دويتشه فيله : مشروع اندماج يضع أطباق اللاجئين على الموائد الألمانية
على أنغام الموسيقى الخليجيّة، يتفنن عطا الله العاسمي في تزيين طبق الفلافل قبل أن يقدمه إلى زبائنه، فيضيف إليه قليلاً من الحمّص المُعد على الطّريقة السوريّة، مع شرائح البندورة الألمانية التي “تختلف كثيراً” عن بندورة سهل حوران من حيث ينحدر الطباخ الشاب.
اللاجئ السوري قضى ثلث عمره تقريباً في السعودية قبل أن يضطرّ للخروج منها بسبب عدم تمديد إقامته، وقدم إلى ألمانيا في أوج موجة اللّجوء قبل حوالي عامين. وأصبح اسمه يربط بين كولونيا والطبخ واللاجئين من خلال مشاركته في العديد من الحفلات والمناسبات مع فريق “ربفودجيز” (ويعني بالإنجليزية: طعام اللاجئين) والذي يديره صحفيّان ألمانيان.
قبل سنة ونصف بدأ الشّاب –الذي بلغ أواخر العشرينات من عمره- أولى خطواته المهنية في ألمانيا بدعم من هذين الصحفييّن الألمانيين اللّذين يقولان أنهما تذوقا موهبته في الطبخ مع الطبق الأول الذي قام بتحضيره.
الصحفيان الألمانيان لينا بروير وكريستيان شميت كانا قد تذوّقا الطّعام الذي يحضّره بعض اللاجئين في نشاط نظمته إحدى الجمعيات في كولونيا، فلمعت في ذهنيهما فكرة أن يقوما بتأسيس مشروع يستفيد منه اللاجئون مادياً، بالإضافة إلى المتعة التي يعيشونها حينما يظهرون مهاراتهم في الطبخ للألمان.
يقول مؤسّس المشروع كرستيان شميت لـDW عربية: “هدفنا هو تغيير نظرة المجتمع من أزمة اللاجئين، من خلال خلق شيء ملموس يصنعه اللاجئون ويستمتع به الناس هنا”. ويضيف شميت بالقول: “نعرف أنّ كل لاجئ ترك وراءَه قصّة حزينة، ولكن في الوقت نفسه يُسعدنا أن يكون أولئك الأصدقاء بيننا بسلام”.
وعن بداية المشوار يقول العاسمي -الذي أصبح الطبّاخ الرئيسي للمشروع – في حوار مع DW عربية: “علمت بوجود المبادرة من خلال الفيسبوك، ومن يوم لقائنا الأول، أصبحتُ جزءاً من الفريق”، ويتابع: “كان المشروع صغيراً، ويقتصر على تحضير نوعين من الأطباق الشرقية، ولكن فيما بعد قمنا بتوسيع قائمة الأطباق التي نقدّمها لزبائننا بكل حبّ”.
تبدو السيارة البنية البرتقاليّة التي يعمل فيها العاسمي مع بعض اللاجئين الآخرين من الداخل كلوحة مُزركشة الألوان، فالتبّولة وسلطة الشوندر الأحمر مع سلطة السبانخ المطعمة بالجوز، تصطف على رفوف السيارة الداخلية ليقدمها العاسمي كمقبلات مع أطباق الفلافل والشاورما والبطاطا والفريكة (حبوب القمح التي تطبخ خضراء قبل نضوجها) التي يتفنن في تحضيرها.
تقول لينا بروير، الصحفية الثلاثينية -التي تساعد العاسمي أحياناً في قلي أقراص الفلافل- في حوار مع DW عربية: “نريد أن نعطي اللاجئين فرصة كي يظهروا مواهبهم، وأن نأخذ بيدهم في خطو خطواتهم الأولى والاعتماد على أنفسهم مادياً”، وتضيف: “عندما جاء عطا الله إلينا في البداية لم يكن سعيداً، ولكن ها هو الآن يضحك ويغنّي ويستمتع معنا بعد أن وجد فرصته. هذا ما نريد تحقيقه”.
يتحدث عطا الله العاسمي -الذي تظهر جدية ملامح وجهه حتى وهو يضحك- عن الصعوبات التي واجهها في بداية وجوده في ألمانيا، ويقول: “بقيت ثمانية أشهر في صالة رياضية مع 300 شخص آخر، ولم أكن خلالها أتحدث سوى القليل من الألمانية نتيجة عدم وجود الحافز”، ويتابع: “لكن هذا المشروع ساعدني كثيراً على تحسين لغتي الألمانية وإقامة صداقات مع الألمان”.
ولا ينظر العاسمي للصحفييّن لينا بروير وكريستيان شميت كأرباب عمل، وإنّما كصديقين قريبين يدعمانه ويقدمان له المساعدة في كل جوانب حياته، ويقول في هذا السياق بابتسامة مليئة بالامتنان: “لقد ساعدتني لينا مرّتين عندما كنت أبحث عن بيت للإيجار، ورغم صعوبة تلك المهمّة في كولونيا فقد استطعت استئجار بيت وكلّ ذلك بفضلها”.
ولا يخفي الطبّاخ الشاب الذي لم يرَ والدته منذ أكثر من سبع سنوات، أنه فكّر في البداية بمغادرة ألمانيا لأنّه وجد صعوبة في الاندماج بالمجتمع الألماني، ويستطرد قائلاً: “لينا وكريستيان هما سبب بقائي في ألمانيا، فقد أخرجاني من عزلتي، ومهّدا لي طريق الاندماج. أنا الآن سعيد وأحبّ لينا وكريستيان وكولونيا كثيراً”.
يتلقّى الشاب الهادئ العديد من فرص العمل من الأشخاص الذين يتذوّقون طعامه، لكنّه يبدي رغبته في البقاء مع “ريفودجيز” في السعي لتطوير المشروع كي يستفيد منه عدد أكبر من الناس. ويتابع: “هنا يمكن للّاجئين أن يحسنوا من لغتهم الألمانية وأن يندمجوا بشكل أفضل، بدل من أن يعملوا بشكل غير قانونيّ عند الاستغلاليين من أبناء جلدتهم، الذين لا يعطونهم حتى نصف الحد الأدنى من الأجور”، في إشارة إلى استغلال بعض اللاجئين في سوق العمل.
وحول الجهة الداعمة للمشروع يقول كريستيان شميت: “تدعمنا منظمات المجتمع المدني في كولونيا، ونتلقى أيضاً تبرعات من الناس، استطعنا أن نبدأ المشوار وأن نشتري سيارتنا المخلصة، واسمها “حبيبي”، ونقوم بها بجولات في كولونيا والمناطق المحيطة بها”.
ويبدو جلياً أن العلاقة بين عطا الله العاسمي والصحفيين الألمانيين لم تقتصر على إطار العمل في هذه المبادرة، إذ تقول لينا بروير عن طبّاخهم الرئيسيّ: “هو شخص طموح وأمين ويمكن الوثوق به، نعتمد عليه في كلّ شيء، ونعطيه مفاتيح بيتنا وسيارتنا أيضاً”. كما تعبر عن رغبتها في تطوير المشروع ليكون احترافيّا أكثر ويقوم بتأمين فرص عمل ثابتة للعاسمي وغيره من اللاجئين الذين يريدون أن يطوّروا من مهاراتهم في الطبخ.
وعن عدد اللاجئين الذين استفادوا من هذا المشروع تقول بروير: “حتى الآن عمل معنا سبعة وأغلبهم من السوريين، بعضهم عمل سابقاً في المطاعم العربية، وبعضهم الآخر يساعد في تقطيع الخضار ويتعلم كيفية الطبخ إلى جانب اللغة الألمانية”، وتتابع: “ليس من الشرط أن يكون طموح المرء أن يصبح طباخاً حتى ينضم إلينا، فبعض العاملين معنا يطمحون لإكمال دراستهم في ألمانيا، أو العمل بمهنهم، ولكنهم يأتون إلينا لتحسين لغتهم”، وتضيف بابتسامة عريضة: “نرحب بأيّ لاجئ يأتي إلينا. أبوابنا وقلوبنا مفتوحة للجميع”.
محي الدين حسين – دويتشه فيله[ads3]