” موجة هجرة جديدة .. كي لا تضيع فرصة تاريخية أخرى مع ألمانيا ! “
في خمسينيات القرن الماضي عرضت ألمانيا (الغربية آنذاك) على بلدان شمال إفريقيا الحديثة العهد بالاستقلال، إبرام اتفاقيات لهجرة اليد العاملة من أجل المساهمة في تشييد المعجزة الاقتصادية الألمانية بعد الحرب. ولم تبد البلدان المغاربية آنذاك جاهزية، بخلاف تركيا وإيطاليا واليونان والبرتغال التي تدفق منها عشرات آلاف الشبان الذين لم يكونوا يتمتعون بكفاءات عالية، وتم استقدامهم للعمل في مصانع السيارات والمنتجات الكيماوية ومناجم منطقة الرور بغرب ألمانيا.
ولم تكن أجواء العداء بين المعسكرين الشرقي والغربي آنذاك تسمح بتطور علاقات التبادل والتعاون بين ألمانيا وكل من الجزائر ومصر اللتين كانتا تؤيدان ألمانيا الشرقية.
أما المغرب وتونس المحسوبتين ضمن النفوذ الغربي، فقد تثاقلتا في بداية الأمر في التجاوب مع موجة الهجرة الأولى التي كان يُطلق عليها في ألمانيا هجرة “العمال الضيوف”، ثم التحقتا متأخرتين في منتصف الستينيات، عبر اتفاقيات لهجرة أعداد محدودة من اليد العاملة.
بعد عقود من الزمن ستتحول اليد العاملة التركية التي استقبلتها ألمانيا في الخمسينيات، إلى قوة اقتصادية هائلة تدفع عجلة التنمية في تركيا وتطوير صناعاتها، كما تحولت الجالية التركية إلى أكبر تجمع بشري من المهاجرين في ألمانيا: قاطرة الاقتصاد الأوروبي.
بينما ظل حضور الهجرة المغاربية في ألمانيا عبر السنوات محدوداً، كما أضاعت بلدان المنطقة فرصة تاريخية في تنويع علاقاتها وفي الخروج عن النفوذ التقليدي لفرنسا المستعمر السابق.
هل فقدت دول المنطقة المبادرة؟
واليوم تبدو مسألة الهجرة مختلفة جذرياً، ذلك أن التحولات العميقة في الاتصالات وعولمة الاقتصاد، تجعل هجرة اليد العاملة بمختلف أصنافها غير خاضعة ضرورة لمراقبة الدولة. ففي بهو فندق فاخر بالدار البيضاء أو تونس أو القاهرة، يمكن لممثل شركة عالمية أن يوقع عقود عمل مع من يراه ملائماً من الكفاءات المحلية، كما يمكن لكفاءات عربية شابة أن تحصل عبر الإنترنت على فرص هجرة مغرية إلى كندا أو الولايات المتحدة أو أوروبا أو حتى أستراليا.
فهل يعني ذلك أن دول المنطقة قد تجاوزتها الأحداث، أم ما يزال بإمكانها المبادرة بالتحرك في هذا المجال كي لا تفقد زمام الأمور كلياً؟
تستعد ألمانيا بشكل حثيث على مستوى القطاعين العام والخاص، لاستقبال عشرات آلاف من اليد العاملة الماهرة والكفاءات من خارج الاتحاد الأوروبي، لتغطية حاجة قطاعات الصحة وتقنية المعلومات والتجارة والتعليم، إلى أكثر من 150 ألف مستخدم سنوياً.
وفي محاولة لمنافسة أسواق عمل أخرى مغرية وخصوصاً في أمريكا الشمالية، شرعت ألمانيا منذ بضع سنوات في منح بطاقة زرقاء توازي البطاقة الخضراء في أمريكا، كما يقدم قانون الهجرة الجديد الذي يبدأ سريانه في مطلع آذار/ مارس المقبل، حوافز عديدة تشمل تسهيل إجراءات الحصول على تأشيرات ومعادلة الشواهد المهنية والعلمية إضافة إلى متطلبات اللغة الألمانية. بينما يبدو أداء بلدان شمال إفريقيا إزاء العرض الألماني، متبايناً بشكل ملحوظ، كما يفتقد أي تنسيق على المستوى الإقليمي.
فراغ صادم!
على المستوى القانوني يبدو الأمر صادماً، إذ أن الخطب السياسية المتبادلة بين الأوروبيين ونظرائهم في جنوب المتوسط منذ سنوات، حول فتح فرص الهجرة الشرعية كسبيل لمكافحة الهجرة غير الشرعية التي تتسبب سنوياً في العديد من المآسي، لا ترافقها خطوات ملموسة في شكل اتفاقيات أو برامج لتنظيم هجرة اليد العاملة بشكل قانوني، ما عدا بعض الحالات المحدودة على غرار برامج الهجرة الموسمية لعمال الزراعة المغاربية إلى جنوب إسبانيا. أو مبادرات تقوم بها وكالات التنمية والتعاون الألمانيةGIZ والفرنسية في شكل برامج محدودة النطاق.
فناهيك عن بلدان مثل سوريا وليبيا التي تشهد حالة حرب أهلية، تشير تقارير غير رسمية في الجزائر بأن البلد فقد منذ سنة 1990 ما يناهز 100 ألف من كفاءاته في ميادين مختلفة، ولا يوجد حالياً اتفاق أو محادثات رسمية على الأقل مع ألمانيا، حول كيفية التعامل مع هجرة اليد العاملة الماهرة والكفاءات التي تقدر تقارير بأنها كلفت البلاد أكثر من 10 مليار دولار.
وليس الوضع بالنسبة لمصر أفضل حالاً، فوحده قطاع الصحة يشهد منذ سنوات نزيفاً كبيراً في كفاءاته الطبية، حيث هاجر ما يفوق 15 ألف طبيب في أمريكا وكندا وأستراليا، بحسب تصريحات للدكتور رشوان شعبان الأمين العام المساعد لنقابة الأطباء. كما كشفت نقابة الأطباء أن أكثر من 50 في المائة من المسجلين لديها هاجروا إلى الخليج أو إلى أوروبا.
ورغم هذه المؤشرات المثيرة للفزع لدى أوساط عديدة في مصر، لا يوجد اتفاق بين الحكومة المصرية ونظيراتها الأوروبية مثل ألمانيا حول هذه المعضلة التي تكبد مصر خسائر فادحة في التنمية وتتسبب في تراجع فرص العلاج لدى المواطنين.
وبدورها لا تتوفر دولتا المغرب وتونس على اتفاقيات أو تفاهمات مع نظيراتها الأوروبية حول الهجرة المنظمة، لكن فداحة نزيف هجرة الأدمغة والكفاءات من البلدين، دفعتهما للدخول في مفاوضات مع ألمانيا ودول الاتحاد الأوروبي حول صيغ جديدة لتنظيم هجرة الكفاءات بدل البقاء في كرسي المراقب للظاهرة. فتونس تأتي في الرتبة الثانية عربياً، بعد سوريا، حيث غادرها منذ اندلاع الثورة سنة 2011 حتى 2017، ما يفوق 94 ألفا من كفاءاتها (أعمارهم ما بين 24 و45 سنة)، وذلك بحسب إحصاءات منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية.
ويفقد المغرب بدوره، كفاءات في قطاعات حساسة بالنسبة للتنمية في البلاد، فقد أقر وزير التربية الوطنية والتعليم العالي المغربي سعيد أمزازي، بأن معدل هجرة المهندسين من المغرب تفوق 600 مهندس سنوياً. وبسبب الهجرة يفقد البلد سنويا 1200 ممرض، كما تتسبب هجرة آلاف الأطباء في تراجع الخدمات الصحية الضعيفة أصلا في البلد، حيث لا يتوفر سوى 8 أطباء و3 صيادلة لكل 10 آلاف مواطن، وهو مؤشر دون المعدل العالمي، بحسب المرصد المغربي لمنظومة التربية والتكوين.
ولا يكمن خلل غياب اتفاقيات تعاون في مجال هجرة الكفاءات من جانب واحد، كما يقول مسؤولون تونسيون ومغاربة، تحدثوا لـ DW عربية، بل إن “صعوبات عديدة” تواجه محاولات البلدين في التوصل إلى اتفاقيات في مجال الهجرة القانونية مع ألمانيا ودول الاتحاد الأوروبي. إذ تسعى تونس التي تحظى منذ ثورتها بدعم ألماني ملحوظ، للتوصل إلى اتفاق يؤمن حقوق مهاجريها من ناحية ويراعي مصالح البلد وتوازنه التنموي.
ومن جانبه طرح المغرب على ألمانيا ودول الاتحاد الأوروبي فكرة إطار جديد للشراكة في مجال حركة الهجرة والدراسة والتكوين Partnership Mobility، من أجل الخروج من دوامة الهجرة غير الشرعية، وفتح آفاق جديدة تشمل هجرة الكفاءات والطلبة وتنظيم مسألة التأشيرات. ويحاول المغرب إقناع شركائه الأوروبيين بضرورة التوصل إلى اتفاق، لأن هجرة الكفاءات إذا استمرت خاضعة فقط لمنطق العرض والطلب في السوق دون مراعاة ظروف تنمية بلدان الجنوب وتطور اقتصاداتها، فستضاعف من حدة الاختلالات الاقتصادية والاجتماعية في هذه البلدان وتتسبب في مزيد من عدم الاستقرار.
قبل فوات الأوان!
وفي ظل مؤشرات الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتفاوتة الدرجة في دول المنطقة، لا يبدو أن موجة هجرة الكفاءات ستتبدد على الأقل في المدى القصير. إذ تفيد دراسات واستطلاعات أجرتها مؤسسات دولية متخصصة، في المغرب والجزائر وتونس، بأن الرغبة في الهجرة إلى أوروبا أو إلى أمريكا الشمالية لدى خريجي الجامعات في هذه البلدان تفوق 70 في المائة، وأن نسبة الذين لا يعتزمون العودة بعد الهجرة تتراوح ما بين 25 إلى 40 في المائة.
وفي ظل الفراغ القانوني على مستوى الاتفاقيات الرسمية بين حكومات بلدان شمال أفريقيا وألمانيا أو شريكتها الأوروبية، تطفو على السطح في الآونة الأخيرة مبادرات عديدة في شكل شركات خاصة ووكالات تتولى عمليات التوسط في هجرة الكفاءات إلى ألمانيا. وهي مبادرات نابعة من منطق السوق وتحميها قواعد حرية التبادل التي تنص عليها اتفاقيات الشراكة والتبادل الحر التي وقعتها دول مثل المغرب وتونس مع الاتحاد الأوروبي. وفي بلد مثل مصر لديه تجربة قديمة في مجال الوكالات التي تتولى تسفير اليد العاملة إلى بلدان الخليج.
كما تتيح ثورة تكنولوجيا الاتصالات فرصاً كبيرة للشباب المؤهلين في الحصول عبر الإنترنت على عقود عمل وهجرة، إضافة لفرص أخرى عبر شبكات العلاقات الاجتماعية والعائلية التي تعززها اليوم مواقع التواصل الاجتماعي.
وهذا يطرح، برأي الخبراء، تحدياً كبيراً على طرفي المعادلة، حكومات بلدان الجنوب والدول المستقبلة للهجرة مثل ألمانيا وشريكاتها الأوروبية التي تكمن مصلحتها في استقرار جوارها في جنوب ضفة المتوسط وتحسين فرص العمل ومستوى العيش. فاذا كانت دول الجنوب، وبسبب عوامل كثيرة كالفساد والاستبداد وفشل سياسات التنمية، قد أضاعت فرصا في إقناع كفاءاتها بالبقاء في بلدانها والمساهمة في تنميتها، فيمكنها، على الأقل، الدخول على خط هجرة الكفاءات ومحاولة ترشيدها وتوظيفها على المدى البعيد لفائدة التنمية، من خلال الحفاظ على عوامل ارتباط بين الكفاءات المهاجرة وقطاعات التنمية التي يغادرونها في بلدانهم، وتمكينها من دعم بالخبرات والتكنولوجيا التي سيكسبونها في أكبر اقتصاد أوروبي.
ومن جانبها سيكون من مصلحة ألمانيا، الراغبة في استقبال عشرات الآلاف من اليد العاملة الماهرة والكفاءات، أن تحسن من قدراتها التنافسية في استقبال كفاءات من بلدان شمال أفريقيا، التي يفضل قطاع كبير منها التوجه إلى بلدان أوروبا الجنوبية أو أمريكا الشمالية، لأسباب متعددة منها اللغة وأنظمة العمل وحتى المناخ. ويعتقد خبراء بأنه إضافة إلى الحوافز التي يتضمنها قانون الهجرة الجديد، يمكن لألمانيا أيضا القيام بخطوات أكثر جرأة مثلا في ميدان تسهيل تعلم اللغة الألمانية وتحسين إجراءات تأشيرات السفر.
منصف السليمي (صحفي خبير في الشؤون المغاربية بمؤسسة دويتشه فيله) – DW[ads3]