فاينينشال تايمز : جديد ألمانيا .. إعادة تدوير الخبرات و المهارات البشرية
يجلس اثنان من عمال شركة بورش للسيارات على كراسٍ دوارة على عجلات، وهما يتدحرجان حول أرضية المصنع في لايبزيج، بينما يتفقدان الجزء السفلي لجسم سيارة باناميرا السوداء الأنيقة، التي تحوم فوق رأسيهما مباشرة.
باستخدام أدوات مدمجة عند مسند ذراعيهما، فإنهما يضعان اللمسات الأخيرة على سيارة ستطرح قريبا، من خط الإنتاج بسعر يزيد على 90 ألف يورو.
مهمتهما التي تبدو عادية، تقع في قلب واحد من أكبر التحديات في ألمانيا في العقود المقبلة: نزع فتيل “القنبلة الزمنية الديموجرافية” التي تهدد بانتزاع لقب البطولة الاقتصادية من ألمانيا، المحرك الاقتصادي القوي لأوروبا.
في كراسيهما الدوارة المصممة للتفاعل بكفاءة بين الآلة والإنسان، يلعب هؤلاء العمال دورا صغيرا في دراما أوسع نطاقا، حيث تحاول ألمانيا أن تثبت للسياسيين والمساهمين القلقين على حد سواء، أن اقتصاد البلاد لن يكون في خطر عندما يتقاعد الملايين من مواليد ما بعد الحرب العالمية الثانية في العقد المقبل.
في مكان قريب توجد ماكان الفيروزية اللون، وهي سيارة رياضية يبلغ وزنها طنين علقت من ناقل علوي، ثم يتم تخفيضها إلى خط التجميع، قبل أن تُدار بنحو 90 درجة على جنبها حتى يتمكن العمال في ملابسهم الرمادية، من إحكام ربط البراغي في الهيكل دون الحاجة إلى النظر إلى الأعلى.
وعلى الجانب الآخر، فإن الزملاء الذين يتعين عليهم رفع أذرعهم مرارا وتكرارا، يجدون يد المساعدة من هياكل خارجية سعر الواحد منها خمسة آلاف يورو – وهي هياكل معدنية خفيفة الوزن تُلبس مثل حقائب الظهر، وترتبط بالأذرع، وتوفر الدعم للمهام المتكررة التي يعرف عنها أنها قد سبق لها أن تسببت في إصابات.
شركة بورش عملت على تصميم مصنع لايبزيج بالكامل بنظام إشارات ضوئية يشير إلى الراحة في التعامل بين الإنسان والآلات، بحيث يمكن للمديرين جدولة نوبات الدوام بطريقة لا تثقل كاهل أجزاء الجسم نفسها.
يعمل العمال هنا عادة في نوبات عمل تستغرق ساعة، بالتناوب من محطة إلى أخرى على مدار اليوم.
تقول آن هاينريش، وهي خبيرة في بيئة العمل التفاعلية في شركة بورش تساعد على تقليل الشعور بعدم الراحة في الإنتاج: “الأخضر جيد، والأصفر هو الإجهاد العادي الذي قد تواجهه في المنزل، والأحمر يعني أننا في حاجة إلى القيام بشيء ما. الهدف من بيئة العمل التفاعلية هذه ليس التصرف على أساس ردود الأفعال، بل أن نتخذ موضعا وقائيا استباقيا”.
يقول أندرياس هافنر، مدير الموارد البشرية في شركة بورش، إن الناتج من هذه الاستثمارات واضح: “نحن مقتنعون تماما بأن هذا سيحقق ميزة للموظفين، وبالطبع بالنسبة لنا كشركة؛ لأن الموظفين لا يمرضون أو يمرضون ويبقون في المنزل فترة من الوقت أو يذهبون إلى الطبيب”.
تنصرف شركة بورش إلى التعامل مع سلسلة من التوقعات التي تبدو منذرة بالخطر.
قبل دخول 1.5 مليون مهاجر إلى البلاد وتغيير المعادلة قليلا، كان من المتوقع أن يكون عام 2019 أول عام يزيد فيه عدد العمال الألمان الذين تزيد أعمارهم على 60 عاما على عدد الذين هم دون الثلاثين عاما، وذلك وفقا لمكتب الإحصاءات الفيدرالي.
يبلغ متوسط عمر سكان ألمانيا 46 عاما، وهو ارتفاع عجيب من 40 عاما فحسب عام 2000 و34 عاما في 1970، وذلك وفقا لإحصائية استاتيستا Statista، وهي منصة لمعلومات الأعمال.
وتوصلت دراسة حديثة أجرتها مؤسسة برتلسمان Bertelsmann إلى أن عام 2020، ستكون هناك ثلاثة عمال مسؤولين عن إعالة كل شخص يزيد عمره على 65 عاما، ولكن بحلول عام 2035 ستكون النسبة واحدا إلى واحد.
إذا فقدت ألمانيا تصنيفها الائتماني الممتاز AAA، فإن السبب المرجح هو “تأثير التغير الديموجرافي في الاقتصاد الألماني وأنظمة الضمان الاجتماعي”، حسبما حذرت وكالة التصنيف موديز.
قوة العمل المتقلصة تجعل من الصعب منذ الآن على بعض الشركات العثور على المواهب المناسبة. بحلول عام 2030، من المتوقع أن تواجه ألمانيا نقصا في العمالة الماهرة يبلغ ثلاثة ملايين شخص، وفقا لمعهد الأبحاث بروجنوس Prognos.
التحدي الذي تواجهه ألمانيا هو أن تتصدى لمخاطر مجتمع يشتمل على عدد كبير من المتقدمين في السن، وتحويل ذلك الوضع إلى فرصة لجني ما تسميه شركة الاستشارات ديلويت “عائد طول العمر” – والقدرة على الاستفادة من إنتاجيــــــة كبــــــار الســـــــن من الموظفين.
يقول هانز زاخر، أستاذ علم النفس العملي والتنظيمي في جامعة لايبزيج: “إذا لم تستطع ألمانيا التعامل بنجاح مع قوة عاملة متقدمة في السن، فإن إنتاجيتها وابتكارها سيكونان على المحك. نحن في حاجة إلى العمال كبار السن للعمل بنجاح، ولتنميـــة الاقتصاد، والـحفاظ على الابتكار”.
زاخر يرى أيضا أن قلة من الشركات الرائدة تشكل القدوة في هذا المجال، لكن عددا كبيرا للغاية منها لا تفهم قيمة إعادة تصميم أرضيات المصانع، أو تقديم ساعات عمل مرنة لاستيعاب القوى العاملة الأكبر سنا حتى تتمكن من الازدهار فترة أطول.
وكما يقول: “القوة العاملة المتقدمة في السن ليست مجرد مشكلة، بل هي تحدٍ حتى فرصة للشركات. يمكن للعمال الكبار في السن تعلم معارف ومهارات جديدة، بحيث يكون في مقدورهم تطويرها في اتجاهات جديدة، ويمكنهم القيام بأدوار جديدة”.
الاستثمار في بيئة العمل التفاعلية لا يقتصر على تقليل تأثيرات القوة العاملة من كبار السن فحسب، بل الاستفادة منها. يغلب على العمال الأكبر سنا أن يكونوا أكثر عمال الشركة خبرة وابتكارا.
وفقا لدراسة أمريكية تشتمل على نحو عقدين من البيانات، فإن العمال الذين تزيد أعمارهم على 55 عاما هم أكثر اتساما بروح المشاريع من جيل الألفية.
ويقول زاخر إن المشكلة هي أن الشركات تفشل في التكيف مع احتياجاتها الخاصة، ما يؤدي في كثير من الأحيان إلى إبطاء النشاط الذي يؤدي إلى التقاعد المبكر.
ما يمنح المتفائلين أملا هو أن سيناريوهات “يوم القيامة” للاقتصاد الألماني، تستند عادة إلى حقيقة أن العاملين في الصناعة الألمانية يتقاعدون في المتوسط، في عمر 62 عاما. على أن هذا العمر هو بكل معنى الكلمة عمر مليء بالنشاط في ظل التطورات الصحية والعمر المتوقع خلال القرن الماضي.
من المتوقع أن يعيش الألماني البالغ من العمر 65 عاما اليوم نحو 20 سنة أخرى، وفقا لبيانات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية “أوسيد”.
ومن المرجح أن الذين هم في العشرينيات من العمر الآن سيظلون في سوق العمل إلى أن يبلغوا أواخر السبعينيات، بل حتى الثمانينيات من العمر، على حد قول ليندا جراتون وأندرو سكوت، مؤلفي كتاب: “حياة الـ100 عام”.
من أجل محاربة مشاكل الملل وبيئة العمل، فإن الشركات الأكثر كفاءة تدرب عمالها على أن يكونوا مؤهلين في مواقع متعددة، كما يقول رون هاربر، وهو شريك في شركة أوليفر وايمان الاستشارية، ومؤلف مشارك في تقرير هاربر، الذي يباشر تقييم إنتاجية التصنيع منذ الثمانينيات.
ويضيف: “العامل الذي يميز بين أفضل المصانع والباقي هم الناس؛ لأن أي شخص يستطيع شراء التكنولوجيا. الأمر يتعلق بكيفية استخدامك الناس. يتم تنظيم أفضل المصانع في فرق إنتاجية صغيرة – من خمسة إلى سبعة أشخاص على الأكثر – وفي هذا الفريق عادة ما يتم التناوب كل ساعتين”.
يتتبع هاربر التغيب عن العمل في جميع أنحاء المصانع في أنحاء العالم، بما في ذلك الإجازات المقررة وحالات الغياب غير المبررة. وهو غير قادر على مشاركة البيانات المحددة، إلا أنه يقول: “النطاق سيصيبك بالذهول”، حيث إن نسبة الغياب تصل إلى 25 في المائة في المصانع الأقل كفاءة. “هل يمكنك أن تتخيل أن تكون مشرفا، وأن واحدا من كل أربعة أشخاص في فريقك لا يأتي إلى العمل؟”.
إن أماكن العمل المصممة هندسيا للتفاعل بين الآلة والإنسان هي طريقة غير مكلفة نسبيا لإبقاء العمال منخرطين في العمل على حد تعبيره، مضيفا أنه: “عندما تنظر إلى ما تدفعه الشركة مقابل تعويض العمال، خاصة إصابات الظهر والإصابات المزمنة، فإن الأمر لا يحتاج إلى تفكير”.
الحفاظ على الموظفين في وضع صحي سليم وإبقاؤهم سعداء يعني أيضا أن تكون مبدعا في تعزيز عادات أفضل.
شركة الأدوية ميرك – على سبيل المثال – دخلت في شراكة مع شركة ناشئة “لنقل وشحن الناس والأشياء” التي تجلب معدات الصالات الرياضية والمدربين الشخصيين مباشرة إلى الموظفين.
بدلا من استراحة قهوة تقليدية، يتم تحفيز العاملين لتحديد مواعيد جلسات تدريب وتمارين لمدة 12 دقيقة، عدة مرات على مدار ثلاثة أشهر.
في دينجولفينج، في مقاطعة بافاريا، هناك أكبر مصنع لشركة صناعة السيارات بي إم دبليو في أوروبا، وهنا تجد العمال الذين كانوا يرفعون ويضعون الأغراض الثقيلة لأجهزة النقل ذات المحور الأمامي، يعملون الآن إلى جانب روبوتات فوق الطاولات صنعتها شركة كوكا.
الشركة الألمانية الرائدة في مجال الروبوتات معروفة بروبوتاتها العملاقة التي تثني الصُلب، والتي تعمل بشكل آمن في أقفاص. على أن روبوتاتها التعاونية التي فوق الطاولة – المعروفة باسم “كوبوتس” – هي من بين المنتجات الأسرع نموا لمساعدة العاملين الذين لديهم مهام روتينية، تتطلب مهارات تحتاج إلى قوة جسدية.
من دون مثل هذه الاستثمارات، تخاطر الشركات الألمانية والأوروبية بفقدان ميزتها التنافسية وخبراتها ومهاراتها؛ لأن من المتوقع أن يبدأ 50 في المائة من العمال في جميع أنحاء القارة التقاعد في الأعوام الخمسة المقبلة، كما يقول فرانز براون، كبير الإداريين لشؤون الرقمية في المجموعة الهندسية الألمانية بيلفينجر. (الاقتصادية)[ads3]