عن ” القوة المالية ” الجديدة لألمانيا
في الأسبوع الماضي، قطع وزير الخارجية الألماني سيغمار غابرييل عطلته في بحر الشمال للرد على سجن تركيا للناشط الألماني لحقوق الإنسان. وحذر غابرييل السياح الألمان من مخاطر زيارة تركيا، ونصح الشركات الألمانية بالتفكير مرتين قبل الاستثمار في بلد يتزايد فيه التشكيك في التزام السلطات بسيادة القانون.
وهذا يشكل سياسة ألمانية جديدة تجاه تركيا، ويؤكد كذلك وضع ألمانيا كقوة اقتصادية كبيرة. لقد أرسل إعلان غابرييل صدمة في أوساط الحكومة التركية، لأنه أشار إلى رد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على إسقاط تركيا لطائرة حربية روسية في عام 2015.
فقد فرضت روسيا عقوبات على اقتصاد تركيا أدت إلى ضياع 15 مليار دولار، وأجبرت في النهاية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على تقديم اعتذار صارخ. رد بوتين العدواني لم يكن مفاجئا. وعلى النقيض من ذلك، فإن قرار ألمانيا بالاستجابة بطريقة مماثلة يعكس انقطاعا عن أسلوبها الدبلوماسي اللبق عموما.
وأخبرني الدبلوماسي الألماني المتقاعد فولكر ستانزل أن الخطوة الأخيرة التي اتخذها غبرييل تتماشى مع شخصيته ومهنته وتخدم حسابه السياسي. فتحسبا لانتخابات ألمانيا الوطنية في سبتمبر/أيلول؛ يعرف غابرييل أن حزبه الديمقراطي الاشتراكي ليس لديه ما يخسره من خلال الوقوف ضد أردوغان، الذي عانى الألمان من شخصيته الاستبدادية وميوله الإسلامي وانتقاده للهولوكوست.
ويشير ستانزل أيضا إلى أن غابرييل -الذي يتأثر كثيرا بوسائل الإعلام كما هو حال دبلوماسيين آخرين- يريد صياغة أسلوب دبلوماسي أكثر توجها إلى الجمهور في القرن الواحد والعشرين. ولأن منصبه الحكومي السابق كان في وزارة الشؤون الاقتصادية والطاقة، فمن الطبيعي أن يستخدم الضغط الاقتصادي ملاذا أول.
ومع ذلك، فإنالموقف العالمي المتغير لألمانيا جاء قبل غابرييل، وهو الوافد الجديد نسبيا إلى وزارة الخارجية. فخلال أزمة اليورو، نشرت ألمانيا وسائل اقتصادية لتحقيق أهداف اقتصادية داخل أوروبا. ولكن في سياساتها تجاه روسيا وتركيا والصين والولايات المتحدة، زادت ألمانيا استخدام قوتها الاقتصادية للنهوض بأهداف إستراتيجية ضخمة.
وبعد أن ضم بوتين شبه جزيرة القرم في مارس/آذار 2014، لم يكن رد الفعل الغربي من الولايات المتحدة، بل من ألمانيا التي قادت الدبلوماسية مع روسيا وأوكرانيا لتخفيف حدة الصراع. ثم أقنعت ألمانيا بقية الاتحاد الأوروبي بالموافقة على عقوبات صارمة لم يسبق لها مثيل ضد روسيا لردع العدوان بشكل قوي.
وقد حافظت ألمانيا على الجبهة الأوروبية الموحدة مدة ثلاث سنوات، متحدية كل التوقعات. والآن وبعد تزايد الفضائح ذات الصلة بالروس على إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب؛ يتطلع الأوروبيون بشكل متزايد إلى ألمانيا لمواصلة قيادتها لهم في هذا الشأن.
وتفاوضت ألمانيا أيضا من أجل اتفاق مع تركيا للحد من تدفق لاجئي الشرق الأوسط إلى أوروبا، وإعادة صياغة العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وتركيا.
وبدلا من الحفاظ على أمل أن تظل تركيا مرشحا قابلا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي؛ أقامت ألمانيا علاقات ثنائية إستراتيجية أكثر واقعية. ولا تزال أوروبا تعمل مع تركيا للنهوض بالمصالح المشتركة، ولكنها يمكن أن تثير اعتراضات على استبداد أردوغان المتزايد.
وبطبيعة الحال، قد تكون رغبة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في مواجهة ترمب هي التغيير الأكثر إثارة لدهشة الجميع في السياسة الخارجية الألمانية. فبعد اجتماع قصير مع ترمب في قمة مجموعة السبع بصقلية في مايو/أيار الماضي، ألقت ميركل خطابا يدعو أوروبا إلى “أخذ مصيرنا بأيدينا”. وهذا وحده يمثل خروجا عن عقود من الدبلوماسية الألمانية.
حتى الآن، كان تمزق العلاقات الألمانية الأميركية في الغالب على مستوى البلاغة. ولكن ميركل تدعم أيضا الموقف الجيوسياسي الألماني بتنويع شراكاتها العالمية، خاصة مع الصين. وقال ستانزل -الذي شغل منصب سفير ألمانيا في بكين- إن “ميركل ليست لديها أوهام حول الصين، لكنها ترى أنها شريك في المناخ والتجارة وسياسة النظام”.
وقد تطور نهج ألمانيا الجديد لسياسة القوى العظمى تدريجيا، وذلك باستجابة لأحداث لا علاقة بينها على ما يبدو. ولكن حتى لو لم تتبع ألمانيا خطة رئيسية، فإن نقاط القوة الأساسية لديها مكنتها من الاستفادة من قوتها الاقتصادية، واستخدام مؤسسات الاتحاد الأوروبي وميزانياته كمضاعفة للقوة، وبناء تحالفات دولية سعيا لتحقيق أهداف إستراتيجية.
وعلاوة على ذلك، تمثل الدبلوماسية الألمانية المتغيرة استمرارا لعملية “التطبيع” التي بدأت مع إعادة توحيد ألمانيا في عام 1989، مما أدى إلى مناقشات محلية كبيرة حول استخدام القوة العسكرية، وأهمية علاقات ألمانيا مع الولايات المتحدة وروسيا والقوى الأوروبية الأخرى.
كل هذا يشير إلى أن ألمانيا قد تهرب أخيرا من “إشكاليتيْن” قيدتا طويلا تفكيرها الإستراتيجي. الإشكالية المعقدة الأولى تتعلق بالجانب النفسي والتاريخي الذي يُجبر القادة الألمان على الانحناء إلى الوراء لطمأنة الأجانب بشأن نواياهم. وهذا ما يفسر لماذا أصرت ألمانيا طويلا على “المساهمة، وليس القيادة” أو “القيادة من الوسط”، وتحتضن الآن فكرة “القيادة الخادمة”.
وتتعلق الإشكالية الثانية بالموقف العسكري للبلاد. إذ لا تزال ألمانيا تنفق على الدفاع نسبة 1.2% المتواضعة من ناتجها المحلي الإجمالي، وتميل مناقشاتها الداخلية حول السلطة إلى أن تكون متأثرة بضغط الميزانيات العسكرية، ونشر القوات، والتدخلات الأجنبية.
وفي الوقت نفسه، فإن توافق الآراء داخل المؤسسة الأمنية الألمانية بشأن استخدام القوة آخذ في التغير. وتقوم ألمانيا ببناء علاقات عسكرية ثنائية مع دول مثل النرويج وهولندا واليابان.
كما بدأت في القيام بدور أكثر نشاطا في مختلف مسارات العمليات، ونشرت قوات في أفغانستان ومالي، وقدمت الدعم للمقاتلين الأكراد في سوريا والعراق. وقد كانت تقود جهودا -جنبا إلى جنب مع فرنسا- لإنشاء صندوق للدفاع الأوروبي.
وهذه كلها تطورات هامة، لكنها دون أهمية قرار ألمانيا بعرض قدرتها الاقتصادية الضخمة على الساحة العالمية. ويعد رد فعل غابرييل الأخير نحو تركيا خطوة في هذا الاتجاه؛ فلماذا إرسال قوات إلى الخارج عندما يكون لديك تأثير أكبر عبر الحفاظ على السياح والشركات العالمية في الداخل؟
مارك ليونارد (مدير المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية) – بروجيكت سينديكيت – الجزيرة[ads3]