فاينينشال تايمز : صفعة امرأة لـ ” مستشار نازي ” تغير وجه ألمانيا و التاريخ
في السابع من تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 1968، كانت هناك امرأة شابة ترتدي ملابس أنيقة، وتحمل مفكرة صحافية، نجحت في إقناع حارس أمن ليسمح لها بالعبور إلى خلف طاولة، يجلس عليها كوكبة من الشخصيات البارزة أثناء مؤتمر الحزب الديمقراطي المسيحي في برلين الغربية.
حدث ذلك، على الرغم من أن الإجراءات الأمنية مشددة – فقد تم قتل مارتن لوثر كينج وروبرت كنيدي في الولايات المتحدة، واجتاحت دبابات الاتحاد السوفياتي أراضي تشيكوسلوفاكيا، عضو حلف وارسو في تلك الآونة، لوقف إصلاحات دوبتشيك وإعمالاً لمبدأ بريجينف، في إعادة “الدول المارقة” إلى بيت الطاعة، ولو بقوة السلاح.
ثم لقد كان هنالك، في المقام، حراك 1968 في باريس، حيث تعيش، الذي كتب نهاية الجنرال ديجول صانع الجمهورية الخامسة، وتنازله عن الحكم.
على أن التصور الراسخ لدى رجل الأمن – اتضحت هشاشته لاحقاً – الذي أتاح لكلارسفلد تجاوز الإجراءات الأمنية المشددة، كان هو أن السيدات الشابات لسن مؤذيات، بطبيعة الحال.
عندما كانت بياته كلارسفلد تمر خلف مستشار ألمانيا الغربية، كيرت جورج كيسنجر، توقفت وهتفت بأقوى ما أوتيت من قوة: “نازي”! وتتذكر أن الرجل قد “استدار نحو مصدر الصوت، بل لقد عرف بالضبط من أنا”. ثم أردفت ذلك بأن وجهت صفعة قوية إلى جانب وجهه – صفعة ساعدت على تغيير ألمانيا.
بعد مرور 50 عاماً، تُدقق كلارسفلد في الصفحة الأولى من صحيفة برلينر تسايتونج الصادرة في الثامن من تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 1968.
لقد كان هناك عنوان بارز كأنه صراخ بأعلى صوت: “29 عاماً. كاتِبة. من أهل برلين. تعيش في باريس”، وتحت النص صورة لامرأة نحيلة ذات شعر كستنائي اللون.
الصفحة موضوعة في إطار على جدار مكتب محامين غير مرتب، تُشاركه مع زوجها الفرنسي سيرج وكلبين صاخبين. ما الذي يلفت نظرها عندما تراها الآن؟ تقول ضاحكة: “ما يلفت نظري هو أني تقدمت في السن”.
ولدت كلارسفلد في شباط (فبراير) من عام 1939، وكانت الطفلة الوحيدة لوالدين فقيرين من برلين دائما ما يصوّتان لمصلحة هتلر. كان والدها لفترة وجيزة جندياً قبل أن يسعفه الحظ بالإصابة بالتهاب رئوي مزدوج على الجبهة الشرقية في الحرب، ما أدى إلى تسريحه من الخدمة وإرساله إلى المنزل نتيجة الإقعاد.
من عام 1945 إلى عام 1953، تشاركت العائلة سلسلة من الغرف الفردية في شقق أشخاص آخرين، في برلين الغربية عقب نهاية الحرب وتقسيم المدينة إلى شرقية وغربية، ولكن قبل بناء الجدار الفاصل بين الشطرين، بأكثر من 15 عاماً.
تقول كلارسفلد إنهم لم يناقشوا ماهية النازية قط. “لقد كان ذلك نمط التنشئة التامة في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. برلين الغربية كانت في حالة خراب، وظيفة والدي الأولى كانت تكسير الأحجار.
كثير من زملائي في المدرسة فقدوا آباءهم في الاتحاد السوفيتي. لقد كان الكل معنيين بمعاناتهم الخاصة أكثر من اهتمامهم بالضحايا”. تتحدث بسرعة وبشكل مهووس قليلاً، لا جرم، فهي امرأة في مهمة أخلاقية لا تكاد تنتهي.
في آذار (مارس) من عام 1960، هربت من والديها للعمل كعاملة منزلية في باريس. بعد أسابيع، على منصة المترو، اقترب منها شاب باريسي وخاطبها بجملة مجربة أثبتت نجاحها مع الفتيات: “هل أنت إنجليزية؟” سيرج وبياته كلارسفلد يعيشان معاً منذ ذلك الحين، كزوجين.
سيرج – الآن بعمر 83 عاماً، بشعره الأبيض الخفيف، ووجهه الفرنسي المتقلب الذي يتناقض مع وجهها البروسي الشبيه بالجرانيت – إنه يهودي.
في عام 1943، دهم الألمان المنزل الذي كانت عائلته تعيش فيه في نيس. سيرج البالغ من العمر ثمانية أعوام وشقيقته، اختبآ خلف حاجز كان والدهما قد بناه في خزانة صغيرة، إلا أن الوالدين قد تم أخذهما ليموتا في مخيم أوشفينز النازي.
عندما قابلت الزوجين، كانا يستعدان للعودة إلى نيس في ذكرى الغارة. يقول سيرج: “كان من المفترض أن أكون ضمن فوج الترحيل نفسه. إلا أنني لم أكُن كذلك، بفضل والدي. لقد كان لدي شعور بوجود هذه الحياة التكميلية. كان يجب أن أستغلها”.
والدته، التي درست في ألمانيا قبل النازية، رحبت ببياته على الفور. قامت العائلة بتثقيف الشابة عن محرقة يهود أوروبا. روى سيرج قصة الشقيقين الألمانيين هانس وصوفي شول، اللذين كانا يوزّعان منشورات مناهضة للنازية في القاعة الرئيسة للجامعة، التي درسوا فيها في ميونيخ عام 1943 – بما يعني انتحاراً كاملاً، بل مطلقاً من الناحية العملية.
بيانهما الأخير قبل قطع رأسيهما، كان حثّ الألمان ما بعد الحرب على ملاحقة حتى “أصغر الأوغاد” بين المجرمين النازيين: “لا تدَعوا فرداً واحداً يهرب!”.
على أنه بحلول الستينيات، كانت جيوشاً من مثل هؤلاء الأوغاد يملأون أرجاء الحياة العامة في ألمانيا الغربية. تقول بياته: “كان النازيون قد أصبحوا مواطنين ألمانا جيدين، وآباء جيدين، بل أزواجا جيدين” مثلما أردفت لتختم ذلك ضاحكة.
في عام 1966، سقطت حكومة لودفيج إيرهارد، وأصبح كيسنجر مستشاراً. كان قد انضم إلى الحزب النازي عام 1933، وهو مستشار ألمانيا الغربية المستقبلي الوحيد الذي فعل ذلك.
لقد كان كيسنجر خلال الحرب، مسؤولاً عن “الدعاية العامة” في قسم الإذاعة في وزارة الخارجية، وتعاون بشكل وثيق مع وزارة الدعاية التابعة لجوزيف جوبلز.
لقد كتبت بياته في الصحيفة الفرنسية كومبات، أن كيسنجر كان يُجسّد “احترام الشر”. وهذا هو ما أدى إلى طردها من وظيفتها في مكتب الشباب الألماني-الفرنسي. إلا أن عائلة كلارسفلد كانت قد صممت على القتال.
كانت خطوتها الأولى، التي كانت تعتبر غير لائقة في ذلك الوقت، هي البحث في ماضي كيسنجر، حتى في أدق التفاصيل.
تقول بياته: “أدركت أنه من دون الوثائق، لا يُمكن فعل كثير؛ لأن الصحافة لم تكُن مهتمة جداً”.
نظام ألمانيا الشرقية، الذي كان سعيدا في المساعدة على إذلال مستشار غربي، منحهما إمكانية الوصول إلى وثائق مهمة في الأرشيف في بوتسدام.
يقول سيرج الآن: “لقد كان تحالفاً انتهازياً”. من الرف خلف مكتبها، تسحب بياته الكتيّبات التي كتبوها. “تاريخ عضو الحزب 2633930 كيسنجر” كان أحد العناوين.
كانت عائلة كلارسفلد شبه منفصلة عن حركة عام 1968 الأوسع. عدد قليل من الباريسيين كانوا يهتمون بشأن ألمانيا، ومعظم الـ Achtundsechziger أي نظرائهم الألمان) كانوا يعتبرون أن كيسنجر لا يتجاوز كونه مجرد عرض من أعراض الرأسمالية المتأخرة، المشرفة على الهلاك.
مع ذلك، فإن عائلة كلارسفلد كانت أيضاً ضمن شباب عام 1968، وفهموا أنهم في حاجة إلى حدث مذهل لتغيير الرأي الألماني. في نيسان (أبريل) من ذلك العام، وقفت بياته في البرلمان الألماني وصرخت، “كيسنجر، أنت نازي بغيض، ويجب أن تستقيل فوراً قبل أن تقال، وتحاسب على جرائمك!” قبل أن يجري إخراجها بالقوة من القاعة.
في السابع من تشرين الثاني (نوفمبر) التالي من العام نفسه، كانت قد أصبحت أماً في ذلك الحين لطفل يبلغ من العمر ثلاثة أعوام، اسمه أرنو “هو اليوم محام فرنسي- إسرائيلي معروف”، وجهت أخيراً الصفعة المُخطط لها منذ فترة طويلة. تقول إنها جاءت “من جيل شاب إلى جيل أكبر سناً. أنا أحب ألمانيا، فعلتها بصفتي ألمانية غير يهودية. لقد ولدت عام 1939، ومع أنها لم تكُن مذنبة، إلا أنها شعرت بالمسؤولية”.
يشرح سيرج أن الرمزية كانت لفتاة تصفع والدها النازي. “من رجل، كانت ستبدو وكأنها عدوان، إلا أن إتيانها من امرأة كان أمراً يفوق الوصف. لقد كانت عنيفة بشكل رمزي، في عام مليء بالعنف الحقيقي”.
الصفعة تردد صداها العام الماضي في العاصمة واشنطن عندما قام أحد المعتدين المجهولين بضرب الناشط اليميني المتطرف ريتشارد سبنسر في وجهه، الأمر الذي أحيا السؤال الألماني عام 1968: “هل من المناسب أن تضرب نازيا؟”.
بعد القبض على بياته مباشرة، اكتفي مساعد كيسنجر إيرنست ليمر، وهو مروّج دعائي نازي سابق آخر، بوصفها بأنها “امرأة محبطة جنسياً”. (اعتذر عن ذلك في وقت لاحق).
في اليوم نفسه، حوكمت بتهمة القذف فضلاً عن الاعتداء والضرب. في المحكمة علِمت أن أحد الحراس الشخصيين لكيسنجر كان يوجّه مسدسه إليها، لكنه لم يُطلق النار خوفاً من إصابة المستشار.
حكم عليها القاضي بالسجن لعام واحد، لكن عندما عرف أنها مواطنة فرنسية – حيث كانت فرنسا واحدة من قوات الاحتلال في برلين – أطلق سراحها.
في وقت لاحق، تلقت عقوبة بالسجن لمدة أربعة أشهر مع وقف التنفيذ. مع ذلك، استخدمت محاكماتها لنشر ماضي كيسنجر.
وسرعان ما أصبح غير قادر على الظهور علانية دون أن يسمع الناس وهم يهتفون “نازي!” أو يلوحون ببطاقات وهمية لعضوية الحزب النازي في وجهه.
هجوم العلاقات العامة لعائلة كلارسفلد تغلب على المروج الدعائي النازي السابق.
حتى والدة بياته، التي أصبحت صديقة لوالدة سيرج تأثرت بقصة ترحيل والديه، فشعرت بالفخر من الصفعة، التي كانت في البداية قد أحرجتها أمام الجيران.
في عام 1969، خسر كيسنجر الانتخابات أمام فيلي براندت، من الحزب الديموقراطي الاجتماعي، الذي كان أحد المناهضين للنازية، وكان يعيش في المنفى في الدول الاسكندنافية.
أعلن براندت في تلك الليلة: “الآن، والآن فحسب قد خسر هتلر الحرب بالتأكيد”. فرحت بياته “بشكل مشكوك فيه إلى حد ما”، وعلقت قائلة: “استطعنا انتخاب براندت في منصب المستشار”، لكنها أضافت بحسرة: “على أن النضال ضد المجرمين النازيين لم يكُن من أولويات” الرجل.
كانت تلك مهمة عائلة كلارسفلد، حيث أصبحوا متفرغين لملاحقة النازيين، باستخدام الأساليب التي أدت إلى سقوط كيسنجر: الوثائق، ثم ملاحقتهم علانية. وساعدوا على تقديم رجال إلى العدالة مثل كلاوس باربي وكيرت ليشكا، الذين عملاء من قبل رؤساء في البوليس السري النازي، وقت الحرب في ليون وباريس، على التوالي. تقول بياته: “خاطرنا بحياتنا. تم تفجير سياراتنا. ووضِعت قنبلة في منزلنا”.
الغالبية العظمى من النازيين لم تُعاقب قط. يقول سيرج إن المحاكمات هناك ساعدت على مصالحة الفرنسيين مع ألمانيا. يعتقد أن هذا هو السبب في أن فرنسا دائماً تسمح للزوجين بخلق “أزمات دبلوماسية صغيرة” مع بلدان تؤوي النازيين.
الشهر الماضي، أصبح إيمانويل ماكرون آخر رئيس فرنسي يُقلّد عائلة كلارسفلد وساماً. بياته تعتز بكل جائزة: “كانوا يقولون إنني كنت أجلب المشاكل لنفسي. الآن أحصل على جوائز من ألمانيا وفرنسا”.
ملاحقة عائلة كلارسفلد للنازيين انتهت الآن، فرائسهم انقرضت أو كادت. عندما سألتُ بياته ما إذا كانت هناك أمور تندم عليها، أجابت: “ربما أن من بينها أن ألويس برونر لم يُحاكم في فرنسا”.
لقد حُكم على مساعد أدولف أيخمان بالإعدام غيابياً عدة مرات، لكن من المرجح أنه قد مات في قبو تحت الأرض في دمشق عام 2001، بعد أن فقد حظوة النظام السوري الذي كان يحميه.
تضيف بياته شيئا آخر تندم عليه: “الجيل الشاب ليس منخرطا في ملاحقة النازيين مثلما كنا نفعل. لقد دشن هتلر كراهية منظمة ضد كثيرين منهم على رأسهم اليهود، والآن باتت الكراهية وعداء السامية، موجهة ضد المهاجرين.
يتنهد سيرج ويقول: “لو أننا متنا قبل خمس سنوات فحسب، ما كنا سنشعر أن كل هذه الأمور قد انتهت إلى غير رجعة. أما الآن، بما أن الناس يعيشون فترات طويلة للغاية، فإننا نرى أن العالم يتغير بسرعة مذهلة”.
تستمر عائلة كلارسفلد في القتال – على مكتب بياته توجد نسخة من مقال حول السلام في بوروندي ورواندا، اللتين يهيمن عليهما شبح الإبادة.
يقول سيرج: “ليس هناك تقاعد حين يكون الشخص محفزا من الناحية السياسية. “وتتأمل بياته في حياتها حين كانت عاملة منزلية وصلت إلى باريس، وهي لا تكاد تعرف شيئا عن النازية، ثم بعد ذلك حين وجهت الصفعة التي لا تزال تتردد أصداؤها في جنبات تاريخ ألمانيا. ثم تختم بفخر قائلة: “لقد حققنا الكثير” ولم يتبق، إلا القليل.
سايمون كوبر – برلين / ترجمة : الاقتصادية[ads3]