وبريطانية مرافقة لـ «جيش سورية الجديد» قرب التنف.
وبعد تقدم «وحدات حماية الشعب» الكردية بدعم التحالف في عين العرب (كوباني) وتل أبيض شمال سورية وشمالها الشرقي، فإنه أمام ضغوط من الحلفاء اقتنع بضرورة مشاركة العرب لتخفيف الاحتقان العربي – الكردي، خصوصاً بعد إعلان الأكراد نيتهم اعتماد نظام فيديرالي في منتصف آذار وتطوير نظام الإدارات المحلية الذي أعلن قبل سنة، الأمر الذي أقلق أنقرة من احتمال قيام كيان كردي يهدد الأمن القومي التركي.
تشكلت «قوات سورية الديموقراطية» من مقاتلين أكراد وعرب. وبدأت بدعم من طائرات التحالف الأميركي الإطباق على الرقة معقل «داعش» شمال شرقي سورية، باعتبار أن استعادة هذه المدينة وضعه أوباما هدفاً رمزياً. ودارت معارك عنيفة بين هذه القوات و «داعش» في ريف الرقة في نهاية أيار (مايو) وحزيران (يونيو) بالتزامن مع سيطرة «قوات سورية» على مدينة منبج أحد المعاقل الرئيسية شمال حلب.
غير أن زيادة النفوذ الكردي، عنصر مقلق لأنقرة ودمشق وطهران. وفي ٢٤ آب (أغسطس) ٢٠١٦، الذكرى ٥٠٠ سنة على معركة مرج دابق التي دشنت «فتح» العثمانيين للعالم العربي من بلدة في ريف حلب، دخلت القوات التركية راعية لـ «الجيش الحر» إلى جرابلس الحدودية. مقاتلو «الجيش الحر» تدربوا جنوب تركيا التي قدم جيشها لهم الدعم العسكري والاستخباراتي المباشر.
ما كان لهذا التوغل أن يتم لولا الغزل بين بوتين ونظيره التركي رجب طب أردوغان والتفاهم في ٩ آب، إذ تضمن الاتفاق على المبادئ العامة لسورية: وحدة الأراضي السورية، الحل سياسي وليس عسكرياً، النظام علماني غير طائفي، والحفاظ على مؤسسات الدولة السورية. وما كان لهذه المصالحة أن تتم وتطوي التوتر الكبير بعد إسقاط مقاتلة تركية طائرة روسية في تشرين الثاني (نوفمبر) قرب حدود سورية لولا محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا في تموز (يوليو)، إضافة إلى تنازلات سياسية من أنقرة والموقف من مصير الأسد.
أردوغان، وفق محللين أتراك، شعر بـ «طعنة» أميركية مبنية على الخيبات من إدارة الرئيس أوباما لمرات عدة ووجه أصبع الاتهام إلى المعارض فتح الله غولن المقيم في أميركا إزاء المحاولة الانقلابية. ما عزز الشكوك أن بوتين أول الداعمين لأردوغان في خضم المحاولة الانقلابية.
لا شك أن منع قيام كيان كردي يحقق أحد المبادئ الذي سعت أنقرة إليه. وبدا أن هناك مقايضة بين موسكو وأنقرة بمنع ربط إقليمي الأكراد شرق سورية بإقليم شمالها في مقابل محاربة تركيا «داعش» والعمل على إغلاق الحدود وربما تخفيف الدعم عن المعارضة وتسهيل «سقوط حلب» لاحقاً. وستكون هذه منطقة نفوذ تركية ينتشر فيها «الجيش الحر» من جرابلس إلى ريف حلب، وينتقل إليها لاجئون سوريون يقيمون سداً منيعاً أمام الحلم الكردي في منطقة آمنة بمساحة خمسة آلاف كيلومتر مربع، أي نصف مساحة لبنان.
الخطة لإقامة منطقة آمنة التي أرسلت إلى مكتب أوباما أكثر من مرة وعادت مرفوضةً، قُبلت في الكرملين بحيث تُنفذ طوعاً، كما هي الحال في جنوب سورية، ذلك أنه مع بداية ٢٠١٦، جرى تطبيق تفاهم بين موسكو وعمان قضى بعدم شن غارات روسية أو سورية على ريف درعا بين دمشق والأردن مقابل منع فصائل «الجيش الحر» من شن هجمات هناك. تمتد بين ريفي درعا والقنيطرة وحدود الأردن وخط فك الاشتباك في الجولان المحتل، وينتشر فيها حوالى ٣٥ ألف مقاتل من «الجيش الحر» ومئات العناصر من «داعش» و «جبهة النصرة». فصائل «الجيش الحر» محكومة بقرار «غرفة العمليات العسكرية» برئاسة وكالة الاستخبارات الأميركية.
نجحت عمّان في وأد محاولات أسلمة المسلحين وإبعاد الميليشيات الإيرانية في ربيع العام الماضي لدى السيطرة على بصرى الشام ومعبر نصيب. استجابت عمان أكثر من مرة لضغوط بفتح معارك. عمان أرادت حماية مصالحها المباشرة. أيضاً، حصل الإسرائيليون على ما يريدون: ضوء أخضر بقصف أي تجاوز للخط الأحمر، ومنع وجود قواعد للعمليات العسكرية ضدها من الجولان وربط جنوب سورية بجنوب لبنان. والجديد في تشرين الثاني ٢٠١٦، أن الجيش الإسرائيلي توغل في أراض سورية وقاتل تنظيم «داعش» وجرى تبادل لإطلاق النار. وكان الخط الساخن بين تل أبيب والقاعدة الروسية في اللاذقية فاعلاً في ذلك الوقت.
حلب مفيدة أيضاً… وتهجير
العلاقة بين واشنطن وموسكو متوترة على جميع الأصعدة، لكن جرت في أيلول (سبتمبر)، محاولة بينهما لإنعاش «وقف العمليات القتالية» بدءاً من حلب، وسرعان ما انهارت بعد غارة على قوات النظام السوري في دير الزور شمال شرقي سورية وقصف قافلة مساعدات إنسانية في ريف حلب اتهمت تقارير روسيا بشنها.
في أيلول، بدا أن المعارضة السياسية السورية وحلفاءها فقدوا الأمل من إدارة أوباما. كذلك أيضاً الكرملين. الجميع بات ينتظر إدارة أميركية جديدة. المعارضة راهنت على هيلاري كلينتون وطرحت «الهيئة التفاوضية» في لندن في ٧ أيلول رؤية سياسية للقول إن هناك معارضة معتدلة. وموسكو وطهران ودمشق توحدوا لفرض وقائع عسكرية على الأرض عبر تأمين دمشق عاصمة سورية واستعادة ثاني أكبر مدينة سورية.
في الربع الأخير من العام الحالي، كانت ذروة التهجير من ريف دمشق إلى إدلب. عشرات آلاف المدنيين اقتلعوا من داريا، التي زارها الأسد في أيلول، ومعضمية الشام وخان الشيخ وقدسيا بعد سنوات من منهج «الجوع أو الركوع» إلى إدلب إلى أن أصبحت دمشق «آمنة» عدا مدينة دوما في الغوطة الشرقية معقل «جيش الإسلام» الذي اغتيل مؤسسه وقائده زهران علوش في نهاية ٢٠١٥.
لكن حلب أمر آخر. منذ تقاسم المعارضة والنظام السيطرة عليها في ٢٠١٢، كان لدى القوات النظامية هدف استعادتها. وفتحت دمشق بدعم طهران شهيتها على استعادتها في بداية العام، لكن اتفاقاً أميركياً – روسياً وأد ذلك. وبقيت الرغبة قائمة إلى أن توافرت ظروفها في تشرين الثاني (نوفمبر). مهدت القوات النظامية لذلك في تموز (يوليو) بإحكام الحصار على شرق حلب، ولم تنجح كثيراً محاولات فصائل إسلامية ومعارضة في آب من فك هذا الحصار.
موسكو قالت إنها أوقفت القصف على شرق حلب في تشرين الثاني، لكن القوات النظامية والميليشيات المدعومة من إيران لم توقف ذلك. وباتت تقترب من شرق حلب حيث ربع مليون مدني إلى أن باتت على اقتحام كامل لها. حاولت روسيا تقديم نفسها كمحاور ووسيط في حلب بين القوات النظامية وحلفائها والمعارضة وداعميها.
هنا تدخل الروس والإيرانيون واقترحوا إخراج المدنيين من شرق حلب. اعترضت إيران ووضعت على الطاولة مدنيي ومسلحي بلدتي الفوعا وكفريا في ريف إدلب المواليتين لطهران ودمشق ثم بلدتي مضايا والزبداني المحاصرتين من القوات النظامية و «حزب الله» شمال دمشق، في ما بات يعرف بالتبادل الطائفي ومقايضة آلاف المدنيين في إطار تعزيز مناطق النفوذ لإيران وحلفائها، خصوصاً بين دمشق وحدود لبنان.
هذا الصفقة الثلاثية، التي عكست مدى تراجع دور السوريين نظاماً ومعارضين في تقرير مصيرهم، مهدت الطريق إلى عودة القوات النظامية إلى شرق حلب في انتصار رمزي وعقد اجتماعات ثلاثية بين وزراء الدفاع والخارجية من روسيا وتركيا وإيران في موسكو.
وإذا كانت بداية العام هي تجربة المقاربة الدولية – الإقليمية في «المجموعة الدولية»، فإن نهاية ٢٠١٦ هي بداية اختبار موسكو المقاربة الإقليمية مع الدول الفاعلة وتجاهل الإدارة الأميركية التي باتت في مرحلة انتقالية من أوباما إلى دونالد ترامب الذي فجر مفاجأة في تشرين الثاني لا تقل أهمية عن مفاجأة الاستفتاء في حزيران (يونيو) بموافقة البريطانيين على الخروج من الاتحاد الأوروبي. ميل الدول الغربية، التي قد تشمل فرنسا لاحقاً، نحو اليمين والعزلة ساهم في تعزيز أسهم بوتين وتخفيف القيود التي تفرضها العقوبات الأوروبية والوضع الاقتصادي الصعب… باحثاً عن منصة في سورية.
انتهى العام بـ «إعلان موسكو» الذي تضمن كبح رغبة إيران بالحسم العسكري فقط وتركيا الطامحة بتغيير النظام فقط. وإذا كان وزير الخارجية الأميركي جون كيري قال بعد لقائه بوتين في كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٥، إن واشنطن «لا تريد تغيير النظام في سورية، لكن على الأسد الرحيل» في تحول للسياسة الأميركية بـ «تغيير الأنظمة» كما حصل في ليبيا بعد العراق، فإن كيري قال في كانون الأول ٢٠١٦، إن الحل في سورية يقوم على «ضم عناصر من المعارضة إلى الحكم الحالي وإجراء تعديلات دستورية بحيث يقرر السوريون مستقبلهم»، ما كان بمثابة إعادة كتابة للتاريخ منذ انهيار الكتلة الشرقية وتشظي الاتحاد السوفياتي.
في العام ٢٠١٧، لا بد من متابعة العلاقة بين بوتين وترامب ومنعكساتها على التفاهمات الثلاثية ومدى إمكانية التعاون بين موسكو وواشنطن «الترامبية» في الحرب ضد «داعش» و «جبهة النصرة». ولا بد من متابعة الحوارات الداخلية الجارية لتوحيد فصائل إسلامية وما إذا كانت «جبهة النصرة» ستكون جزءاً من التكتل الإسلامي الجديد، باعتبار أن إعلان قائد «النصرة» أبو محمد الجولاني في نهاية تموز اعتماد تسمية «جبهة فتح الشام» والانفصال عن تنظيم «القاعدة» لم يؤديا إلى رفع تصنيف مجلس الأمن الدولي والدول الكبرى والعربية لـ «النصرة» أو «فتح الشام» بأنها تنظيم إرهابي.
… لذلك، فإن رقاب أهالي الرقة عاصمة «داعش» وإدلب معقل «جيش الفتح» بقيادة «فتح الشام» معلقة على احتمالات نجاح تفاهم بوتين- ترامب ومآلات المبادرة الإقليمية الروسية وخط موسكو -طهران، إضافة إلى نهايات الحوارات الجارية لتوحد الفصائل المعارضة وعزل «النصرة» والعودة إلى الهامش السياسي في الجغرافيا المتبقية من سورية إلى حين توافر عودة متدرجة لمناطق النفوذ إلى قرار مركزي في دمشق.
ابراهيم حميدي – الحياة[ads3]