ياقوت عبد الباسط الساروت
في آذار (مارس) 2011، حين كتب أطفال درعا «إجاك الدور يا دكتور» على ألواح مدارسهم وعلى جدران المدينة، كان عبد الباسط ممدوح الساروت (1992 ــ 2019) لا يحمل من أثقال سوريا المعاصرة، مزرعة الاستبداد والفساد والمافيات والتمييز المناطقي والطائفي، سوى 19 سنة: لا «يفهم في السياسة» كما ردّد مراراً، وليد أسرة جولانية فقيرة هاجرت إلى تخوم حمص في أعقاب تسليم الجولان على يد كبير مجرمي الحرب، الأسد الأب؛ لم يكمل تعليمه «لأسباب معيشية ذات صلة بفقر العائلة»، كما يوضح؛ حارس مرمى نادي «الكرامة» الحمصي، ومنتخب شباب سوريا لكرة القدم؛ المنشد المغنّي بغريزة شعرٍ يتدفق في داخله مثل جداول ربيع، وإحساس عارم بالنغم الشعبي وإلحاح الإيقاع الحارّ.
أطفال درعا، وذلك الحنين العميق الجارف إلى الكرامة الإنسانية والعدل الاجتماعي والحرّية والخبز، وربما النشيد الطلق المتحرّر من نير المستبدّ، كانت أوّل بواعث مجيء الفتى إلى الانتفاضة؛ أو إلى الثورة كما يحلو له أن يسمّيها، محقاً بالطبع لأنها بدأت هكذا في يقينه، وهكذا تواصلت خلال ثماني محطات ونيف من تجربته الشخصية في خضمها العاصف. وكان ذلك الخضمّ أشدّ عتوّاً، في استثارة الآمال وتكبيد الآلام وفي الانتصارات مثل الانكسارات، من أن يتحمّل قلبَه الطفل ولسانَه الهاتف وتكوينَه الوطني والحمصي والبدوي والجولاني الأصيل، المتجذر مثل سنديانة. ولقد خرج إلى ساحات حمص يذكّر طالبي الحرّية بأنّ هذا الوطن «جنّة» حتى في ناره، وهو «الحبيّب» و»أبو التراب الطيّب»؛ فلم تعد الأغنية تردّ السامعين إلى أصولها عند كريم العراقي وماجد المهندس، بل تجردّت من أيّ مستوى في الاستنساخ لأنها باتت سورية بامتياز: ابنة هذا الوطن/ الجنّة الذي ينتفض، وترنيمة هذا الفتى السوري الثائر الذي يُلهب حناجر الجموع، ويُشعل جذوة في الحماس والتعبئة والاستبشار لم يكن لها نظير في مواقع الانتفاضة الأخرى، حتى عند ذلك الحموي الصادح الساخر الذي اشتهر بلقب «القاشوش».
محطة تالية في هذه الوظيفة الثورية، الخاصة والمدهشة وذات الفعالية العالية، التي انتدبها الساروت لنفسه، وارتضتها له الحشود في أربع رياح سوريا، وليس في حمص وحدها؛ كانت ظهوره خلال التظاهرات والاعتصامات برفقة فدوى سليمان (1970 ــ 2017)، الأمر الذي جعل هذا الثنائي يتخذ تلقائياً، ولأسباب وجيهة، سلسلة دلالات عالية التأثير في الوجدان الجَمْعي: أنّ شريكته امرأة، أوّلاً؛ وأنها فنانة ممثلة، خريجة المعهد المسرحي، ثانياً؛ وهي، ثالثاً، ولدت لأسرة من الطائفة العلوية. وليس أنّ اجتماع الساروت وسليمان كان محاولة، بارعة وصادقة، في تمرين الشارع الشعبي على تطبيق شعار «الشعب السوري واحد»، في مناطقه وإثنياته وأديانه وطوائفه، فحسب؛ بل كانت، أيضاً، رسالة جبارة ضدّ الأجنّة الجهادية المتطرفة التي أخذت تتوالد رويداً رويداً، بتشجيع منهجي وتسهيلات من النظام.
محطة تالية، حاسمة في حياة الساروت، كانت اللجوء إلى السلاح بوصفه المآل الوحيد المتبقي، ليس في مواجهة الحصار الهمجي الذي فرضه النظام والميليشيات المذهبية على حمص وأهلها، وانتزاع كيس الطحين، وفتح ممرّات عبور المدنيين، فقط؛ بل كان الوسيلة الأوحد للدفاع عن النفس، وعدم فتح الصدر عارياً أمام القذيفة الفاشية. ومثلما كان التسلّح أداة فُرضت على شارع الانتفاضة الشعبي، جرّاء وحشية النظام وصعود الجهاديين، ولم يكن البتة خياراً إرادياً؛ كذلك فإنّ بندقية الساروت كانت قد ارتفعت على كتفيه بحكم الحاجة في حدودها الدنيا، القصوى والأقرب إلى الضرورة وخيار الدرجة صفر. وليست هذه السطور المقام المناسب للسجال حول هذه المحطة في مسيرة الساروت، ولا هي ملائمة لمساءلة أو تبرير اضطراره، خلال طور قصير للغاية، إلى مخاطبة «داعش» في «بيعة قتال» لا «بيعة طاعة»؛ إذْ يكفي التذكير بأنّ شرعيي التنظيم الإرهابي ذاته رفضوا قبول الساروت في صفوفهم، وأنه طُورد من جهاديي «النصرة» واعتُقل، وكاد أن يلقى حتفه على أيدي الظلاميين من مشارب مختلفة.
ورغم أنّ الساروت فقد أباه وأربعة من أخوته بنيران نظام الأسد وميليشيات إيران المذهبية، وأنه في نهاية المطاف سقط شهيداً في ميدان قتال مشرّف لا تديره أطراف الجهاد المتشدد؛ فإنّ نموذجه في الاستشهاد لا يشبه سواه لاعتبارات شتى، وإنْ كان يستكمل النماذج كافة، ويُغنيها. ولعلّ أبرز ما انطوت عليه خصوصية الساروت أنه لم يكن نسخة مطابقة من غياث مطر أو باسل شحادة، إذا وضع المرء جانباً شهداء عسكريين على غرار «أبو فرات» وعبد القادر الصالح؛ بل كان أمثولة القياس الأعلى في التعبير عن ولادات تلك المطحنة الجهنمية، التي خلطت معادلات القوّة والضعف، والصواب والخطل، والنزاهة والارتزاق، والمعارضة الصادقة النظيفة وتلك الكاذبة الملوّثة… حصيلة انتفاضة نبيلة امتلكت كلّ الحقّ وكلّ الشرعية وكلّ الأداء الملحمي، وتكاتفت قوى إقليمية ودولية عظمى لوأدها في المهد، ثمّ اغتيالها على النحو الأشدّ بربرية حين ترعرعت قليلاً ولاح أنها توشك على مقاربة المستحيل.
والشهيد الساروت اختار لقب «أبو جعفر» تيمناً، أغلب الظنّ، بابن عمّ النبيّ محمد والصحابي شهيد غزوة مؤتة الذي لُقّب بـ»جعفر الطيّار» لأنه، حسب الرسول، «يطير في الجنّة بجناحين من ياقوت». وليس كثيراً على فتى الانتفاضة السورية، أحد الأجمل والأبهى في لوائح شهدائها، أنّ له من ياقوت الذاكرة السورية النصيب الأسخى والأرقى والأجدر.
صبحي حديدي – القدس العربي[ads3]
الساروت
كمن انشوده؛ حلّق ملحمه.