“قدس كردستان ضاعت”

انتقل التأزّم السياسيّ الذي أعقب استفتاء إقليم كردستان إلى الوضع الميدانيّ بشكل سريع بعدما شنّت القوّات العراقيّة هجوماً سيطرت من خلاله على معظم المراكز الحيويّة في مدينة #كركوك. وكان لافتاً حدوث التطوّرات العسكريّة بعد سلسلة من اللقاءات التي أجراها الموفد الأميركيّ الخاص إلى التحالف الدوليّ بريت #ماكغورك مع عدد من القادة العراقيّين والتي شدّد خلالها على عدم سماح بلاده بنقل الحرب إلى داخل المدينة. لكنّ التطوّرات العسكريّة الأخيرة وسرعة سيطرة القوّات المهاجمة على المرافق الأساسيّة في كركوك لم تراعِ طموحات ماكغورك. لقد جاء هذا التراجع السريع لقوّات #البشمركة كي يعكس مجموعة من العوامل الداخليّة والخارجيّة التي ساهمت في هذا التقهقر والانسحاب من مدينة وصفها أحد المقاتلين الأكراد في مقابلة إعلاميّة بأنّها “قدس كردستان”.

كان من المنتظر أن تكون كركوك، وكردستان العراق عموماً، نقطة تجاذب عميق بين #واشنطن و #طهران خصوصاً بعد إعلان الرئيس الأميركي دونالد #ترامب عدم مصادقته على الاتفاق النووي وتبنّيه مزيداً من العقوبات على الحرس الثوري. وسبق لمراقبين أن أشاروا إلى الفرق الكبير بين الخطاب الحادّ الذي تبديه الإدارة الأميركيّة تجاه #إيران وبين سلوكها على الأرض الذي لا يواجه توسّع #طهران في الشرق الأوسط. وحتى النقاش الأميركي حول مرحلة ما بعد داعش يبدو غامضاً. منذ أيّام، قال الإعلاميّ والباحث الكرديّ في شؤون التطرّف دانا نوزَر جاف ل “النهار” إنّه من دون إجراء “تعديل جدّي وحقيقيّ” على نظرة الولايات المتّحدة إلى الشرق الأوسط فإنّ خطوات ترامب الأخيرة “لن تعني الكثير”.

وكركوك يمكن أن تكون مثلاً حيّاً على هذا الواقع. فهي لم تثبت فقط غياب الحضور الفاعل للإدارة الأميركيّة عن مجرى الأحداث، بل برهنت أيضاً قدرة إيران في الردّ سريعاً على قرار الرئيس الأميركيّ.

“بداية لمعارك أخرى”

في هذا السياق، يشرح أمجد طه، الرئيس الإقليميّ ل “المركز البريطانيّ لدراسات وأبحاث الشرق الأوسط” أنّ أحداث كركوك هي “معركة مؤجّلة كانت تنتظر استراتيجيّة أميركا الجديدة تجاه إيران”. وأضاف في حديثه إلى “النهار” أنّه بعد هذه المعركة، “نتوقّع فتح جبهات وأزمات جديدة في المنطقة قد تصل نارها للبنان عبر بوّابة حزب الله”. فبالنسبة إليه، “جاءت معركة كركوك بأوامر وقيادة إيرانيّة لاقتحام كردستان من بوّابة كركوك لفرض أمر واقع جديد على المنطقة والتحالف الدوليّ في العراق”.

“النصر للبشمركة في نهاية المطاف”

ووصف طه ما يجري بأنّه “أوّل جولة” لمعركة “لم تنتهِ”. فهي “معركة بدأتها بغداد برعاية تركيّة إيرانيّة ولكنّ الأكراد ومعهم العرب في كردستان هم من سيضعون النهاية لها”. وأعرب الباحث عن اعتقاده بأنّ “النصر (سيكون) حليف البشمركة في نهاية المطاف”، إذ إنّ الأكراد خاضوا حرب شوارع وعصابات ثمّ انتقلوا بعدها للتحوّل إلى جيش شبه رسميّ على حدّ تعبيره. وأشار إلى أنّ التاريخ “يؤكّد أنّ كلّ زعامات العراق فشلت في إخضاع الأكراد”.

عقاب

لكن كيف يمكن تفسير الموقف الأميركي تجاه الأحداث الجارية؟ يطرح طه عدداً من الاحتمالات التي يمكن أن تلخّص المشهد. فهو لفت النظر إلى أنّ “الدور الأميركي يأتي متخاذلاً كما يراه الأكراد على أقلّ تقدير”. ولا يستبعد الباحث وجود إرادة أميركيّة لمعاقبة رئيس الإقليم مسعود #بارزاني لأنّه سار بعكس إرادتهم في إجراء الاستفتاء: “هو قد يعبّر عن محاولة إعطاء درس لمسعود بارزاني الذي تحدّاهم في الاستفتاء”.

لكن بالرّغم من ذلك، يرى طه أنّ الموقف الأميركيّ يمكن أن يتعدّل في المستقبل القريب بسبب الدور الذي قد يؤدّيه الأكراد والذي يُحتمل أن ينتج مصلحة مشتركة لكردستان وواشنطن: “القوّة الأميركيّة في نهاية المطاف تدرك أنّ الأكراد هم الضامن لمنع إيران والأتراك من التوسّع في المنطقة، لا القوّات المتطرّفة في بغداد”.

“خيانة”

غير أنّ إلقاء اللوم على الأميركيّين قد لا يساعد الأكراد في العمل على الخروج من الوضع الذي أوجدوا أنفسهم فيه إلى حدّ كبير. فالحديث عن “خيانات” داخليّة ملأ وسائل الإعلام الكرديّة ومواقع التواصل الاجتماعيّ، كأحد الأسباب التي تشرح هذا الإخفاق أو ربّما تتستّر وراءه. لكنّ تقاطع الأخبار والتحليلات يشير إلى وجود خلاف داخليّ أدّى إلى هذه الخسارة.

الخبير في الشؤون الكرديّة والعراقيّة والباحث في مركز الطاقة والموارد الأمنيّة ضمن معهد “كينغز كولدج” شوان زُلال غرّد على “تويتر” أنّ الحزب الديموقراطيّ الكردستانيّ (بارزاني) والاتّحاد الوطني الكردستاني (طالباني) تبادلا الاتّهامات في عدم حماية المدينة.

من هنا يضيف طه عاملاً إضافيّاً في تفسير أحداث كركوك: “الخلافات الكرديّة الكرديّة وخيانة بعض من جماعة طالباني وبعض أهل المصالح لعبوا دوراً في جلب قوّات الحرس الثوريّ الإيرانيّ وبغداد لاحتلال كركوك”.

“كركوك ضاعت”

لم يكن طه الباحث الوحيد الذي أشار إلى الخلافات الداخليّة. المحلّل السياسيّ في “مؤسّسة الشرق الأوسط للبحوث” يريفان سعيد، يؤكّد ل “النهار” أيضاً أنّه “من البديهيّ أن يكون بعض القادة الأكراد قد تعاون مع بغداد من دون أن يُعلم إقليم كردستان حول الموضوع”. لكنّه لا يغرق كثيراً في البحث حول هذه الجزئيّة من المشهد الداخليّ الكرديّ: “حتى هذا الوقت، كركوك ضاعت”.

ما هو التالي؟

“ليس واضحاً ما سيحصل ثانياً. هنالك حالة من الضياع والفوضى داخل القيادات والقوات الكرديّة. يستغرق الأمر بضعة أيّام للقادة الأكراد كي يخلّصوا أنفسهم من (وقع) هذه الهزيمة”. ويرجّح الباحث أن تكون هنالك مفاوضات بعد هذه المرحلة. فرئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي “حصل على ما يريده” وهو السيطرة على كركوك ومناطق أخرى متنازع عليها. “لكن هذا سيضع الأكراد في موقع أضعف بكثير”.

إذاً علامَ سيتفاوض الطرفان؟

يرجّح الكاتب وجود بنود قليلة تتمحور حولها أي محادثات لاحقة: “لست متأكّداً ممّا تبقّى ليتمّ التفاوض عليه من الجانب الكردي باستثناء تسليم السيطرة على الحدود وصادرات النفط إلى السلطات الفيديراليّة”.

جورج عيسى / النهار اللبنانية[ads3]