فاينينشال تايمز : المفاضلة بين ألمانيا الأوروبية و أوروبا الألمانية تؤرق بروكسل

اقتصاد البلدان في حالة نمو، ومعدلات البطالة في انخفاض. من باريس يأتي طوفان من الأفكار التي تهدف إلى إحياء وإنعاش الاتحاد الأوروبي.

في برلين، كان الاستقبال العام المهذب لأفكار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الواسعة محل صعوبة في إخفاء قبضة تزداد تشددا على دفتر الشيكات الألمانية. ثم تتساءل: هل أوروبا في سبيلها إلى أن تفوِّت فرصة نادرة؟

لسنوات كثيرة كانت ألمانيا تتحسر على غياب شريك جاد في باريس – بمعنى وجود سياسي في قصر الإليزيه على استعداد لتحديث الاقتصاد الفرنسي، واستعادة الحركية الفرنسية الألمانية إلى السياسة في الاتحاد الأوروبي.
كان صناع السياسة الألمان يتحسرون بقولهم: يا ليت لو من الممكن استعادة مشاركة الزعامة الأوروبية مرة أخرى، بين برلين وباريس.

حصلت حكومة أنجيلا ميركل على ما كانت تتمنى، بل وأكثر من ذلك. حماسة ماكرون الأوروبية ملتحمة مع النظرة الواقعية التي تقول إنه يجب على فرنسا أن تعمل على ترتيب أوضاعها وحل مشكلاتها الاقتصادية.

الأشهر التي انقضت منذ الانتخابات الرئاسية شهدت تخفيضا في عجز الموازنة، وتحرير قوانين العمل، وتخفيض الضرائب. ماكرون يفي بالالتزامات المطلوبة منه، التي تجعله جديرا بالمشاركة في القرار الأوروبي.

بالنسبة إلى أوروبا، هذا هو أفضل توقيت يمكن الحصول عليه. حاجة أوروبا إلى أن تعيد اختراع نفسها – من أجل أن تعمل الإصلاحات على تحقيق الانسجام بين قدرة الاتحاد الأوروبي وبين تحديات اليوم – تتطابق هذه المرة مع الفرص المتاحة.
بعض المشكلات لن تختفي بسرعة – الانزلاق نحو تقييد حرية السلوك والفكر والتعبير في أجزاء من أوروبا الشرقية، والصدام بين إسبانيا والانفصاليين في كاتالونيا.

إلا أن سحابة الأزمة الدائمة انقشعت. الثقة الاقتصادية بمنطقة اليورو هي الآن عند أعلى مستوياتها منذ عام 2001، كما تراجعت أزمة الهجرة، وتم ضبط أكثر النزعات الشعبوية مؤقتا.

أما التحديات فهي تتحدث عن نفسها. تمت تسوية بعض الخلافات في منطقة اليورو، لكن الاتحاد النقدي يفتقر إلى أسس اقتصادية قوية.

السلطة الاحتكارية لعمالقة التكنولوجيا الأمريكية تقتضي من الاتحاد الأوروبي أن يعمل على شحذ قوانين التنافس والضرائب في عموم الاتحاد. أما أزمة اللاجئين في 2015 فقد كشفت نقاط الضعف في الحدود الخارجية للاتحاد والتوترات بين قوانين الهجرة في البلدان المختلفة وبين نظام شينجن للحدود المفتوحة. الشعبوية كشفت عن وجود مظالم حقيقية لدى الناس الذين تعرضوا للتهميش.

الألوان البراقة لمشروع ماكرون، التي وضعت ضمن إطار من الثقة المفرطة لسياسي استطاع لتوه إحداث انقلاب في النظام السياسي للجمهورية الفرنسية الخامسة، كان من المعروف أنها ستصطدم دائما بالألوان الرمادية لبرلين.

إلا أن ما أراه الآن هو أن الساسة الألمان يقعون في فخ لم يتمكن البريطانيون قط من الإفلات منه، على مدى أربعة عقود من عضوية الاتحاد الأوروبي. أوروبا ضمن هذه العقلية الانهزامية للذات، هي سلسلة من التعاملات ذات المجموع الصفري، التي يربح فيها طرف على حساب طرف آخر – أي بيانات في الموازنات العامة لمحاسب يهتم بضبط النفقات، بدلا من العمود الفقري للسلم والرخاء في أوروبا.

ألمانيا قبل فترة ليست بالطويلة اتخذت وجهة نظر أرحب. ليس بدافع الإيثار ولكن استنادا إلى أسباب قوية تدور حول المصلحة القومية الأنانية. الرفاهية الاقتصادية والأمن الفعلي للجمهورية الفيدرالية، ناهيك عن إعادة توحيد الألمانيتين، كان يقوم دائما على الأركان الثلاثة للنظام الأوروبي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. الآن ها هي توضع موضع التساؤل.

الاتحاد الأوروبي كان أداة للمصالحة مع فرنسا وفي الوقت نفسه الجواب على السؤال الألماني المشهور – كيف نستوعب أمة كبيرة فوق الحد ضمن قارتها بالذات، مع أنها صغيرة دون الحد بالنسبة إلى العالم.

ألمانيا، وليس من قبيل الصدفة، كانت توفر السوق للصناعة الألمانية المنتعشة. وأضاف تحالف الناتو ضمانة أمنية ضرورية على شكل الوجود الأمريكي في أوروبا، وأنهت اتفاقيات هلسنكي لعام 1975 المنازعات حول الحدود التي كانت لفترة طويلة، تقع ضمن صميم الحروب الأوروبية.

الأحداث أخذت الآن تنهش كل واحد من الأركان الثلاثة. ارتقاء دونالد ترمب إلى سدة الرئاسة الأمريكية يضع علامة استفهام على المدة التي ستبقى فيها الولايات المتحدة قوة محسوبة لمصلحة أوروبا.

قيام روسيا بضم القرم وغزوها لشرقي أوكرانيا هما ازدراء لأحكام هلسنكي.

من جانبه، فإن الاتحاد الأوروبي خسر بريطانيا الآن – التي ربما كانت شريكا غريبا، لكنها تظل مع ذلك قوة أوروبية مهمة.

حين يرفض صناع السياسة في برلين خطط ماكرون لموازنة منطقة اليورو، باعتبار أنها لا تزيد على كونها مطالبة بتحويلات نقدية إضافية من دافعي الضرائب الألمان، فإنهم يديرون ظهورهم بذلك الموقف لفهمه الأرحب للمصلحة القومية.

حين يقول الساسة إن الجواب على متاعب منطقة اليورو هو أن يتصرف الآخرون (بطبيعة الحال) بشكل أقرب إلى ألمانيا، فإنك تتساءل عما إذا كنا نسير على الطريق من ألمانيا أوروبية إلى أوروبا ألمانية.

لم تُخسر المباراة حتى الآن. إذا كان أحد الآثار المترتبة على نجاح حزب البديل لألمانيا (الكاره للأجانب) في الانتخابات هو تحويل السياسة نحو المصلحة القومية الداخلية، فإن هناك أثرا آخر هو إقناع السياسيين من التيار السائد بأن ألمانيا بحاجة ماسة إلى صفقة جديدة لضمان اتفاقية شينجن. على أن السؤال هو: هل إصلاح شينجن عمل ممهد لتعزيز منطقة اليورو؟

يقول حلفاء المستشارة إنها مقيدة في الوقت الحاضر بالمفاوضات الحساسة لتشكيل ائتلاف مع حزب الديمقراطيين الأحرار، الذي يميل إلى مناهضة التكامل الأوروبي. لن تكون ميركل أبدا أوروبية بالغريزة، لكنها تفهم جوانب الجغرافيا السياسية التي تجعل مصالح ألمانيا متجذرة في بنية التكامل الأوروبي.

سيقول آخرون إن فرنسا وألمانيا دائما ما تبدآن الانطلاق من موقفين مختلفين تماما. على أن الحماسة الفرنسية والتشكك الألماني يرسمان الحدود الفاصلة لقسمة العمل بين البلدين.

ما يهم هو أنهما يُظهِران الآن الإرادة السياسية المطلوبة من أجل التوصل إلى التوازن. عليه، لربما في فرنسا الآن تحت رئاسة ماكرون، ما يفيد بأن هناك زعيم يتمتع بالشجاعة ليطالب بأوروبا أقوى، ولعله بعد كل ما فعل بانتظار جواب، بالإيجاب، من برلين، بما يسهل عليهم الالتقاء في منتصف الطريق.

فيليب ستيفنز – فاينينشال تايمز / الاقتصادية[ads3]

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي عكس السير وإنما عن رأي أصحابها