كيف يتغافل الأسد عن مصير حلفاء إيران
أكثر الرئيس السوري بشار الأسد من الظهور في وسائل الإعلام مؤخراً، وهو أمر مفيد، لأن مقابلاته تُظهِر جوانب من شخصيته تهم المواطن السوري والعربي معرفتها. يبدو أن بشار الأسد لم يستخلص العِبَر من الحرب السورية التي تجاوزت ثماني سنوات، ولا من الاحتجاجات التي اشتعلت جذوتها في لبنان والعراق خلال الأسابيع الماضية، واستهدفت بالدرجة الأولى حلفاء إيران؛ ففي حين بدأ بعض حلفاء إيران بمراجعة حساباتهم في ضوء تلك الأحداث، فإن الأسد، على العكس، يصمّ أذنيه عن نصائح حلفائه وأصدقائه، باستثناء إيران. وتُوحي خطابات الأسد المتشددة وسياساته المتصلبة كما لو كان يخطط للبقاء في كرسيه زمناً طويلاً، ويرى أن الحل العسكري وسيلته الوحيدة لتحقيق ذلك.
وتُظهر إحدى المقابلات الإعلامية التي أجرتها معه «روسيا اليوم»، الأسبوع الماضي، أن تحليلات الرئيس السوري تعتمد على نظريات المؤامرة المتداولة، لا المعلومات، فهو يرى مثلاً أن أسامة بن لادن وأبو بكر البغدادي كانا عميلين للغرب، تمَّت تصفيتهما بعد أن انتهى دورهما. ويفترض الأسد أن المشاهد لا يطلع على أي معلومات سوى ما تعرضه وسائل الإعلام الحكومية، فيقوم بإعادة كتابة تاريخ الثورة السورية، التي يقول إنها لم تكن سلمية منذ بدايتها، وينفي أن قواته قد استخدمت الأسلحة الكيماوية، على الرغم من ثبوت ذلك بالأدلة القاطعة، وينفي قتل قواته للمدنيين، ويدافع عن تدميره للمدن السورية.
كان البعض يتوقع أن يطرح الأسد نفسه هذه الأيام كسياسي معقول يمكن أن يكون له دور في مستقبل سوريا، كما يُروّج له هذه الأيام، ولكن ذلك لم يكن، إذ تخلى الأسد تماماً عن الدبلوماسية في خطبه وفي مقابلاته الإعلامية خلال الأسابيع القليلة الماضية، فهاجم خصومه بصلافة، ووصف رؤساء أميركا بأنهم «مجرمون»، حتى عندما يتظاهرون بالدفاع عن حقوق الإنسان، ووصف الرئيس التركي بأنه «لصٌّ» و«أزعر»، وبالمثل حينما يتحدث عن المعارضة السورية.
وفي إشارة توضح موقفه من العملية السياسية التي تقودها الأمم المتحدة، شكّك الأسد في دور المنظمة، وفي إمكانية نجاح المحادثات السياسية التي ترعاها، وقلّل من أهمية اللجنة الدستورية التي قامت المنظمة الدولية بتشكيلها، على الرغم من أن الأسد سبق أن وافق عليها واختار خمسين من أعضائها. وانتقد المبعوث الأممي، غير بيدرسون، فقال إنه يجب ألا يتدخل في موضوع الانتخابات، مع أن قرار مجلس الأمن 2254، الذي يُعتبر الأساس في عمل المبعوث، ينصُّ صراحة على الترتيب لانتخابات حرة ونزيهة تحت إشراف الأمم المتحدة.
وتبدو روسيا قلقة ومحرجة من شطحات الأسد الكلامية وسياساته المتشددة، فنجدُ وسائل إعلام قريبة من «الكرملين» تنتقد هجومَه على الرئيس التركي، حليف روسيا حالياً. وتنتقد سياساته القمعية تجاه القبائل، والتغييرات الديموغرافية التي تُبعد المجموعات السنية عن النظام، ويحذر الإعلام الروسي شبه الرسمي من أن هذه السياسات تغذي «نيران الحرب الأهلية»، وتُذكّر الأسد بأنه لا يحظى حالياً بدعم أكثر من 20 في المائة من الشعب السوري.
وفي تحليل نشرته وكالة «تاس» شبه الرسمية، قالت إن الأسد يسعى إلى إبطاء عمل اللجنة الدستورية، لأنه لا يريد أن يذهب إلى الخطوة التالية، وهي الانتخابات الرئاسية. وتوقعت أن ترتفع حدة انتقادات الأسد كلما اقتربت تلك الانتخابات. ويصرّ الإعلام الروسي على وجود فجوة بين مواقف الأسد ومواقف روسيا، على الرغم من أن بقاءه في السلطة يعتمد على دعم روسيا، ويحثّ الأسدَ على اغتنام الفرصة الحالية لاتخاذ خطوات نحو السلام، مستفيداً من وجود القوات الروسية والإيرانية في بلاده.
على الأرض توثق المنظمات الدولية استمرار سياسة «الأرض المحروقة» التي لا تلتزم بأي ضوابط. ففي الأسبوع الماضي، أبلغ روبرت كولفيل، الناطق الرسمي لمجلس حقوق الإنسان، مؤتمراً صحافياً في جنيف بأن أكثر من 60 منشأة طبية قد تم قصفها في منطقة إدلب خلال الأشهر الستة الماضية، منها أربع الأسبوع الماضي، موضحاً أن بعض تلك المنشآت قد تم قصفها مرات عدة، مما يوضح أن القصف لم يكن على سبيل الخطأ، مؤكداً قناعته بأن معظم تلك الهجمات، إن لم يكن كلها، قد شنتها القوات الحكومية أو حلفاؤها.
أما إنكار الأسد للفظائع التي ارتكبتها قواته، فإنه يتناقض مع التقارير الموثقة التي أصدرتها الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان، والتي توضح أن مئات الآلاف من السوريين قد قُتِلوا، وأن نصف الشعب السوري قد تم تهجيره إلى دول الجوار أو داخل البلاد، فضلاً عن عشرات الآلاف ممن اعتُقِلوا أو تم خطفهم وقضى الآلاف منهم تحت التعذيب أو تم إعدامهم داخل السجون. فعلى سبيل المثال، وثّق تقرير لمنظمة العفو الدولية في عام 2017 أن 13 ألف سوري قد تم إعدامهم في سجن «صيدنايا» وحده.
في شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وجهت النيابة الألمانية الاتحادية الاتهام لمسؤولَيْن سابقيْن في أحد أجهزة المخابرات السورية، كانا قد اعتقلا في شهر فبراير (شباط) 2019 في ألمانيا، واتهمت أحدهما بالضلوع في تعذيب أربعة آلاف معتقل على الأقل، تُوفّي منهم 58 على الأقل تحت التعذيب. ومن المتوقّع أن تبدأ محاكمتهما في شهر فبراير 2020. وتحقق السلطات الألمانية في ضلوع عشرات من المسؤولين السوريين السابقين في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. وأصدرت ألمانيا، العام الماضي، مذكرة اعتقال دولية ضد جميل الحسن، رئيس الاستخبارات الجوية في سوريا، اتهمته فيها بالمسؤولية عن قتل أو تعذيب مئات من السوريين.
وتنطلق ألمانيا في هذه الملاحقات من مبدأ «الاختصاص الدولي»، الذي يعطي أي دولة الحق في ممارسة الاختصاص القضائي لملاحقة مرتكبي «جرائم دولية»، مثل الجرائم ضد الإنسانية، والإبادة الجماعية، وجرائم الحرب.
وألمانيا ليست وحيدة في ملاحقة المسؤولين السوريين المتهمين بارتكاب انتهاكات جسيمة ضد الشعب السوري، فالأمم المتحدة تحقق في تلك الجرائم، ووضعت قوائم مطولة بأسمائهم والانتهاكات التي ارتكبوها، في انتظار وضعهم أمام المحاكم الدولية أو الوطنية.
ولهذا، فإن إنكار بشار الأسد لتلك الجرائم لن يغني أولئك المسؤولين شيئاً، سوى إضعاف مصداقية النظام حينما يطلب أن يكون له دور في مستقبل سوريا.
ولكن الأسد يبدو كرجل يعيش في قوقعة، بعيداً عن الواقع، ولا يرى في المواقف الدولية الواضحة ما يدفعه إلى مراجعة سياساته. وهو مقتنع، كما قال في إحدى مقابلاته، الأسبوع الماضي، بأن سوريا تختلف عن العراق ولبنان، ولذلك فإن الاحتجاجات الموجهة ضد النفوذ الإيراني في هذين البلدين لا تدفعه إلى التفكير في هشاشة مستقبله كحليف لإيران، التي قد تصبح حليفه الوحيد إذا تعمّق خلافه مع روسيا.
عبد العزيز حمد العويشق – الشرق الأوسط[ads3]