اللعنة السورية ستطال العالم اللامبالي كله
الآن وبدأ التفكير الجدي يتزايد بحل سياسي يرضي كل الأطراف العالمية المتصارعة على الأرض السورية وينهي الحروب العدمية المشتعلة هناك منذ أكثر من ست سنوات، لا بد لنا من جردات حساب طويلة، بعضها أكثر إلحاحاً إنسانياً وأمنياً واقتصادياً وسكانياً، وبعضها طويل المدى يتناول السياسة وإعادة الإعمار واستعادة الهوية السورية المستباحة والممزقة. هذه كلها مشكلات عويصة تتطلب تضافر جهود أطراف عدة ما زالت حتى اليوم لا تثق ببعضها البعض ولا تملك أهدافاً مشتركة أو رؤى مستقبلية.
فالخطب عظيم وتدمير الأرض والعمران والناس والقيم والانتماء والمواطنة في سورية عميق ومذهل. والنظام السوري، الذي تسبب عمداً بتدمير العديد من المدن والمحافظات السورية وتشريد الملايين والقضاء على اللحمة الوطنية السورية التي كانت ضعيفة أصلاً، ما زال يرفض أي حل لا يبقيه مسيطراً على القرار السوري كما كان قبل الثورة، أو على الأقل هذا ما يدعيه علناً وإن كنا لا نعرف ما يحصل خلف الأبواب المغلقة. والكلام المتفائل عن قرب هزيمة «داعش» في الرقة والقضاء عليه كخلافة، لا كفكرة قابلة للتكرار، ما زال أقرب إلى التخيل على رغم التقدم المضني للعديد من أعدائه المتخالفين في أراضيها.
أما عن إزالة آثار تعاليمه المشوهة من نفوس وعقول من فرضت عليهم فرضاً في السنوات الأخيرة فهذه عملية أكثر من معقدة وتتطلب تعاون جهات عدة لا يبدو أنها في مزاج التعاون، ناهيك عن تطهير الذهنية السورية عموماً من كابوس النظام الأسدي الذي أوصل البلاد أساساً إلى ما هي عليه اليوم.
الجردة التي لن يدعي مسؤوليتها أحد، وإن كانت طاولت أو ستطاول الجميع، هي لما سميته «اللعنة السورية». تسميتي هذه تُحيل إلى مزيج مركب من النقمة والانتقام والانفلاش والضرر الفادح ولكن غير المنطقي، مما سماه الأقدمون لعنة استنساباً إلى السحر والخوارق أو العقاب الإلهي، ولكنها هنا في مصطلحي حراك تاريخي واضح الأسباب، وإن كان غامض المعنى. فاللعنة السورية هذه قد نخرت الجسد السوري وقلبت الكثير من الموازين والاعتبارات التي أطلقتها الحرب السورية منفلتةً من أي حساب سياسي أو تخطيط استراتيجي، والتي ظن مستغلوها أنهم قد سيطروا عبرها على الحالة السورية أو أنهم سيستفيدون من الفوضى الخلاقة التي أحدثتها. هذه اللعنة قد حلت بسورية طبعاً بالدرجة الأولى وأدت إلى تدمير عديد عمرانها وكل رصيدها من التماسك الوطني والحس الانساني بالإضافة إلى أنها قتلت مئات الآلاف من أهلها وشردت عدداً أكبر منهم إلى مهاجر بعضهم لن يعود منها. ولكن تأثيرها أوسع كثيراً من سورية وتردداته ستبقى معنا لفترة طويلة من التخبط والصراع والآلام والكراهية.
فسورية ليست رواندا أو الكونغو اللتين شابهتاها في المأساة وفي لامبالاة العالم تجاههما وإن خالفتاها في تأثيرهما على مجريات العالم، وفي شكل خاص العالمين المرفّهين العربي والغربي، بسبب انعزالهما النسبي في وسط القارة الأفريقية وبسبب قلة المتدخلين الدوليين في مذابحهما.
مأساة سورية تسببت أولاً بتخلخل اقتصادات وأمن وتركيبة سكان البلدان المحيطة بها وفي شكل خاص لبنان وتركيا وبدرجة أقل الأردن والعراق. تأثير اللجوء الكثيف واضح اليوم ولكن امتداداته المستقبلية لم تزل غامضة. فهناك أكثر من ثلاثة ملايين سوري لاجئ في هذه الدول والكثير منهم كانت أو أصبحت له ارتباطات عمل أو قرابة في بلد لجوئه. لذا فالكلام اليوم عن إقامة مناطق آمنة في جنوب سورية لإعادة توطين هؤلاء اللاجئين غير واقعي وصعب التحقيق، ولن تحل المشكلة إلا عودة الاستقرار لكامل سورية. ولكن معضلة اللجوء ليست المشكلة الوحيدة التي تواجه بلدان الجوار. فتورط هذه البلدان، أو بعض القوى السياسية فيها، في الصراع السوري تسبب في قلقلة توازنها السياسي هي أيضاً. القوى السياسية الشيعية في العراق ولبنان منغمسة تماماً في القتال إلى جانب النظام لأسباب طائفية، وهي بذلك تستجلب ليس فقط مشكلات آنية، ولكن ثارات ونزاعات على المدى الطويل مع محيطها السنّي الواسع. الأردن ما زال يلعب لعبة خطرة في موازنة تحالفاته داخل سورية وخارجها، ولكن ذلك على ما يبدو لم يبعد عنه شبح الإرهاب الجهادي، وبعضه مصنع داخلياً، ولا خفف من الاحتقانات مع القوى السياسية المحلية ذات الأجندات الإسلامية. أما تركيا فهي الأكثر تضرراً من تدخلها الخفي والقذر في الحرب السورية. فلا هي تمكنت من إبعاد شبح الإرهاب ولا هي قضت على التحدي الكردي الذي ازداد قوة وجرأة. وهي فوق ذلك استكانت لصعود سلطانها الجديد، رجب الأول أردوغان، الذي تمكن من استغلال التهديدات الأمنية لإحكام قبضته على الدولة.
أوروبا التي تدعي الحضارة والحكمة والإنسانية لم تستطع استيعاب اللجوء اليائس لمئات آلاف السوريين (مع الكثيرين غيرهم) في صيف ٢٠١٦، بل كشرت معظم دولها (باستثناء ألمانيا والسويد واليونان) عن أنيابها العنصرية وأقفلت أبوابها بوجه هؤلاء البائسين الهاربين من جحيم بلادهم. وبدأ نظامها السياسي المتحد طري العود بالترنح بتأثير سياسات الهجرة المضطربة وصعود القومية العنصرية، فانفكت بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي وبدأت الأحزاب الفاشية بالطمع بالسلطة في أكثر من واحدة من دول الديموقراطية العريقة. هذا بالإضافة إلى تنامي مشكلة الإرهاب العشوائي الذي ينفذه أفراد أوروبيو المولد والنشأة ولكنهم يدينون بالولاء لـ «داعش» وفكره الذي لا يعرفون عنه الشيء الكثير.
روسيا أيضاً، التي ظهرت طبيعتها العدوانية الاستعمارية واضحة في سماء سورية، لم تفلت هي الأخرى من خطر الإرهاب العشوائي الذي لا بد أن يتزايد بفعل سياساتها القمعية تجاه مسلميها في القوقاز وغيرها، بخاصة بعد عودة الجهاديين منهم من سورية. وهي، على سرورها بتمكنها من غمس أقدامها في مياه المتوسط أخيراً، لن تستمتع بقواعدها طويلاً، فهي تمددت أكثر من قدرتها ولا بد أن تدفع ثمناً اقتصادياً وديبلوماسياً كبيراً بالنتيجة.
الولايات المتحدة، التي بقيت مترفعة عن الصراع السوري ظاهراً طوال عهد أوباما، بدأت باستعادة زمام المبادرة وإن كان في سياساتها الكثير من الرعونة والتخبط. ولكن كل هذا «الضراط لن يفك المغيص» كما يقول مثلنا الشعبي المبتذل، فالولايات المتحدة قد فقدت القدرة على السيطرة التامة على المنطقة وستتداعى سلطتها أكثر مع الانهيارات الأمنية والجغرافية القادمة إلى سورية خلال التفتيش عن حل. ولن يعدم الإرهابيون وسيلة للاقتصاص من الولايات المتحدة لتدخلها ولعدمه في آن واحد، سواء كانوا منتجات محلية أو مستوردة مهما حاولت إدارة ترامب التضييق على المسلمين.
لكن اللعنة السورية الأدهى هي لعنة الصراع المذهبي السنّي-الشيعي التي ستنغرس أكثر وأكثر في مفاصل العالم الإسلامي الذي أهمل مظاهرها ولم يتداع لحلها سلماً عندما بدأت تطل ثانية برأسها القبيح بعد انتصار الثورة الخمينية في إيران. فحرب سورية، على عكس صراعات لبنان والعراق (وبدرجة أقل إيران وباكستان وأفغانستان) الطائفية، بلورت العداء المذهبي وسيّسته وعولمته في الوقت نفسه. وإيران المهددة اليوم ليس فقط في سياساتها التوسعية وإنما في اقتصادها وأمنها الداخلي لن تتوقف عن استغلال الطائفية في تنافسها على السيادة في المنطقة مع القوى السنية التي تشاركها تعنتها وتعصبها. هذا الصراع التاريخي الذي انفلت من قمقمه يهدد المنطقة العربية برمتها وربما العالم الإسلامي الواسع أيضاً. ولست أرى وسيلة للخروج منه مع انعدام الحكمة بين زعماء العالم الإسلامي وتغلب العاطفة والاحتقان والعنجهية على عموم الناس، كما شاهدنا في سورية والعراق ولبنان وسنشاهد في غيرها.
ناصر الرباط – الحياة[ads3]