إسرائيل و إيران في سوريا : منظومة ميزان الذهب

بين كانون الثاني (يناير) 2013 وكانون الأول (ديسمبر) 2017، قام طيران جيش الاحتلال الإسرائيلي بأكثر من 50 عملية قصف مختلفة النيران ضد مواقع عسكرية في قلب سوريا؛ بعضها تابع مباشرة لجيش النظام، وبعضها الآخر تديره إيران أو يشكل نقاط انطلاق قوافل أسلحة إلى «حزب الله» في لبنان. هنا أبرز الاعتداءات في سنة 2013، وبذريعة تدمير شحنات أسلحة كانت معدّة للإرسال إلى «حزب الله»: في جمرايا، 30 كانون الثاني (يناير)، تدمير شحنات صواريخ SA ـ 17 أرض ـ جو متوسطة المدى؛ وقصف مستودع في مطار دمشق الدولي، ليل 2/3 أيار (مايو)، يحتوي صواريخ «فاتح» إيرانية الصنع وصواريخ Scud ـ D أرض ـ أرض؛ واستهداف مستودع في ميناء اللاذقية، 5 تموز (يوليو)، يخزّن صواريخ Yakhnot P ـ 800 مضادة للزوارق؛ وكذلك، في 30 تشرين الأول (أكتوبر) في بلدة عين شقاق الساحلية، تدمير بطارية صواريخ ستراتيجية كانت تؤوي شحنة صواريخ روسية S ـ 8 أرض ـ جو؛ وبعد يوم واحد، في مدينة جبلة الساحلية، قصف معدات صاروخية متقدمة قيل إنّ بينها صواريخ SA ـ 3 أرض ـ جو.

عمليات السنوات اللاحقة تضمنت قصف مواقع مختلفة للحرس الجمهوري والوحدات الخاصة في النبي شيت، يبرود، الزبداني، القنيطرة، الديماس، الكسوة، خان الشيح، القطيفة، قارة، راس المعرة، عسال الورد، الجبة، جرمانا، جبل المانع، شنشار، الصبورة، مطار المزة، تدمر، خان أرنبة، مدينة البعث… الأهداف المباشرة تراوحت بين مخازن أسلحة وبطاريات صواريخ وقيادات أركان مشتركة مع «فيلق القدس» أو «حزب الله»، حيث التركيز الأشدّ؛ بالإضافة إلى حالة منفردة استهدفت مبنى في بلدة جرمانا، في ظاهر العاصمة دمشق، كان يقيم فيه سمير قنطار وتسعة من مسؤولي منظمة وليدة حملت اسم «المقاومة السورية لتحرير الجولان». كذلك تضمنت العمليات استهداف مجموعات «حزب الله» في الجولان المحتل بصفة خاصة (والواقعة الأبرز جرت بتاريخ 18/1/2015 في مزرعة الأمل، حيث قصفت إسرائيل سيارتين كانتا تقلان ستة من كبار ضباط «حزب الله» بينهم ابن عماد مغنية، والجنرال الإيراني في «الحرس الثوري» محمد علي الله دادي).

وبمعزل عن اعتداءات إسرائيل السابقة، الشهيرة، مثل قصف موقع «الكبر» في ريف دير الزور، أيلول (سبتمبر) 2007؛ والأقلّ شهرة، مثل التحليق فوق قصر استراحة بشار الأسد في اللاذقية صيف 2006، أو اغتيال العميد محمد سليمان (الذي كُشف النقاب بعدئذ، في أحد الكتب عن عمليات الموساد، أنه كان المسؤول عن البرنامج النووي للنظام السوري)، صيف 2008؛ يشير سجلّ هذه الاعتداءات، ما بعد الانتفاضة السورية في ربيع 2011 تحديداً، إلى منظومة واضحة ومنهجية. العنصر الأوّل في هذه المنظومة هو أنّ إسرائيل لا تضرب بهدف النيل من جيش النظام مباشرة، بمعنى إضعافه أو الحدّ من قدراته الهجومية أو حتى تحطيم معنويات أفراده. السبب الأبرز في هذا منطقي وبديهي، مفاده أنّ قواعد الاشتباك المباشر بين جيش النظام السوري وجيش الاحتلال الإسرائيلي تجمدت منذ 1973، بعد اتفاقية سعسع حول فصل القوات، ولم تعد تُطلق في سهول الجولان وهضابه طلقة واحدة من جانب النظام، حتى من بندقية صيد. وفي كلّ اشتباك لاحق على 1973، في لبنان تحديداً وخلال الغزو الإسرائيلي لعام 1982، كانت وحدات النظام تستقبل الهجمات الإسرائيلية دون ردّ عسكري لائق، رغم استشهاد عدد من الضباط ذوي الاحتراف، في سلاحَي المدفعية والدفاع الجوي تحديداً.

العنصر الثاني في المنظومة هو تنويع تلقائي للعنصر الأوّل، ويتمثل في حقيقة أنّ جيش النظام استدار نحو جماهير الشعب السوري المنتفضة في طول سوريا وعرضها، وانشغل تماماً بقمع التظاهرات وقصف القرى والبلدات والمدن بالأسلحة كافة، أرضاً وبرّاً وبحراً وجوّاً. ولقد انسحب تدريجياً من مواقع انتشاره الروتينية على الحدود مع الاحتلال، أو اكتفى بالتعامل (ليس دون سكوت إسرائيلي، أقرب إلى الإذن والترخيص) مع الفصائل الجهادية التي اتخذت من بعض بلدات الجولان منطلقاً لعملياتها. وهنا كانت المنهجية الإسرائيلية ثلاثية الأبعاد: 1) ضرب أيّ تجاوزات ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي يسمح بها نظام الأسد من باب المناورة والتلويح باحتمال إثارة الشغب في الهضبة المحتلة (واقعة استهداف سيارتَيْ «حزب الله»، وقبلها سماح السلطات الأمنية السورية لعدد من الفلسطينيين باقتحام حدود الاحتلال الإسرائيلي في محاذاة بلدة مجدل شمس، على السفح الجنوبي لجبل حرمون)؛ و2) التوافق مع جيش النظام في حالات محددة، أبرزها الحيلولة دون تمركز «جبهة النصرة» في مواقع حساسة يمكن أن تهدد أمن جيش الاحتلال، هنا وهناك في الجولان المحتلّ؛ و3) ممارسة التخابث الدعائي عبر مفارقة إخلاء جرحى الجهاديين من مواقع الاشتباك ومعالجتهم في مستشفيات إسرائيلية من باب إبراز الصورة الإنسانية لدولة الاحتلال.

العنصر الثالث، والأهمّ بالطبع، هو أنّ دولة الاحتلال ـ وخلفها الولايات المتحدة، أياً كانت عقيدة شاغل البيت الأبيض ـ تعتبر توسيع النفوذ العسكري الإيراني في سوريا أكثر من مجرد خطّ أحمر أمني يخصّ الملفّ السوري؛ لأنه، في المنطق العياني الأبسط، يشمل حدود إسرائيل مع لبنان، وأمن السواحل الشرقية من البحر الأبيض المتوسط، فضلاً عن العراق والأردن والضفة الغربية وقطاع غزّة. ولس الأمر أنّ خشية إسرائيل من إيران مردّها أية درجة من العداء المستحكم، أو «حرب الوجود» كما يُقال، بين طهران وتل أبيب، إذْ برهنت تجارب الماضي على أنّ مصالح الدولتين يمكن أن تتلاقى في مناطق أكثر حيوية وإلحاحاً من حكاية تطوير برنامج نووي هنا، أو تسليح حليف هناك (يمكن، في هذا، الرجوع إلى حماس صهاينة أمريكيين من أمثال دانييل بايبس لإقامة حلف ستراتيجي بعيد المدى بين إسرائيل و«الفرس»، ضدّ «العرب»). الأمر، من جانب آخر، مدى استعداد إيران لاقتسام نفوذها في سوريا ولبنان والعراق مع أيّ طرف آخر، على غرار روسيا مثلاً، فكيف بإسرائيل؛ أو تسخير بعض ذلك النفوذ بما يخدم تقاسم منطقة أمن متوسطية وشرق ـ أوسطية عريضة، تنطوي على تنازل طهران عن بعض مطامح «الهلال الإيراني» الموعود، دون سواه.

العنصر الرابع يتخذ صفة ثقافية ـ تاريخية، إذا جاز القول، وهو أنّ العداء بين إسرائيل والعرب أقلّ من العداء بين إسرائيل وإيران، بل لعله من حيث القيمة والسجلّ التاريخي يُفقد مفردة «العداء» الكثير من دلالاتها العدوانية؛ وبالتالي فإنّ التحفظ الإسرائيلي حول البرنامج النووي الإيراني مسألة فيها نظر، وليست البتة محور صراع وجودي عميق الجذور، كما هي حال إسرائيل مع العرب والفلسطينيين. لهذا توفّر، منذ أواسط العام 2012، رأي ثقافي ـ تاريخي أدلى به ألكسندر آدلر، المؤرّخ والصحافي الفرنسي اليهودي، خلال حوار مع «المركز الملّي العلماني اليهودي» في باريس؛ قال فيه: «لا أعتقد أنّ الإيرانيين أرادوا في أي يوم امتلاك القنبلة النووية لتهديدنا، نحن اليهود؛ وأنّ الهدف في الحقيقة كان بلوغ التفوّق على العالم العربي، والعالم العربي السنّي، في موازاة تجربة الباكستان النووية». ثمّ ربط هذا التقدير بواقع انتفاضات العرب: «إذا سألتني عن جوهر موقفي، أرى أنّ الشعب الإيراني هو الأقرب إلى الشعب اليهودي، وإذا كان ثمة بلد محصّن ضدّ العداء للسامية، فهو إيران (…) واليوم أعتقد أنّ العدو الرئيسي هو تجمّع المتشددين المسلمين السنّة، العرب، القائم على خليط من الناصرية وعقيدة الإخوان المسلمين».

هذه، إذن، أربعة عناصر، بين أخرى بالطبع، تحكم المواجهة بين إسرائيل وإيران في سوريا. ولعلّ مقدار تكاملها، وترابط أغراضها، يجعلها تُقاس بميزان الذهب؛ رغم كلّ الضجيج والصخب والعجيج!

صبحي حديدي – القدس العربي[ads3]

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي عكس السير وإنما عن رأي أصحابها

تعليق واحد