هل يجوز استخدام أبحاث النازيين إذا كانت ستنقذ أرواح البشر ؟

في إطار إحياء الذكرى الخمسين لهبوط أول إنسان على سطح القمر، تناولت محطة إذاعية أميركية محلية هذه المناسبة عبر التركيز على جانب يرتبط بالمنطقة التي تُبَث منها.

فقد نشرت سيرة ذاتية حافلة بالإشادة والمديح لعالم الصواريخ فيرنر فون براون، الذي وُوري الثرى في منطقة قريبة من مقر بث المحطة بالعاصمة واشنطن. لكن هذا الموضوع أثار الكثير من الغضب، نظرا لأنه أغفل ذكر أن فون براون كان نازيا، ما دفع المحطة إلى حذفه.

ما سبق ليس إلا مثالا على حقيقة مفادها أنه يندر أن تجد جانبا من جوانب التقدم العلمي لم يشهد في مرحلة ما ممارسات تفتقر للأخلاق أو القيم التي يجب مراعاتها في مجال الدراسات والأبحاث.

وبوسعك أن تجد نماذج على ذلك، في فروع علمية مختلفة من الفيزياء إلى الأحياء، وكذلك في مجالات الطب والهندسة وعلم النفس وعلم الجينات وعلم اللقاحات وعلم التغذية وعلم الإنسان. فكل هذه العلوم حافلة باكتشافات يمكن أن يُقال إنها أُنْجِزَت في ظل ملابسات لا أخلاقية وربما غير قانونية أيضا.

فما الذي يتعين علينا الشعور به حيال الانتفاع بمعارف علمية يتم الحصول عليها عبر سبل مثل هذه، خاصة إذا كان من الممكن أن تمثل خدمة عظيمة للحضارة، بل ومن شأنها إنقاذ حياة البشر كذلك؟

لو عدنا لمثال البرنامج الخاص بمهمة أبوللو الفضائية الأمريكية، فسنجد أن فون براون لم يكن العالم الألماني الوحيد المنخرط فيه، بل كان واحدا من بين 120 عالما ومهندسا جاءوا من هذا البلد، بينهم زميله كورت ديبوس الضابط السابق في وحدات “إس إس”؛ تلك المنظمة شبه العسكرية التي كانت تابعة للحزب النازي في ألمانيا، وكذلك برنهارد تيسمان، وكلاهما اضطلع بدور لا يُستهان به في البرنامج الفضائي للولايات المتحدة.

كان هؤلاء من بين نحو 1600 عالم، جُنِدوا على يد عملاء للاستخبارات في إطار عملية نُفِذَت في نهاية الحرب العالمية الثانية. ومنح أولئك الأشخاص جميعا، حماية من الملاحقة القضائية، ونُقِلوا بأمان إلى الولايات المتحدة، حيث سُمِحَ لهم بمواصلة عملهم.

بجانب ذلك، نجحت قوات الحلفاء في اقتناص إنجازات ومبتكرات علمية تفتقت عنها قريحة العلماء النازيين، مثل مركبات غاز الأعصاب كـ”السارين” و”التابون”، وهي المركبات التي ستفيد لاحقا في تطوير مبيدات حشرية وأسلحة دمار شامل سواء بسواء. وكذلك مادة الكلوروكين المضادة للملاريا، ومسكن للألم يحمل اسم ميثادون، بجانب مادة منشطة تُعرف بـ “ميثامفيتامين”.

ولم يفت الحلفاء الاستفادة أيضا من أبحاث أُجريت حول انخفاض درجة حرارة الجسم عن معدلاتها الطبيعية والجفاف، وغير ذلك من الدراسات التي نتجت عن تجارب أُجريت على البشر في معسكرات الاعتقال النازية.

كما شهدت الحقبة النازية تطوير أشياء مختلفة في مجالات عدة؛ مثل الخشب المضغوط (الحُبيبي) ومشروبات غازية أيضا.

لكن ذلك لا يُقارن بما حدث في أوقات أخرى، فاعتبارا من عام 1932 ولمدة 40 عاما، تابع علماء في جامعة بولاية ألاباما الأمريكية تطور مرض الزهري، في أجساد مئات من الرجال الفقراء سود البشرة، دون أن يتم منح أي منهم تشخيصا لحالته أو علاجا له في أي وقت من الأوقات، بالرغم من أن المضاد الحيوي الذي يمكن أن يؤدي تناوله إلى معالجة هذا المرض، كان متوافرا في ذلك الوقت.

وفي دراسة متصلة بهذا البحث، عَمَد أطباء أمريكيون في أربعينيات القرن الماضي، إلى حقن عدد من المرضى بأنواع من العدوى التي تنتقل عبر الممارسة الجنسية، من أجل دراسة تلك الأمراض، دون إبلاغ الخاضعين للبحث بذلك. وأُجريت هذه التجربة في غواتيمالا، نظرا لإدراك القائمين عليها بمدى الغضب الذي سينجم عن كشف النقاب عنها.

علاوة على ذلك، شهدت الفترة بين عاميْ 1955 و1976 ما بات يُعرف بـ “التجربة المؤسفة”، التي تُرِك في إطارها مئات من النسوة اللواتي يعانين من أورام يحتمل أن تصبح سرطانية، دون علاج من أي نوع، لرؤية ما إذا كُنّ قد أصبن أو سيصبن بسرطان عنق الرحم أم لا.

ولم تظهر تفاصيل هذه الدراسة – التي أُجريت في نيوزيلندا – إلى النور، إلا بعد أن كشفت عنها اثنتان من الناشطات المناصرات لحقوق المرأة.

وكان القائمون على التجربة يأملون في أن يختبروا من خلالها نظريات بشأن مدى فائدة التدخل المبكر لمواجهة هذا النوع من الأمراض، لكن ذلك لم يمنع من أن يتعرضوا لانتقادات فيما بعد، من جانب قاضية تولت النظر في هذا الملف.

ولا يفوتنا في هذا المقام الإشارة إلى هنريتا لاكس، الأمريكية من أصل أفريقي، التي استفاد الأطباء من خلاياها – بعد وفاتها في مطلع الخمسينيات جراء الإصابة بالسرطان – لإجراء تجارب نجمت عنها إنجازات طبية شتى، من بينها تطوير لقاح مضاد لمرض شلل الأطفال.

كما استخدم ما يُعرف بـ “خط الخلايا” – وهي الخلايا التي نمت وتراكمت بفضل العينات الأولية التي أُخِذَت من لاكس فور وفاتها – في دراسات لا حصر لها، على عقاقير وسموم وفيروسات، كما تمت الاستفادة منه لدراسة الجينوم البشري.

وفي الخمسينيات أيضا، أصبح طبيب نفسي أمريكي يُدعى روبرت جي. هيث رائدا في إجراء تجارب تتم باستخدام أقطاب كهربائية مزروعة في الدماغ. وفي الوقت الحاضر، تُستخدم تقنية مشابهة لذلك لعلاج الصرع، ومرض باركنسون.

وفي ضوء كل ذلك، من غير المستغرب أن يذهب المرء للقول إنه لم يكن من المفترض أن تُجرى مثل هذه التجارب من الأصل. لكن في ضوء أنها جرت بالفعل؛ ما الذي يتعين علينا فعله بالمعلومات التي حصلنا عليها من خلالها؟

وفي هذا الشأن، يقول دوم ويلكينسون، وهو عالم في أخلاقيات الطب في جامعة أكسفورد: “بالبداهة؛ يبدو أن استخدامنا لهذه المعلومات التي تم الحصول عليها بشكل لا أخلاقي، يعني أننا مشاركون في ذلك الماضي المشين”.

ولا تقتصر هذه الرؤية على ويلكينسون وحده، بل تشيع حتى بين أولئك الذين انتفعوا بما خَلُصَتْ له هذه التجارب.

ففي عام 1984، نُشِر مقال في دورية علمية يتضمن نقاشا جرى مع خبير استفاد في أبحاثه من البيانات التي حصل عليها النازيون بشأن تأثيرات انخفاض درجة حرارة الجسم إلى أقل من 35 درجة مئوية. وفي هذا النقاش، قال الخبير – الذي يُدعى جون هيوارد – إنه لا يريد أن يُضطر إلى استخدام مثل هذه البيانات، لكن “في العالم الأخلاقي لا يوجد أي بديل آخر ولن يوجد أيضا. كما أن عدم استخدام هذه المعلومات سيئ بالقدر نفسه”.

لكن ويلكينسون يرى أن “تجارب العلماء النازيين لا توفر معلومات مهمة سوى بشكل نادر”، في إشارة إلى أنها قد لا تستحق التضحية بأخلاقيات البحث العلمي.

فرغم أن إسهام فون براون في برنامج أبوللو قد يكون كبيرا، فمن المستحيل القول إن وكالة “ناسا” كانت ستفشل في التعرف على كيفية تمكين مركباتها من الهبوط على سطح القمر دون مساعدة هذا الرجل أو دون المعلومات التي استقاها خلال عمله، في برنامج نازي لتطوير الصواريخ.

كما أن نتائج التجارب التي تحدثنا عنها سابقا، وأُجريت في الولايات المتحدة ونيوزيلندا، لم تغير على نحو جذري فهمنا لمرضيْ الزهري والسرطان. فالبيانات المستمدة منها ليست مفيدة بالقدر الذي يجبرنا على سد أنوفنا لتجنب ما يحيط بها من روائح كريهة، ومحاولة الاستفادة منها في مساعدة المرضى في الوقت الراهن.

ويقول ويلكينسون في هذا الصدد: “رغم أنه لا يوجد الكثير من الدراسات العلمية الأخرى والمماثلة، التي تبحث في ما يمكن أن يترتب على عدم معالجة سرطان عنق الرحم، فإن التخلي عن الاستفادة بنتائج (الدراسة التي أُجريت في نيوزيلندا في هذا الصدد) لن يؤثر على مدى فهمنا لهذا المرض”.

من جهة أخرى، ربما يكون من المغري لنا أن نعتقد أن الممارسات الطبية التي تنافي قيم وأخلاقيات البحث العلمي ليست إلا شيئا من الماضي، وأن ما حدث في هذا السياق كان جملة اعتراضية شهدها منتصف القرن الماضي، وأن الأبحاث العلمية والطبية التي أُجريت بعد ذلك خلت تقريبا من أي شائبة. بل إننا قد نتصور أننا سنلتزم من الآن فصاعدا بأن يجري جمع كل معلوماتنا العلمية في النور، ونحسب أن جميع اكتشافاتنا البحثية والطبية ستتسق مع القيم والأخلاق. لكن الأمر ليس كذلك للأسف الشديد.

فعلى غرار التجربة التي أُجريت بشأن مرض الزهري في غواتيمالا؛ هناك الكثير من التجارب السريرية، التي تُجرى حاليا في دول نامية للأسباب نفسها التي حدت بالقائمين على تجربة الزهري، لإجرائها في ذلك البلد الواقع في أمريكا الجنوبية، من قبيل أن القواعد هناك أكثر تساهلا، وكذلك كون مخاطر التعرض لتغطية إعلامية سلبية بسبب حدوث أي نتائج غير مرغوبة أقل من تلك نظيرتها في البلدان المتقدمة.

وفي عام 2008، نُشِرَ تقرير كشف عن تفاصيل الكثير من هذه التجارب المخالفة للأخلاقيات الطبية، والتي أُجريت في دول مثل الهند ونيجيريا وروسيا والأرجنتين ونيبال، وغيرها. وأماط التقرير اللثام عن 14 حالة وفاة غير مسجلة لنسوة فارقن الحياة خلال تجربة شهدتها أوغندا، على تناول عقار نيفاربين المضاد للإصابة بفيروس “إتش آي في” المُسبب لمرض الإيدز.

كما كشف التقرير عن وفاة ثمانية مرضى في الهند خلال تجربة على تناول عقار مضاد لتجلط الدم. ولم يكن أي من هؤلاء المرضى على علم بأنه جزء من تجربة طبية.

يقول ويلكينسون: “إحدى بواعث القلق المتعلقة باستخدام بيانات (نتجت عن إجراء تجارب منافية لقيم وأخلاقيات البحث العلمي) أن ذلك يعبر عن توجه مفاده بأن من الجائز المضي على هذا الطريق، ومن ثم تشجيع الباحثين في المستقبل (على القيام بالمثل) والتفكير في أن `التاريخ سيحكم عليّنا بشكل إيجابي`. لا نريد فعل ذلك، ولا نرغب في تشجيع الأبحاث غير المتسقة مع القيم والأخلاقيات البحثية”.

ويلقي ويلكينسون الضوء في هذا الإطار على واقعة حدثت مؤخرا، وتتعلق بباحث صيني أعلن العام الماضي أنه نجح في المساعدة على ولادة أول أطفال مُعدلين وراثيا. ويرى الرجل أن تلك الواقعة تشكل “مثالا مدهشا، إذ يبدو أن هذا الباحث كان مدفوعا بالرغبة في اكتساب هذه الشهرة ذات الطابع الخاص، التي يحظى بها كل من يكون الأول” في تحقيق إنجاز ما.

وقد تبنت هذه الرؤية كذلك السلطات المسؤولة عن الصحة في الصين، التي خَلُصَ تحقيق أجرته حول دراسة ذلك الباحث إلى أنه “أجراها بشكل غير قانوني، سعيا للشهرة والمكسب الشخصي”.

ويُشبّه ويلكينسون الباحثين الذين يُقْدِمون على ذلك، بمن يرتكبون جرائم من النوع الذي يجذب انتباه الرأي العام، بهدف الحصول على الشهرة. ويقول إنه يتعين علينا ألا نتغاضى عن هذا السلوك، أو نمنح أصحابه الترويج الذي ينشدونه.

المشكلة أن قدرتنا على التمييز بين أفعال أولئك الباحثين والنتائج العلمية التي تتمخض عنها، وذلك على نحو يُمكِننا من إدانتهم والاستفادة بما توصلوا إليه في الوقت نفسه، لا يعني خروجنا من المتاهة الأخلاقية المرتبطة بذلك الأمر بشكل كامل. فماذا لو كان البحث الذي ينطوي على إشكاليات في هذا الإطار، لم يُستكمل بعد، ولكنه في طريقه إلى ذلك؟

وعلى أي حال، هذا هو المأزق الذي تُشكّله عملية مثيرة للجدل لجمع عينات دمٍ من أكثر من ثلاثة ملايين اسكتلندي، تتولى المسؤولية عنها حاليا السلطات الصحية في اسكتلندا.

فهذه العينات جُمِعَت كجزء من اختبار “وخز الكعب” الروتيني، الذي يُجرى للأطفال حديثي الولادة، بهدف التعرف على ما إذا كانوا يعانون من بعض الأمراض الوراثية أم لا. لكن المشكلة أن الباحثين لم يحصلوا، في الفترة ما بين عاميْ 1965 و2003، على موافقة ذوي المواليد على تخزين عينات الدم المأخوذة منهم، وهو ما يعني أن قاعدة البيانات كلها مشكوك في مدى قانونيتها.

وقد أدى ذلك إلى تعليق إجراء أي أبحاث علمية، تُستخدم فيها عينات الدم المخزنة في قاعدة البيانات هذه، رغم أنها الأقدم والأكبر من نوعها في العالم، وأنها تقدم في الوقت نفسه نظرة واسعة النطاق – على نحو غير مألوف – للتركيب الجيني للأسكتلنديين، وتشكل مصدرا فريدا من نوعه كذلك للمعلومات الضرورية اللازمة للدراسات الطبية.

وتقول آن ويلكينسون المسؤولة في جمعية “نوفيلد كاونسيل لأخلاقيات الأبحاث الطبية والبيولوجية” في بريطانيا إنه يصعب على المرء أن يُصنّف مثل هذه المواقف – بشكل مباشر – على أنها أخلاقية أو غير أخلاقية، في ضوء أنها “تنطوي على شواغل قيمية مختلفة ومتنافسة ومتباينة، نحتاج لأن نضعها جميعا في الاعتبار”.

فبحسب ويلكينسون – التي سبق لها أن كتبت مقالات بشأن معضلة عينات الدم الأسكتلندية – هناك منافع اجتماعية مهمة يمكن الحصول عليها عبر استخدام قاعدة البيانات تلك “لكن ذلك لن يطمس ببساطة المخاوف المرتبطة بمسائل الخصوصية وبضرورة الحصول على موافقة الخاضع للتجربة – أو الوصي عليه – قبل إخضاعه لها، ولن يتغلب كذلك على بواعث القلق المتعلقة بالمخاطر التي يتعرض لها الأشخاص جراء استخدام معلوماتهم الشخصية”.

وتشرع السلطات الصحية في اسكتلندا حاليا في مشاورات تشمل الباحثين والمعنيين بأخلاقيات البحث العلمي والمرضى والمواطنين العاديين، لبلورة السبيل الأمثل للتعامل مع قاعدة البيانات المثيرة للجدل هذه.

وفي نهاية المطاف، يبدو لافتا أن محاولة استخلاص إيجابيات من المواقف السيئة تمثل طبيعة بشرية. فثمة كتابات تشير إلى أن الأطباء اليهود في غيتو وارسو الذي ضم يهود العاصمة البولندية، حرصوا على تدوين ملاحظات شديدة الدقة عن الحالة المرضية لرفاقهم من السكان. وقد هُرِبَتْ هذه البيانات في ما بعد، ونُشِرَت بوصفها “دراسة مهمة من الناحية التاريخية”، تتناول تأثيرات حرمان البشر من الغذاء، كي يتضوروا جوعا. (BBC)[ads3]

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي عكس السير وإنما عن رأي أصحابها