ألمانيا : مسافرون إلى الرايخ الثالث .. صعود الفاشية في عيون الناس العاديين
جمعت جوليا بويد شهادات أدباء وفنانين وعلماء زاروا ألمانيا النازية، فسجلت في كتابها “مسافرون إلى الرايخ الثالث: صعود الفاشية في عيون الناس العاديين” الكلمات التي استخدموها في وصف النازيين. والمؤسف أن وصفهم كان إيجابيًا.
كانت الحوادث التي وقعت في ألمانيا بين عامي 1918 و1945 تاريخية درامية، وفظيعة أيضًا. ويجمع كتاب “مسافرون إلى الرايخ الثالث: صعود الفاشية في عيون الناس العاديين” Travellers In The Third Reich: The Rise Of Fascism Through The Eyes Of Everyday People (مكون من 464 صفحة؛ منشورات إليون وتومسون؛ 20 جنيهًا إسترلينيًا) لجوليا بويد شهادات زوار أجانب من يومياتهم ورسائلهم عن أشياء رأوها ولم يروها خلال هذه الفترة الحافلة.
ألمانيا الشقراء
يبدأ الكتاب بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، حين بلغ الاقتصاد الألماني درجة من الضعف أعادته إلى زمن المقايضة، وينتهي بوصول الجيش الأحمر إلى برلين.
يستهل أحد فصوله بالقول “إن سنة 1939 لم تكن سنة جيدة لتجارة السياحة في ألمانيا”. وكانت غالبية الزيارات والرحلات السياحية التي جمعتها المؤلفة والباحثة جوليا بويد في كتابها قد حدثت قبل ذلك العام من ثلاثينيات القرن الماضي.
ففي عام 1937، استقبلت ألمانيا نصف مليون زائر أميركي، واستمرت شركة “توماس كوك” في تنظيم الرحلات إلى ألمانيا حتى عام 1939.
كان الأميركيون والبريطانيون، الذين استدرجهم النظام النازي، يقومون بجولات سياحية على قلاع تاريخية وحدائق البيرة الألمانية، لكنهم كانوا يرون أيضًا المسيرات النازية ورفع شعار الصليب المعقوف مع إحساس خانق بنظام صارم.
لاحظ الدبلوماسي الأسترالي آرثر ينكين في عام 1935 “أن السكان كلهم يبدون وكأنهم أُلبسوا أحلى زينة… يبدو كأن حملة وطنية نُظمت لكيّ الملابس ولتسريحة شعر وطنية”. كما انتبه الدبلوماسي الأسترالي إلى أن ألمانيا أصبحت شقراء أكثر من ذي قبل. وتبيّن الأرقام بيع 10 ملايين علبة من صباغ الشعر باللون الأشقر في عام 1934.
صحافة شائنة وأكاذيب!
حضر الصحافي الفرنسي دانيل غويران، الذي كان في جولة على الدراجة الهوائية في عام 1933، حفلة موسيقية أحيتها “قوات العاصفة” النازية، ولاحظ طرب الفتيات على وقع الجزم. ثم كانت هناك التحية النازية المنتشرة في كل مكان.
شعر أنتوني توينبي بأن “هناك الكثير الذي يجب أن يُقال عن التحية الهتلرية بوصفها وسيلة لبناء عضلات الذراع التي تحمل السيف”، فيما كتب الزائر الشاب ويكهاميست أنه لم يتمالك نفسه من الضحك عندما سقط رجل بدين على الأرض، بعدما حاول أن يؤدي التحية النازية، وهو يقود دراجته الهوائية.
الاعتقاد الشائع أن النازيين أشرار صحيح بلا ريب، ومن لم يلحظ ذلك فهو غبي أو فاشي مثلهم. وكان البعض غبيًا حقًا، والبعض الآخر غبيًا وفاشيًا. فالسائد هو رسم صورة ألمانيا بالأسود والأبيض، في حين أن بويد تعطي في كتابها ظلالًا أخرى.
كان هناك فخفخة استعراضية. ففي عام 1935، نُظمت للادميرال البريطاني باري دومفيل، رئيس الكلية البحرية الملكية ورئيس الاستخبارات البحرية السابق، زيارة بمرافقة مرشدين إلى معسكر داخاو جنوب المانيا. وأُعجب الادميرال بما رآه من وسائل الراحة والنظام في معسكر الاعتقال، وقال متأسفًا: “كانت الصحافة الإنكليزية شائنة في الآونة الأخيرة بأكاذيبها عن ألمانيا”.
إعجاب غريب
كان هناك رجال دين معيبون أيضًا. فالقس البريطاني فرانك بوكمان مؤسس “جماعة أوكسفورد” كتب في وصف هتلر: “ربما يرشدنا هذا الرجل بعيد النظر إلى مخرج من وضعنا”.
وتمكن المايسترو السير توماس بيتشام من إبداء رأيه بلباقة، إذ تهرب بعد دعوته إلى قيادة فرق سيمفونية في مهرجان بايروت من الغداء مع هتلر ببرقية مقتضبة قال فيها: “آسف لا أستطيع المجيء”. وخلال قيادته حفلة، كان يعرف أنها تُبث على الهواء، قال بصوت يلتقطه الميكرفون: “يبدو أن هذا الوغد يُحب الموسيقى”.
من الشهادات الأخرى في الكتاب شهادة السير روبرت فانسيتارت، وكيل وزارة الخارجية الذي أُقنع بحضور دورة الألعاب الأولمبية، وفوجئ على الرغم من عدائه الشديد للنازية بأنه معجب بوزير الدعاية النازي غوبلز، الذي قال عنه: “وجدت فيه الكثير من السحر، أعرج ذو مسحة يعقوبية، سريع كالسوط، ولا أشك في أنه قاطع كالسوط”.
كان هناك أيضًا من يحبون ألمانيا ويكرهون النازيين. وأسفر هذا التناقض عن قيام ليبراليين يحبون بيتهوفن بإرسال أطفالهم إلى ألمانيا لتوسيع آفاقهم الذهنية في ظل النازية.
من بين المعجبين بألمانيا النازية وقتذاك سيدة المجتمع يونيتي ميتفورد، التي كانت مولعة بهتلر، ومر وقت انضمت فيه إلى حلقته الداخلية؛ وماركيز لندندري، الذي زار ألمانيا ست مرات في سنتين. وكتبت ابنته ميراي ذات الخمسة عشر عامًا في يومياتها: “تناول العشاء مع هتلر… وتناول الغداء مع دوق ساكس ـ كوبورغ، ثم ذهبنا إلى أحد معسكرات العمل”.
يحبون الطبيعة؟
يزخر الكتاب بشهادات أدباء، إذ كانت فرجينيا وولف تعتقد أن ألمانيا “دعيّة ، مشهدها أوبرالي، وروابيها عالية، لكنها ليست شامخة”، في حين زار الشاعر دبليو. إتش. أودن معهد البحوث الجنسية، الذي أُنشئ في عام 1919، وكان رمزًا لحداثة برلين.
في هذا المتحف، رأى أودن “ملايس داخلية نسائية كان يرتديها ضباط بروسيون فحول بشراسة تحت زيهم العسكري”. وأُحرقت مكتبة المعهد في عام 1933. كما زار ألمانيا في تلك الفترة الروائي الأميركي كريستوفر آيشروود والشاعر ستيفن سبندر اللذان جالسا عمّالًا وبحارة في برلين.
كان الروائي الأميركي توماس وولف معجبًا بالآلات الألمانية، وكتب عن الترام الألماني: “عربته نظيفة، ناصعة، كأنها لعبة مثلى تنزلق بهدوء في الشارع”.
اتخذ الكاتب والشاعر الفرنسي جان جينيه موقفًا أخلاقيًا من ألمانيا النازية قائلًا إن من المستحيل أن يعيش فيها كخارج على القانون.
من جهة أخرى، بقي الكاتب الانكليزي هنري وليامسون مصرًّا على إعجابه بالنازيين الذين يحبون الطبيعة برأيه. وأقصى ما قدمه من تنازل كان الاعتراف في عمل نشره في عام 1969 بأنه لم يكن حكيمًا بما فيه الكفاية في الثلاثينيات لأن يدرك “بأن رجلًا ذا مشاعر فنية جياشة يجب ألا يكون أبدًا مسؤولًا عن قيادة أمة”.
صحيفة تيليغراف البريطانية – إيلاف[ads3]