” تعايش ” الجيوش في سوريا
ما بين تحرير الموصل وتحرير الرقة أكثر من علاقة جغرافية، وأكبر من هزيمة لـ «دولة» أبو بكر البغدادي. في هذه البقعة من الأرض السورية، امتداداً إلى حلب، والعراقية، وصولاً إلى أربيل، تشتبك جيوش وميليشيات لديها ارتباطاتها الإقليمية والدولية، وفيها يتحدد نفوذ أي دولة منخرطة في الحروب الأهلية والإرهابية و «النظيفة». وانطلاقاً منها يرسم مستقبل العلاقة بين سورية والعراق.
الوضع في هذه المنطقة، من دون أن نغفل بقية المحافظات، حيث تكثر الجيوش والمرتزقة، وتتشابك المصالح، يشبه إلى حد كبير الوضع بعد الحرب العالمية الأولى، حين كانت فرنسا وبريطانيا ترسمان خريطة بلاد الشام والعراق، ومستقبل تركيا، وحين تدخلت روسيا لمساعدة أتاتورك، في مؤتمري سيفر ولوزان، بضم جزء من سورية إلى جمهوريته، ومنع قيام دولة كردية، وعدم إعادة «سناجق» إلى اليونان وبلغاريا سلخت منهما. الفرق الوحيد الآن أن واشنطن حلّت بدلاً من لندن وباريس، وتلعب دوراً رئيسياً في التسويات. وتستطيع تخريب أو فرض أي اتفاق يتوصل إليه رعاة الحروب المتفاقمة. ويبدو أنها، في عهد ترامب، توصلت مع روسيا وتركيا، إلى تفاهم لفك الاشتباك في سورية، بعدما اطمأنت إلى نفوذها في العراق، من خلال التحكم بمسار معركة الموصل. وعقد رؤساء الأركان في الدول الثلاث اجتماعاً في أنطاليا، ناقشوا خلاله كيفية «التعايش» على الأرض السورية، وتقاسموا المهمات والجماعات التي تحارب باسمهم على الأرض: مسلحو «سورية الديموقراطية» يحاربون مع الأميركيين في الطريق إلى الرقة. ميليشيات «درع الفرات» تتمترس في مدينة الباب مع الأتراك، الروس يشكلون قوات فصل بين الجيش السوري والمسلحين الآخرين، ويستمرون في دعمه للحفاظ على مكتسباته في حلب ومحيطها.
أما تركيا التي كانت لا تترك مناسبة، حتى ولو كانت عيد الشجرة، إلا وتهدد باحتلال منبج وطرد الأكراد منها، وإنشاء حزام أمني يقيها هجمات الأكراد، فيبدو أنها اقتنعت أو أُقنعت، بأن واشنطن وموسكو لن تسمحا بإقامة كيان كردي مستقل في هذه المنطقة، تماماً مثلما حصل في مؤتمر لوزان، عندما استبعد الأكراد من تقاسم المنطقة.
بقيت إيران التي لم تُدعَ إلى اجتماع أنطاليا. ويبدو أن تحييدها لم يكن صعباً، فهي غير موجودة في منطقة الرقة، والجماعات المسلحة التي تدعمها، فضلاً عن دمشق، لم تبد أي اعتراض ملحوظ على هذا التفاهم. أما «الحشد الشعبي» العراقي الذي كان يهدد بالانتقال إلى الرقة، بعد تحرير تلعفر، فما زالت قواته في محيط هذه المدينة، بعد أكثر من شهر على إطلاق عملية استعادة الموصل، وتنتظره مرحلة عصيبة، قبل أن يستجمع قواه وينتقل عبر الحدود. ولضمان ذلك، وعدم إفساح المجال أمام طهران لتمد نفوذها إلى سورية من خلال «الحشد»، أسرعت أميركا في الوصول إلى الرقة. ولم تكتف بدعم مسلحي «سورية الديموقراطية»، بل زجت بقواتها البرية في المعركة، فسيطرتها مع «حلفائها» المحليين تتيح لها التفاوض من موقع قوة، إذا لزم الأمر، والاعتراض بالقوة العسكرية على أي تدخل إيراني آت من العراق.
وإذا استطاع الثلاثي الأميركي- الروسي- التركي السيطرة على الرقة وطرد «داعش» منها وتأمين الاستقرار فيها ستبقى المناطق السورية الأخرى أو ما اطلق عليه اسم «سورية» عرضة للابتزاز بواسطة هذا التنظيم وغيره من التنظيمات «المعتدلة» غير المدرجة على قائمة الإرهاب. وستكون الرقة مثالاً للتعميم على بقية المحافظات.
«التعايش» بين الجيوش على الأرض السورية وصفة أميركية ممتازة لاستمرار الحروب وتفاقمها.
مصطفى زين – الحياة[ads3]