تحليل : قانون الهجرة لوحده لا يجذب العمال المهرة إلى ألمانيا
بعد نوم طال عقودا، وجدل ساده الكثير من العقم، اتفق التحالف الحاكم في برلين على إصدار أول قانون للهجرة في ألمانيا. ويُتنظر من هذا القانون الذي تم الاتفاق عليه بين أحزاب حكومة المستشارة ميركل جذب عشرات الآلاف من الكفاءات الأجنبية التي يحتاج إليها الاقتصاد الألماني -من خارج دول الاتحاد الأوربي- بشكل ملح. ويُقدر العدد الذي يحتاج إليه هذا الاقتصاد في الوقت الحالي بحدود مليون شخص في مختلف المهن البسيطة والمتوسطة والتخصصات العالية، بدءا من “خبير الكومبيوتر وحتى أمين المستودع”، على حد تعبير إنغو كرامر رئيس رابطة أرباب العمل في ألمانيا. وتعكس الحاجة إلى هذا العدد ازدهار الاقتصاد الألماني في ظل نقص الولادات وارتفاع نسبة الشيخوخة في ألمانيا. كما تعكس استحالة سد النقص الحاصل من دول الاتحاد الأوروبي وعدم قدرة موجات الهجرة الأخيرة على التخفيف منه بشكل واضح.
إلغاء الأولوية للألمان في عشرات الوظائف
يذهب القانون الجديد في موضوع استقدام أصحاب المهن الأجانب إلى أبعد من التشريعات التي سبقته والتي ركزت على التخصصات العالية كحملة شهادات الطب والهندسات. فالقانون الجديد يلغي القيود التي كانت مفروضة على أكثر من 60 وظيفة، ولا يحق للأجنبي العمل فيها حاليا في حال وجود مرشح ألماني يمكن أن يشغلها. ومما يعنيه إلغاء شرط التحقق من وجود المرشح الألماني تسهيل قدوم الأجنبي شريطة حصوله على عقد عمل. هذا ويفتح القانون الجديد أيضا أمام أصحاب المهن الأجانب من خارج بلدان الاتحاد الأوربي الفرصة للقدوم إلى ألمانيا لمدة ستة أشهر بهدف البحث عن عمل، شريطة أن يتحملوا نفقات فترة البحث بأنفسهم. وفي حال إيجاده خلال هذه الفترة، يتم منح صاحب عقد العمل الإقامة اللازمة.
المشكلة الأكبر في البيروقراطية المعقدة
أظهرت خبرات السنوات العشر الماضية أن ألمانيا ليست في مقدمة البلدان الأكثر جذبا للعمالة الأجنبية الماهرة والمتخصصة رغم تسهيل تشريعات الاعتماد عليها. وعلى سبيل المثال فإن “البطاقة الألمانية الزرقاء” للعمالة الماهرة لم تُفلح في جذب سوى بضع مئات من الأكاديميين والباحثين الأجانب بين عامي 2012 و 2016، رغم امتيازاتها التي تشبه امتيازات “البطاقة الخضراء” الأمريكية. ولا يعود السبب في ذلك إلى صعوبة تعلّم الألمانية وما يمكن تسميته برودة العلاقات الاجتماعية وحسب، بل وبشكل أساسي إلى تعقيدات البيروقراطية الألمانية وبطئها الشديد في منح الفيزا أو تأشيرات الدخول والبت بمعاملات الاعتراف بالشهادات الأجنبية والوثائق الأخرى اللازمة للعمل. وتكمن المشكلة في وجود 1500 جهة مسؤولة عن ذلك في ألمانيا على مستوى الولايات والاتحاد. ولا يندر أن تتضارب أعمال هذه الجهات بشكل يعقد الأمور ويطيل فترات الانتظار إلى نصف سنة وأكثر. وقد زادات هذه المشكلة وتعقدت مع موجات الهجرة الجديدة بسبب نقص الكوادر في المؤسسات الحكومية مقابل تراكم آلاف الملفات والطلبات التي تنتظر البت بها.
مخاوف كثيرة والعبرة في التنفيذ
ومن هنا توجد مخاوف كبيرة من العقبات التي ستعيق تنفيذ القانون الجديد إذا بقيت الأمور على حالها. ولا يغير من ذلك الترحيب الشديد الذي يلاقيه القانون من قبل ممثلي الاقتصاد والشركات الألمانية، التي مارست خلال السنوات الماضية ضغوطا متزايدة على صناع القرار السياسي من أجل إصداره. ويعكّر أجواء قانون الهجرة الجديدة أيضا الجدل المستمر حول موضوعي وتشريعات الهجرة واللجوء داخل الأحزاب المحافظة وفي مقدمتها حزب المستشارة ميركل، أي الحزب الديمقراطي المسيحي. ويأتي ذلك على ضوء التحديات التي يشكلها اللاجئون وأخطاء حكومة ميركل وصعود حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني الشعبوي.
تُعد الهجرة إلى ألمانيا هدفا مغريا للكفاءات من إفريقيا والعالم العربي. غير أن قدومها، لرفد الاقتصاد الألماني بما يحتاجه من الخبرات، مرتبط بتفكيك أخطبوط البيروقراطية الحالي وتسهيله. وفي هذا السياق يجري الحديث عن مشروع إقامة مؤسسة مركزية تبت بطلبات الكفاءات خلال أسابيع دون العودة إلى الجهات الأخرى. وإذا لم يحصل تغيير في هذا الاتجاه، فإن فرصة ألمانيا لن تكون قوية في سوق المنافسة على الخبرات الأجنبية، لاسيما وأن جذبها يلقى التشجيع من دول أخرى، بينها دول عربية مثل قطر والإمارات. فقطر على سبيل المثال قررت مؤخرا منح الإقامة الدائمة للكفاءات بهدف توطينها هناك. كما أن الكفاءات من الصين والهند وفيتنام وأندونيسيا وغيرها تجد في بلدانها التشجيع المتزايد للبقاء فيها.
استمرار النزيف وفرصة الحد منه
وإذا كان الاقتصاد الألماني ينتظر من قانون الهجرة الجديد توفير احتياجاته من الخبرات المهنية الأجنبية، فإن الوطن الأم، وخصوصا الدول الإفريقية والعربية، ستعاني بشكل حاد من هجرتها. وما يزيد الطين بلة هي الحاجة المتزايدة لها هناك بسبب استمرار نزيف الكفاءات إلى شمال أمريكا واستراليا ومنطقة الخليج منذ عقود. ولا تشكل هذه الهجرة نزيفا للموارد البشرية وحسب، بل أيضا لموارد مالية ضخمة صُرفت على تأهيل هذه الكفاءات. وعلى سبيل المثال فإن تكلفة تعليم كل طبيب أو كل مهندس وتأهيله في العالم العربي لا تقل عن مليون دولار.
ومن هنا تبدو الحاجة إلى دور أكثر فعالية للجمعيات الأهلية والجهات الحكومية المعنية التي تحاول ربط الكفاءات المهاجرة في ألمانيا بالوطن الأم أقوى من أي وقت مضى بهدف الاستفادة من خبراتها. في هذا الإطار يمكن تعزيز المشاريع التي تجمع هذه الكفاءات مع الخبرات المحلية في إطار مشاريع مشتركة وذات أشكال أخرى يتم من خلالها الاستفادة من المعارف والتقنيات الألمانية في إنجاح هذه المشاريع وتعميمها بشكل يناسب البيئة المحيطة ويحميها. ويمكن للكفاءات المذكورة نقل هذه المعارف والتقنيات كونها ملمة بها. ويدعم توجه كهذا تنفيذ بعض المشاريع من هذا القبيل في بلدان كالمغرب ومصر وتونس في مجالات الطاقة المتجددة ومعالجة النفايات والتعليم المهني وغيرها. غير أننا ما زلنا بعيدين جدا عن تعميمها لتشمل مختلف القطاعات وتدفع بها باتجاه العمل على تنمية شمولية تشمل الريف والمدينة.
ابراهيم محمد – دويتشه فيله[ads3]