بعد الضربة الأميركية : السيادة في أطوارها المتغيرة

تعيد الضربة الصاروخية الأميركية على مطار الشعيرات السوري مستوى القتل الأسدي إلى الحيز المقبول دولياً، أي باستخدام الأسلحة التقليدية والبراميل المتفجرة، وصولاً إلى غاز الكلورين، الأخف عبئاً على ضمير المجتمع الدولي الذي أزعجه استخدام السارين في خان شيخون. ولا تغيير في المشهد العام ما لم تتبن إدارة دونالد ترامب استراتيجية سياسية وعسكرية لاحداث انعطافة حادة في مسار الصراع في سورية.

الصواريخ التي انهمرت قرب حمص لن تجنب إدلب وريفها المصير المرسوم لهما كحلقة مكملة لحلب ما لم يقتنع العالم بأن بشار الأسد، المحكوم بتوازنات إيرانية – روسية، ليس قادراً على إنجاز حل سياسي من أي نوع، وأن المفاوضات مع موسكو في هذا الشأن غير ذات مغزى ما دام فلاديمير بوتين هو من يحدد إيقاعها ووتيرة تقدمها والأفق البعيد الذي ستصل إليه.

هذا المصير الذي انتهى إليه حكم آل الأسد كمندوب لاحتلالين خارجيين، والمناقض تماماً للصورة التي بذل حافظ الأسد وأجهزته الأمنية والدعائية جهوداً مضنية في رسمها كقوة إقليمية كبرى تتحكم بقرارات الحرب والسلم في منطقة تفوق حجم سورية بمراحل، يكشف بين أمور أخرى الخواء الفظيع الذي صنعته سلطة البعث والعائلة منذ أكثر من خمسة عقود.

أخيراً ظهرت «عبقرية» الأسدين على حقيقتها بعد احتكاكها بمعارضة المواطن السوري أولاً وبضرورات القوى الكبرى ثانياً. الامتناع الدائم عن الرد على الاعتداءات الإسرائيلية، والاستشراس في قتل المعارضين سواء السوريين أو اللبنانيين أو الفلسطينيين، يتمّ اليوم على مقياس أكبر كثيراً. أدرك حافظ وبشار الأسد خطر اللعب مع قوة متمكنة من أساليب الحرب والسياسة في العالم المعاصر كإسرائيل وتفرغا لتأديب من يشبههما من السياسيين في سورية ومحيطها، ناهيك باعتماد الوحشية العارية في التعامل مع شعوب المنطقة.

تطور همجية نظام الأسد وارتقائها بين أحداث أواخر السبعينات وعقد الثمانينات وبين اندلاع الثورة في 2011، وانتقال الهمجية تلك من حملات «المماليك الجدد» (والتشبيه لميشال سورا) المتضمنة أعمال النهب والاغتصاب والتدمير، إلى تصنيع القتل و «منهجته» على ما بيّن تقرير منظمة العفو الدولية في شباط (فبراير) الماضي عن مسلخ صيدنايا البشري، وحصد الأرواح جماعياً كما فعل في هجومه الكيماوي على الغوطة في آب (أغسطس) 2013، يستحقان دراسة مفصلة عما يعكسان من تبدلات في آليات السيطرة السياسة والاجتماعية للطغمة الحاكمة في دمشق.

بيد أن ذلك ينبغي أن يسير مع دراسة ترصد تصاعد دموية النظام مع تقلص قدرته التفاوضية مع رعاته الخارجيين وتحوله إلى مجرد جلاد للمعارضين العزل ومن يدفعه سوء حظه إلى الوقوع بين يدي أجهزة أمن الأسد مقابل فقدانه القدرة على الدفاع عن نفسه أمام أي تهديد عسكري جدي، على ما بدا في مراحل مختلفة من الثورة السورية، حيث كان يلجأ إلى إيران وميليشياته ثم إلى روسيا وطيرانها، كلما بدا أن وضعه الميداني ميؤوس منه كما حصل في أواخر 2012 ثم في 2015 بعد سقوط إدلب وجسر الشغور وانتقال القتال إلى جبل الزاوية والمناطق المتاخمة للساحل.

قايض بشار الأسد همجيته نحو الداخل بخضوعه الكامل لموازين القوى الخارجية، ليس حيال الرعاة فحسب، بل أيضاً حيال كل من يبدي قدرة على إلحاق الأذى الجدي به وبنظامه. عشرات الغارات الإسرائيلية منذ 2011، لم يرد سوى على آخر واحدة منها لأسباب تتعلق بإيران وليس بالنظام. الأمر ذاته أمام التهديدات الأميركية بتوجيه ضربات جوية بعد جريمة الغوطة في 2013، حيث ظهر ضيق هامش المناورة عند الاسد واقترابه من الانهيار لولا الصفقة التي رتبتها موسكو مع واشنطن لتسليم الترسانة الكيماوية إلى المفتشين الدوليين.

آفة التذاكي التي زرعها ورعاها حافظ الأسد لا بد أنها وسوست إلى المحيطين ببشار لإعادة إنتاج السارين الذي قصف به خان شيخون، بعد نشوة الانتصارات في حلب والاستعدادات الدولية لطرد «داعش» من الرقة، ما فسره النظام بأنه فوز آخر له، وبأن حملات إبعاد المقاتلين من وادي بردى وداريا وتشديد الحصار على الغوطة والتلويح باقتحامها مسألة أيام. جمّل التذاكي هذا فكرة التلاعب بحقيقة تسليم السلاح الكيماوي السوري. وبعد عشرات الهجمات بالكلورين الذي قال بشار الأسد في إحدى مقابلاته إن مكوناته موجودة في «كل بيت سوري»، انتقل إلى السارين الذي لا توجد مكوناته إلا في مستودعات النظام.

لكــــن الأهم أن اعتماد بشار الأسد الكلي على إيران وروسيا للبقــــاء على كرسيه، وسماحه مقابل ذلك لهما بالتدخل حتى في التركيبة الديموغرافية والهندسة السكانية وتفاصيل القـــرارات الاقتصادية والمالية، جعل من فكرة النظام السوري عـــن السيادة والاستقلال فضيحة مجلجلة في عالم السياسة والديبلوماسية. ذلك ان السيادة لا تطبق إلا عند فرض رسوم جـــديدة لاستصدار جوازات السفر ومنع عودة اللاجئين إلى بيوتهم المنهوبة، في حين أن كل رطانة السيادة والحفاظ على الوحدة الوطنية تختفي ما أن يبرز أبسط تلويح بتهديد خارجي. ففي نهاية المطاف، لا تزيد مقولة السيادة في المصطلحات الأسدية عن أداة للهيمنة الداخلية، شأنها شأن كل الشعارات التي رفعها هذا النظام منذ نشوئه.

حسام عيتاني – الحياة[ads3]

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي عكس السير وإنما عن رأي أصحابها

تعليق واحد

  1. كل ما ورد في هذا المقال جيد ويشكر الاستاذ عيتاني عليه واعتراضي فقط على تسمية قتلة النظام بالمماليك الجدد (رغم اشارة الكاتب الى انه ليس صاحب التعبير) ومع اني لست شركسيا فان الفارق بين المماليك وهذا النظام الهمجي بعيد بعد السماء عن الارض
    فقد ظهر من المماليك رجال ابطال (قطز وبيبرس مثالا) دافعوا عن الارض العربية وقاتلوا الصليبيين والمغول بعكس هؤلاء الخونة الذين يستجلبون الاغراب والمستعمرين الى ارضنا(روسيا وايران) ويبيعون الارض السورية وينحون مثل النعاج امام اسرائيل وامريكا وكل قوي يدوسهم ولا يظهرون رجولة الا على الابرياء من الاطفال والنساء فحذاء واحد من المماليك برأس اكبر واحد من هؤلاء القتلة