هل حقاً صنعت ألمانيا الصابون من جــ ـثـ. ـث جنودها في الحرب العالمية الأولى ؟!

خلال فترة الحرب العالمية الأولى، أثارت التقارير التي نشرتها الصحف البريطانية حول ما عرف حينها بمصنع الجـ.ـ ـثـة الألماني (German Cor pse Factory) ذهول العالم بأسره وساهمت في شحن الرأي العام ضد الإمبراطورية الألمانية وخاصة بالصين، حيث شهدت العلاقات الألمانية الصينية تدهورا خطيرا بالتزامن مع تنامي رغبة الصين في دخول الحرب العالمية الأولى إلى جانب البريطانيين للجلوس إلى طاولة المفاوضات في النهاية، ووضع حد لتنامي التوسع الياباني على حساب المستعمرات الألمانية بشرق آسيا والمحيط الهادئ.

سجل خبر استخدام الألمان لجثث جنودهم القتلى بساحات المعارك لإنتاج عدد من الأغراض المنزلية، كالشموع والصابون، ظهوره منذ السنوات الأولى للحرب. فإضافة للكاتبة الإنجليزية المختصة في تأليف قصص الأشباح سينتيا اسكويث (Cynthia Asquith)، والتي تحدثت عن هذه الواقعة بمذكراتها منذ عام 1915، تناقلت بعض الصحف المحلية الأميركية قصة مصنع الجثة الألماني المثير للشكوك. أيضاً، أقدم عدد من رسامي الكرتون السياسي، كالهولندي لويس رايمايكرز (Louis Raemaekers)، بداية من عام 1916، على تقديم رسوم ساخرة عن قيام الألمان بنقل جثث جنودهم القتلى نحو مصنع غريب لاستغلال ما تبقى منها في صناعة الشحوم والأسمدة.

وخلال شهر شباط/فبراير سنة 1917، نشرت النسخة الإنجليزية من جريدة North China Daily News تقريرا أثار موجة استياء واسعة أعلنت من خلاله عن إدلاء أحد المسؤولين العسكريين الألمان بتصريح للرئيس الصيني، أكد من خلاله قيام بلاده باستخراج الجليسيرين (glycerine) من جثث الجنود الموتى.

وخلال شهر نيسان/أبريل من نفس السنة، اتخذت الأحداث منحى خطيرا عندما نقلت صحيفتا ذي تايمز (The Times) وديلي ميل (Daily Mail) تقارير أخرى حول مصنع غريب بألمانيا، عرف باسم Kadaververwertungsanstalt لدى الألمان، يستخدم جثث الجنود الموتى كمادة أولية. وفي الأثناء، نقلت صحيفة “ذي تايمز” هذا التقرير والذي حمل عنوان Germans and their Dead، انطلاقا من مصدرين كان أولهما تقريرا آخر بصحيفة بلجيكية ناشطة ببريطانيا، والثاني عبارة عن مقال للصحافي الألماني كال روزنر (Kal Rosner) بجريدة Berliner Lokal-Anzeiger الألمانية، حدّث من خلاله عن وجود رائحة كريهة قرب مصنع الجثث. وواصلت صحيفة “ذي تايمز” البريطانية نقل أخبار عن هذا المصنع واعتمدت في أغلب الأحيان على رسوم كرتونية سياسية ساخرة للحديث عن مراحل استغلال الألمان لجثث جنودهم القتلى.

من جهة أخرى، استخدم الصحافي الألماني كال روزنر عبارة جثث للإشارة إلى جثث الحيوانات وليس لجثث البشر. فخلال فترة الحرب، لم تتردد ألمانيا في استغلال جثث الأحصنة الميتة على جبهات القتال لاستخراج الشحوم وعدد من المواد الأخرى بسبب الحصار الذي عانت منه. وتزامنا مع نشر التقارير بالصحف البريطانية، كذّبت ألمانيا كل ما جاء فيها معبّرة عن استيائها الشديد من الحملة الدعائية الشرسة التي كانت تتعرض إليها.

وفي الأثناء، رفض الجميع تصديق المسؤولين الألمان الذين كذّبوا كل التقارير الصادرة ضدّهم، خاصة مع إقدام السفير الصيني بألمانيا على إدانة استغلال الألمان لجثث جنودهم. ومع حلول يوم 14 آب/أغسطس 1917، أعلنت الصين الحرب على ألمانيا سعيا منها للحصول على مقعد أثناء مفاوضات السلام.

وعقب نهاية الحرب العالمية الأولى، أعلن وزير الخارجية البريطاني أوستن شامبرلين (Austen Chamberlain) سنة 1925 عدم وجود أدلة تبين قيام استغلال ألمانيا لجثث جنودها القتلى خلال الحرب الكبرى. وانطلاقا من ذلك، أكد شامبرلين أن الصحف العالمية تناقلت تقارير خاطئة شوّهت الألمان أثناء الحرب.

وخلال نفس السنة، أعلن قائد المخابرات العسكرية البريطانية بالحرب العالمية الأولى جون تشارترس (John Charteris) عن اختلاق إدارته لقصة مصنع الجثة الألماني اعتمادا على صور مفبركة لحشد الرأي العام ضد ألمانيا وإقناع الصينيين بدخول الحرب. كما أكد عدد من المسؤولين بالمخابرات العسكرية البريطانية حصولهم على خدمات عدد من المحررين الصحافيين لأغراض دعائية تتعلق بواقعة استغلال ألمانيا لجثث جنودها القتلى بالحرب.

وخلال فترة الثلاثينيات، استغل الحزب النازي حادثة هذه الإشاعة الكاذبة التي شوهت ألمانيا زمن الحرب العالمية الأولى ضد بريطانيا. وألقت هذه الحادثة بظلالها على الحرب العالمية الثانية حيث تجاهلت الصحف العالمية التقارير المبكرة حول الهولوكوست معتبرة إياها حملة دعائية ضد الألمان كتلك التي شهدتها الحرب العالمية الأولى.

طه عبد الناصر رمضان – العربية[ads3]

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي عكس السير وإنما عن رأي أصحابها