الكذب في العمل .. إذا كنت كذاباً فهذه الوظائف تناسبك !

لديّ اعتراف، فأنا أكذب كثيرا، وأفعل ذلك أحيانا لأبدأ محادثة ما أو لأنهيها. وقد أقْدِمُ على ذلك لمراعاة شعور الآخرين، أو للحفاظ على مشاعري أنا نفسي من أي مضايقة. وفي بعض الأوقات، يتمثل السبب في محاولة تبسيط التعقيدات التي قد تشوب الحياة سواء الاجتماعية أو المهنية.

ليس هذا غريبا على أي حال، فبشكل ما، نعلم جميعا أن من نعمل معهم يكذبون علينا. فلا يمكن لهم – مثلا – أن يكونوا سعداء طوال الوقت، أو متحمسين للعمل على الدوام، أو مبتهجين بشدة لأن زميلا لهم نال ترقية على حسابهم هم أنفسهم.

لكن ماذا إن كان هذا الكذب لا يرتبط فقط بالحالة المزاجية للمرء، وإنما يتصل بشكل لا انفصام فيه بطبيعة الوظيفة ومضمونها؟ في هذا الشأن، تشير دراسة جديدة إلى أن من بين الأسباب التي تجعل الكذب ما يزال قائما في مجالات وظيفية بعينها، وجود اعتقاد بأن من يجيدون عملهم في هذه المهن، هم أولئك الذين يتبنون مواقف “مرنة” حيال مسألة قول الحقيقة من عدمه.

التوجهات إزاء الكاذبين في مجال العمل

يُنظر إلى الخداع في مكان العمل على نحو سلبي؛ إذ أن لجوء شخص ما إلى الكذب يعني على الأرجح أنه لا يجيد القيام بوظيفته. كما أن فعل ذلك قد يسمم ثقافة الثقة وروح الفريق الواحد. لكن طبقا لدراسة حديثة أجراها الباحثان الأمريكيان بريان سي جونيا وإيما إي لافين؛ هناك استثناءات من هذه القاعدة في الوظائف التي تعتمد بشكل أساسي على بيع منتج أو خدمة معينة والترويج لهما، أكثر من اهتمامها في المقام الأول بإرضاء العملاء والمستهلكين وتلبية احتياجاتهم ومطالبهم.

وبحسب دراسات التسويق، تهتم المهن والوظائف التي تتبنى توجه “الاهتمام بالمستهلك” بكل ما يلبي احتياجاته، بينما تُعنى نظيراتها ذات توجه “الاهتمام بالبيع” بتحقيق أهداف البائع.

وعادة ما تشيع صور نمطية عن مهن مثل مندوب المبيعات أو المصرفي، تفيد بأن أصحابها يركزون بقوة على السعي لبيع السلعة أو تقديم الخدمة دون أي اعتبارات أخرى. على الرغم من أنه على صعيد الممارسة العملية، يمكن أن يكون شاغلو وظائف مثل هذه شديدي الاهتمام بالآخرين بشدة، وأن يتسم العاملون في مجالات ذات طبيعة مختلفة مثل تلك المرتبطة بـ “تقديم خدمات الرعاية للمسنين” مثلا، بالأنانية المفرطة.

وفي إطار الدراسة التي أشرنا إليها سابقا، طلب الباحثان من عينة البحث – التي ضمت أكثر من 500 من دارسي إدارة الأعمال وغيرهم – تصنيف مهن بعينها، من حيث كونها تركز على الاهتمام بالبيع من عدمه، وتقييم موظفيها المفترضين على صعيد كفاءتهم المتصورة في أداء أعمالهم. وأُعطي المشاركون سيناريوهات من قبيل : “تَعْمَدْ الموظفة `جولي` عند تدوينها النفقات التي ستعوضها الشركة عنها، أن تسجل أن توصيلة سيارة الأجرة، كلفتها أكثر مما حدث بالفعل، كما يتظاهر الموظف `جيمس` بأنه يستمتع بالرحلات البحرية، حتى يُرضي مديره المتحمس بشدة لهذا النوع من الرحلات”.

وأظهرت الدراسة أن أفراد العينة يعتقدون أن الأشخاص الذين أظهروا قدرة على الخداع سيكونون أكثر نجاحا إذا عملوا في الوظائف التي تركز بشكل أكبر على “توجه البيع”، ومن ثم جعلوا لهم الأولوية في التوظيف. فعلى سبيل المثال، اختار 84 في المئة من المشاركين توظيف أشخاص مخادعين لأداء مهام بارزة في مهن تولي اهتماما أكبر لتوجه”التركيز على البيع”، فيما وقع اختيار 75 في المئة منهم على من يتصفون بالصدق والأمانة لتولي مهام أقل شأنا في المهن نفسها.

ورغم أن هذه النتائج مثيرة للاهتمام فإنها غير حاسمة (من بين أسباب ذلك، أن أفراد العينة لا يتقاضون سوى مقابل زهيد للغاية لمشاركتهم في الأبحاث والدراسات). كما أنه ليس من المؤكد، أن يُترجم ما أعرب عنه المشاركون من اعتقادات، في صورة تصرفات فعلية من جانب المسؤولين عن التوظيف في الشركات المختلفة. علاوة على ذلك، لا توجد أيضا أدلة قاطعة تجزم بأفضلية تبني توجه “الاهتمام بالبيع” على حساب التركيز على توجه “الاهتمام بالعميل” أو العكس، بالرغم من أن ثمة مزايا لتفعيل التوجه الأخير في حالات بعينها.

وفي الدراسة التي نحن بصددها، والتي تبحث العلاقة بين ما يمكن أن يبديه المرء من قدرة على الخداع والكفاءة التي يؤدي بها وظيفته، أكدت الباحثة لافين أن اختيار من يدرسون إدارة الأعمال ضمن أفراد عينة البحث كان متعمدا “حتى نتأكد أن الصور النمطية التي نتناولها بالفحص والدراسة، توجد في أذهان الممارسين المستقبليين” لأعمال تتعلق باختيار موظفين جدد.

وأضافت أن من ينشدون تبوء مناصب إدارية في المستقبل “ربما يرون بالفعل أن القدرة على الكذب والخداع، تشير إلى الكفاءة في الأداء في بعض المهن، ومن ثم يحولون هذه التصورات إلى ممارسات فعلية على صعيد التوظيف” فيما بعد.

هل هناك إيجابيات للكذب في بيئة العمل؟

يشكل الكذب أمرا طبيعيا إلى حد ما. بل إن الفيلسوف دافيد ليفينغستون سميث يقول في كتابه “لماذا نكذب: الجذور التطورية للخداع والعقل اللا واعي” إن “الطبيعة غارقة في الخداع”. فالفيروسات تخدع الجهاز المناعي للكائنات التي تسعى لغزو أجسادها، وتستخدم الحرابي أساليب التمويه والتخفي لخداع الحيوانات المفترسة. والبشر ليسوا استثناء من كل هذا، بما يشمل ممارستهم للكذب والخداع في أماكن العمل كذلك. فعلى سبيل المثال، يقر المسؤولون عن التوظيف بأن كل المتقدمين لشغل أي وظيفة، يبالغون في مؤهلاتهم وقدراتهم.

بجانب ذلك، يشكل اللجوء إلى الخداع ضرورة في مهن بعينها (يمكن أن يمثل العمل في مهنة المحقق السري شهادة على صحة ذلك). كما أن الدبلوماسية هي مرادفة للكذب في نظر البعض. وقد يشكل الخداع أمرا استراتيجيا في شركات معينة، كما يحدث عندما يطلب المسؤولون عن إدارة مركز اتصالات ما، من العاملين فيه أن يتظاهروا بأن مقره، يقع في دولة أخرى بخلاف تلك التي يقع فيها بالفعل، وذلك مراعاة لتحيزات عملاء المركز.

لكن ذلك لا ينفي أن الغموض يكتنف بوجه عام مسألة الحكم على اللجوء إلى الكذب والخداع من جانب شاغلي مهن محددة. فمثلا، يُطلب ممن يعملون في قسم خدمة العملاء – خاصة إذا كانوا من النساء – إخفاء مشاعرهم الحقيقية، وهم يتعاملون مع المتصلين بهم.

أما بالنسبة لك أنت؛ فهل تريد بالفعل أن تتعامل مع موظفين يُصْدِقونك القول طوال الوقت، فهل ترغب – مثلا – في أن تقول لك المضيفة على متن الطائرة إن عليك الشعور بالقلق من المطبات الجوية؟ أو أن يصارحك النادل في المطعم بأنه يحتقرك أو يستخف بك؟ أو أن يخبرك الطبيب بأنه لا يعبأ كثيرا بمعالجتك؟

من جهة أخرى، يتطلب شغل بعض أنواع الوظائف، التحلي بقدر من الدماثة أو إبداء اهتمام وعناية، مُصطنعيْن جزئيا بطبيعتهما، ومجهديْن كذلك. وتقول لافين إن الناس يرون أن من يستطيع ضبط مشاعره وتنظيمها والتحكم فيها هو أكثر كفاءة ممن يعجز عن ذلك. وهنا بوسعنا أن نعتبر أن إظهار ما لا نبطن من مشاعر، يمثل سلوكا عقلانيا مئة في المئة.

وربما تَصْدُق القاعدة السابقة على من يُوصفون بأنهم أصحاب تأثير على مواقع التواصل الاجتماعي، أولئك الذين يطمسون بتعليقاتهم ومشاركاتهم، الخطوط الفاصلة بين ما هو تعبير عن شعور حقيقي وأصيل، وما يمثل أسلوبا للترويج لفكرة أو منتج ما لأغراض تجارية.

أكاذيب “صغيرة ولطيفة”

ويصل الأمر في بعض الأحيان، إلى أن يُنظر للكذب لدوافع خيرة على أنه خيار أكثر أخلاقية من سواه. وتقول لافين في هذا الشأن: “على مدار الدراسة التي أجريتها، وجدت الكثيرين ممن يرحبون بالأكاذيب التي قيلت لهم بهدف خدمتهم أو إفادتهم، بل ويقدرونها كذلك”. فعلى سبيل المثال “يؤمن الموظفون بأن على زملائهم حمايتهم من ردود فعل المديرين، التي لا يستطيعون تطبيقها على أرض الواقع، ولن يؤدي سماعها سوى لإيذاء مشاعرهم. كما يُقدّر مرضى الأورام الأمل الزائف الذي يمكن أن يُقدم لهم، أكثر من أن يصارحهم المحيطون بهم بحقيقة الأمراض التي يعانون منها”.

ويمكن القول إن الأمر الأساسي الذي يجعل بمقدور المرء وصف كذبة ما بأنها إيجابية بالنسبة للمجتمع المحيط أو اعتبار الخداع في موقف بعينه بأنه يرمي لمساعدة الغير، هو ألا يكون القيام بهذا السلوك هادفا لحصول من يمارسه على ميزة غير عادلة أو تحقيق أي مصالح شخصية، بل أن يكون عبارة عن “أكاذيب بيضاء صغيرة”، تنجم عن الرغبة في إبداء الاهتمام بشخص ما والعناية به.

على صعيد آخر، ربما توجد عوامل ثقافية تلعب دورا في اختيار المرء تبني توجهات مثل هذه، وفق ما ذكرت “هيئة الإذاعة البريطانية”، فقد أشارت بعض الدراسات إلى أن الأشخاص القادمين من بلدان يسودها ما يُعرف بـ “الثقافات الجماعية”، ينزعون بشكل أكبر للكذب من أجل حفظ ماء الوجه وحماية تجانس الجماعة وتناغمها.

وقد وضعت إحدى هذه الدراسات أكثر من 1500 طالب من ثماني دول، في سيناريو افتراضي يتعلق بإجرائهم مفاوضات بشأن صفقة تجارية، ويمكن أن يعود الكذب في إطاره عليهم بالفائدة. وأظهرت الدراسة أن الطلاب الذين ينتمون لثقافات ذات طابع جماعي بشكل أكبر (أمثال من قَدِموا من دول ككوريا الجنوبية واليونان) لجأوا للكذب والخداع بشكل أكبر ممن أتوا من دول ذات ثقافات تتسم بصبغة فردية أقوى مثل أستراليا وألمانيا،على الرغم من أن نسبة ممارسة الكذب كانت مرتفعة بوجه عام بين أفراد العينة.

على الجانب الآخر، يرى باحثون أن “التفكير خارج الصندوق قد يرتبط في بعض الأحيان بلي القواعد وعدم الالتزام بها حرفيا”. وأشارت بعض الأبحاث والدراسات إلى أن هناك صلة بين الإبداع والكذب والتضليل أو عدم الأمانة، في ضوء أن الأشخاص الذين يعملون في مجالات إبداعية، يجدون أن من الأسهل عليهم إيجاد منطق وأسباب عقلانية لأكاذيبهم.

غير أنه قد يكون من العسير اكتشاف وجود تسامح أو حتى تشجيع للخداع والكذب في مكان العمل من جانب القائمين عليه. فبرأي لونغ وانغ، الأستاذ الجامعي لعلم الإدارة في إحدى جامعات هونغ كونغ، “تُسبغ السرية غالبا على أي قواعد تصب في صالح ممارسة الكذب والخداع” داخل مؤسسة أو شركة ما، وذلك على الأقل لإخفاء ذلك عن أعين الآخرين، ممن لا ينتمون لهذا المكان. لكن وانغ يبدي شكوكه في إمكانية استمرار تطبيق قواعد مثل هذه طويلا، قائلا إنه قد يجري التخلص منها على المدى البعيد.

وعلى الرغم من أن اللجوء للخداع والكذب بقدر معقول لا يشكل دائما أمرا ضارا، فإن الشركات والمؤسسات ستكون بالطبع أكثر كفاءة – بوجه عام – إذا شعر العاملون فيها بأن بمقدورهم قول الحقيقة والاعتماد على ذلك. ويشكل ساسة مرموقون نماذج جيدة تؤكد العواقب المُدمرة التي يمكن أن تنجم عن لجوء السياسيين للكذب والخداع.

إذن يبقى السؤال؛ هل جعلني كل ما تلفظت به من أكاذيب أفضل في أداء وظيفتي؟ الإجابة هي لا على الأرجح. لكنني لست بحاجة في الوقت نفسه، للتركيز على هذه النقطة بشكل أكبر من اللازم. فكما تقول لافين: “نهتم كثيرا بما إذا كان الآخرون يضمرون نوايا حسنة حيالنا أم لا، لكننا لا نكترث بالقدر نفسه بما إذا كانوا يقولون الحقيقة من عدمه”.[ads3]

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي عكس السير وإنما عن رأي أصحابها