اللجوء السوري بين ملعب اليانكي و حنجرة الممانعة

منظمة Merci Corps الأمريكية، التي تعمل في ميدان إغاثة اللاجئين منذ تأسيسها في سنة 1980، لم تجد وجهة أفضل لتمثيل مأساة اللجوء السوري من هذه المقارنة: أعدادهم تكفي لملء 221 من ملاعب الـ»يانكي»! وهذه، لمَن يجهل خصائصها، ملاعب تستوعب أكثر من 54 ألف متفرج، خلال مباريات البيسبول وكرة القدم الأمريكية، في نيويورك.

ثمة حسن نيّة في اختيار هذا التشبيه، بالطبع، ولعلّ المنظمة أدرى بتلافيف دماغ المواطن الأمريكي ومنعرجات وجدانه، فسار خطابها على هذا النحو لاستقطاب التبرع والتضامن؛ خاصة وأنّ التشبيه أعقب مباشرة تسجيل الأرقام الصلبة: فرار 12 مليون سوري بعيداً عن مناطق القصف الجوي والعنف الأرضي، بينهم 5،6 مليون لاجئ داخل سوريا ذاتها، ولكن خارج مناطق سكنهم الأصلية. منظمات أخرى تفضّل استكمال هذا الرقم بإضافة تفصيل حاسم، هو أنّ الأطفال يشكلون نصف هذه الأعداد؛ وحين يتصل الأمر بظروف الغذاء والصحة والتعليم، فللمرء أن يحدّث ولا حرج.

في المقابل، لا يعدم المرء قراءة أخرى لمشهد اللجوء السوري، ليست مغايرة ومناقضة لأيّ وكلّ قراءة متكئة على الحدود الدنيا لمفاهيم الإغاثة والتكافل الإنساني، فحسب؛ بل هي أقرب إلى انتهاج الهمجية العارية، التي تزعم الحداثة والعلمانية والانتماء إلى العصر مع ذلك، ولكن تلك التي قد تأنف من اعتناقها أعتى الفاشيات في التاريخ البشري. وليست الحكومات ذات التوجه العنصري والانعزالي، في هنغاريا والنمسا مثلاً، هي المقصودة هنا؛ بل نموذج بيان العار الذي أصدرته شخصيات أردنية، صنّفت في خانة «الإرهابيين» جميع اللاجئين نحو الأردن هرباً من القصف الوحشي لطيران النظام السوري والطيران الروسي في مناطق حوران.

الطريف، الفاضح تماماً، أنّ معظم هؤلاء يزعمون معارضة النظام الأردني، ولكنهم يتنازلون في شأن اللجوء السوري تحديداً، فيطالبون النظام (ذاته، الذي يعارضونه) بـ»إغلاق الحدود الأردنية في وجه المجاميع الإرهابية التي تحاول الفرار من محافظة درعا». أكثر من هذا، يلحون على «التنسيق الكامل بين رفاق السلاح في الجيش العربي الأردني والجيش العربي السوري»، في مستوى «الأعمال العسكرية اللازمة للتصدي للمجموعات الإرهابية».

مثال آخر على مقدار التلفيق الذي يكتنف مسألة اللجوء السوري هو الموقف من إخلاء عناصر «الخوذ البيضاء»، بعد وقوعهم في حالة حصار مطبق بين وحدات النظام السوري والميليشيات الإيرانية من جهة، والاحتلال الإسرائيلي من جهة مقابلة. مفهوم تماماً أن تسارع أجهزة النظام إلى تأثيم هذه المنظمة، وأن تقتدي بها المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا فتوجه إلى متطوعي المنظمة تهمة التورط في «أنشطة استفزازية إجرامية»، إذْ أنّ المنظمة فضحت الكثير من مجازر الجيش الروسي في مناطق مختلفة من سوريا. وليس غريباً، أيضاً، أن تتعالى حناجر «الممانعة» العربية بالصراخ الصاخب ضدّ إجلاء هؤلاء إلى الأردن، قبيل توطينهم في كندا وألمانيا وبريطانيا، وذلك بذريعة إجلائهم عبر مناطق الاحتلال الإسرائيلي (وكأنّ أربع رياح الأرض مشرعة أمامهم، سوى ذلك!).

اللافت، في المقابل، هو مواقف بعض كتّاب اليسار في الولايات المتحدة وأوروبا، ممّن يعتبرون المنظمة «صنيعة» أجهزة الاستخبارات الغربية، وأنها شاركت في تلفيق أشرطة الفيديو حول فظائع النظام السوري والقصف الروسي والميليشيات الإيرانية؛ كما كانت، على نحو خاصّ، وراء «فبركة» الأدلة حول قيام النظام باستخدام الأسلحة الكيميائية. وإذا صحّ أنّ هذه المواقف تندرج في خيار أعرض، انطوى منذ البدء على تبييض صفحة النظام بذريعة العداء للإمبريالية؛ فإنّ مشاركة عدد من كتّاب اليسار في تجريم «الخوذ البيضاء» هو القاع الأشدّ انحطاطاً لسيرورة الوقوف خلف نظام استبدادي وراثي، انتهى إلى ارتكاب جرائم الحرب الأفظع والأقبح.

وبين ملعب اليانكي وحنجرة «الممانعة»، ثمة لعبة أمم جديدة تدور اليوم، وغداً أيضاً؛ وقودها 12 مليون لاجئ سوري، من لحم ودمّ وكبرياء وكرامة وحلم.

صبحي حديدي – القدس العربي[ads3]

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي عكس السير وإنما عن رأي أصحابها

تعليق واحد

  1. بما أن المفاوضات مع نظام الإجرام الأسدي عبثية وعقيمة ولا جدوى حقيقية منها إذ من غير المنطقي تصور أن النظام سيقبل بمشاركة سياسية حقيقية في الحكم وبتحييد ومحاسبة ونفكيك أجهزنه الفمعية إذاً لا يوجد هناك خيار غير الحل العسكري وبما أن تجربة الحل العسكري كانت مريرة وفاشلة بكل المقاييس والأبعاد نتيجة حب الزعامات والمتاطقية واختطاف العمل العسكري من قبل الزعران أو من قبل من يدعون بأنهم رجال الدين ما أدى لعزوف الداعمين الغربيين المتحمسين لإسقاط نظام الأسد (هذا إن وجدوا أساساً) مما يجعل الحل السوري بعيد المنال حالياً ومرتبط بالدرجة الأولى بتطورات الأوضاع الداخلية في إيران والعراق وروسيا وبخاصة في النظامين الإيراني والعراقي على أمل حدوث تغيير ما في موازين القوى يسمح بحل القضية السورية بدون الأسد في غضون 5 سنوات القادمة على الأقل.