قراءة من موسكو لمتغيرات الوضع السوري

في الفترة الأخيرة، جرت تغيرات ملموسة في الوضع المتعلق بالأزمة السورية. أولاً، لم يتشكل مساران تفاوضيان فحسب، بل ثلاثة مسارات، هي: جنيف وآستانة وعمان، مع بقاء جنيف ساحة وحيدة للمفاوضات السياسية الشاملة. أما فيما يتعلق بالساحتين المتبقيتين، فجداول أعمالهما متقاربة، وهي تقتصر على المسائل العسكرية والأمنية، لكنهما تختلفان في بنود المفاوضات والمشاركين فيها.

في الوقت الحالي، يمكن الحديث عن تشكل «ترويكاتين» (ثلاثيتين). الترويكا الأولى: روسيا وتركيا وإيران، رعاة عملية آستانة التي تضم عدداً أوسع من المشاركين من الترويكا نفسها. أما الثانية، فهي: روسيا والولايات المتحدة والأردن، ويختصر بهذه الدول عدد المشاركين. والمسارات الثلاثة تكمل بعضها بعضاً. وإذا تحدثنا بدقة، فإن مساري آستانة وعمان يمهدان الأرضية لعملية جنيف.

ثانياً، تشكلت في سوريا، بمساعدة الوسطاء الدوليين، مناطق «خفض التصعيد»، رغم عدم حل كل المشكلات المتعلقة بعمل هذه المناطق. وهذا القرار يحمل صفة مؤقتة لأنه لا توجد أي من القوى التي يمكن أن تشكك في أهمية وضرورة الحفاظ على سيادة ووحدة سوريا، أرضاً وشعباً. ورغم أهمية تشكيل مناطق «خفض التصعيد»، كحل مؤقت، يطرح عدد كبير من المحللين السؤال التالي: ألن تصبح هذه المناطق أداة لتقسيم سوريا؟ فكما يقال: لا يوجد شيء أكثر استدامة من الأشياء المؤقتة.

مهمة المجتمع الدولي هي القيام بكل ما أمكن لعدم السماح بذلك. روسيا، بالمناسبة، أرسلت وتستمر بإرسال مجموعات من الشرطة العسكرية إلى سوريا، مكونة من سكان الجمهوريات الإسلامية في شمال القوقاز: الشيشان وإنغوشيا وداغستان. سيصل عددهم في الوقت القريب، وفقاً لبعض المعلومات، إلى ألف شخص، وسيتم نشرهم ليس في شمال سوريا وفي حلب فقط، بل وحسب ما يقال على الحدود الجنوبية الغربية لمنطقة «خفض التصعيد»؛ أي، على ما يبدو، في محافظات درعا والقنيطرة والسويداء. ولا يزال من غير المفهوم ما إذا كان سيؤدي إلى تعقيد الوضع في الجنوب تصريح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بعدم قبول الاتفاق الروسي – الأميركي، فيما يتعلق بتشكيل منطقة «خفض تصعيد» خامسة، ستشرع – كما يزعم رئيس الوزراء الإسرائيلي – الوجود العسكري الإيراني في سوريا.

ثالثاً، تغير الوضع الميداني. فقد أصبح واضحاً أن «داعش» يخسر، لكن من الأصح في الوقت الحالي الحديث عن تقلص المساحات، أو حرمانه من الأرض فقط، وليس عن القضاء النهائي على هذه المجموعة الإرهابية. بالطبع، فإن نواة المشروع كانت تعتبر تشكيل دولة قبيحة ووحشية، مما يجعله بحاجة إلى الأرض بالذات. وعليه، فإن التحرير المقبل لمدينة الرقة سيشكل ضربة قاسية لهذا التنظيم.

ومن المعروف أن المجموعة الإرهابية في الظرف الحالي تولي اهتماماً خاصاً لعمل «فروعها» في مختلف أنحاء العالم – في أفريقيا وأوروبا وأوراسيا وجنوب شرقي آسيا. إن عدد الأشخاص الراغبين في الوقوف تحت راية هذا الوحش، والمخاطرة بحياتهم بالقتال ضمن صفوفه، تقلص بشكل واضح، لكنهم لا يزالون موجودين. وحتى في روسيا، توجد أمثلة لمحاولات بعض مواطنيها حتى يومنا هذا السفر إلى سوريا للانضمام إلى صفوف «داعش»، وقد تم إلقاء القبض على بعضهم في تركيا، بما في ذلك امرأة مع أطفالها.

والأحداث الأخيرة في جزيرة مينداناو (جنوب الفلبين) أظهرت وجود مقاتلين من أصول شيشانية بين السكان المحليين الذين، بحسب المعلومات الواردة، كانوا قد توجهوا إلى هناك بأمر من «داعش». إن المسألة التي تقلق روسيا بشدة، كما غيرها من الدول الثمانين التي يشارك مواطنوها ضمن صفوف «داعش» و«جبهة النصرة» في المعارك في سوريا، هي: إلى أين سيتوجه أولئك ممن سيبقى على قيد الحياة من الإرهابيين الذين فقدوا الوجه الإنساني بعد تحرير معاقلهم؟ عدد كبير من هذه الدول يفضلون أن يتم القضاء على الإرهابيين خلال المعارك في سوريا، رغم أن مسألة إمكانية إعادة تأهيلهم – أو على الأغلب تأهيل أولئك ممن لم يرتكبوا جرائم شنيعة – لا تزال مطروحة ضمن الأجندة.

رابعاً، أصبحت مسألة مكافحة الإرهاب تشغل المكان الأول ضمن استراتيجية أغلب الدول العظمى في العالم كأولوية مطلقة. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة بالدرجة الأولى إلى الولايات المتحدة بعد وصول الرئيس دونالد ترمب، وإلى فرنسا بعد وصول الرئيس إيمانويل ماكرون. وهناك فرصة لبدء التعاون بين هاتين الدولتين العظميين وروسيا، على أرضية مواجهة المجموعات الإرهابية (مع أنه لن يصل العمل على ما يبدو إلى درجة تشكيل ترويكا جديدة). ومن الطبيعي أن هاتين الدولتين تصنفان بـ«الإرهابية» فقط تلك المجموعتين المدرجتين ضمن قائمة الإرهاب لمجلس الأمن الدولي، أي «داعش» و«جبهة النصرة»، مهما حاول التنظيم الأخير تغيير اسمه.

خامساً، تم التوصل إلى نجاحات ليست بالقليلة في مجال توفير نظام لوقف العمليات القتالية. ويتم الالتزام بالهدنة على المستويات المختلفة بشكل عام، رغم بعض الخروقات. ويتحسن الوضع في إمكانية وصول المساعدات الإنسانية. وقد بدأ اللاجئون السوريون بالعودة من الخارج إلى المدن المحررة، وبالأخص إلى حلب. والعسكريون الروس يشاركون بنشاط في عودة الحياة الطبيعية إلى المدينة.

سادساً، لوحظ تراجع في عمل «المجموعة الدولية لدعم سوريا»، التي يتواصل رئيساها المشتركان – روسيا والولايات المتحدة – بشكل مستمر، عبر نظام مغلق في منصة عمان. وقبل أيام، أعلن الناطق الصحافي باسم الرئيس الروسي ديمتري بيسكوف أنه لم يحن الوقت بعد للكشف عن المعلومات المتعلقة بالاتفاق الروسي – الأميركي حول الهدنة الجديدة، لكن لا شك في أن الحديث يدور حول الاستمرار البناء للعملية.

سابعاً، توجد وتعمل اليوم قوات مسلحة تابعة لعدة دول على الأراضي السورية، من دون أن تتم دعوتها من قبل الحكومة السورية، أو أن تحصل على تفويض من الأمم المتحدة. ولا يزال من غير المعروف ما الخطط المستقبلية لهذه المجموعات فيما يتعلق بتموضعها في سوريا.

ثامناً (وأخيراً)، لقد ازداد ثقل العامل الكردي. ولا يمكن إخفاء التقارب بين الأكراد السوريين والولايات المتحدة التي تعتمد على «وحدات حماية الشعب» الكردية (YPG)، بصفتها مكوناً أساسياً لتلك القوى التي تقاتل «داعش» على الأرض. وهذه العملية اليوم تتم طبقاً لاتفاقية محددة. ويشير محللون إلى إمكانية وقوع تغير في موقف تركيا تجاه «وحدات حماية الشعب» الكردية، التي لا تزال أنقرة تنظر إليها بوصفها منظمة إرهابية. وعلى وجه الخصوص، كان قد لفت الانتباه تصريح نائب رئيس الوزراء التركي نعمان كورتولموش عن أن تركيا «لن تعلن الحرب على (YPG)»، لكنها سترد فقط في حال رأت في هذه المنظمة تهديداً لها.

من الطبيعي أن كل ما ذكر يصف المشهد الديناميكي للعملية بالإجمال، إذ إن هذا الشرح المختصر غير كاف لفهم ما يجري، ومن دون شك يمكن متابعة هذا التسلسل.

فيتالي نعومكين (رئيس «معهد الاستشراق» التابع لأكاديمية العلوم الروسية/ موسكو) – الشرق الأوسط[ads3]

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي عكس السير وإنما عن رأي أصحابها

تعليق واحد