محلل سياسي ألماني : من ليبيا إلى إيران .. الفشل يخيم على سياسة الاتحاد الأوروبي
في الوقت الذي بدأ فيه الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، التحرك لإرسال قواته إلى ليبيا، فإنه يعيد ضمنا التذكير بمدى عجز الاتحاد الأوروبي على صعيد السياسة الخارجية.
وفي حين أن حقائق الجغرافيا والمصالح تحتم تدخل القوى الأوروبية دبلوماسياً في الأزمة الليبية، فالواقع يقول إن تركيا وروسيا عازمتان على تقسيم ليبيا إلى مناطق نفوذ على غرار ما حدث في سوريا، وهو ما سيضر بمصالح الاتحاد الأوروبي، بحسب رؤية المحلل السياسي الألماني، أندرياس كلوت، في تحليله الذي نشرته وكالة “بلومبرج” للأنباء.
وفي حين يتصاعد التوتر بين إيران والولايات المتحدة بعد مقتل الجنرال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، في قصف جوي أمريكي لسيارته في العاصمة العراقية بغداد، يبدو أن الاتحاد الأوروبي ليس له أي دور مؤثر في الملف الإيراني.
والآن ينسحب حكام إيران تدريجيا من الاتفاق النووي الذي وقعوه عام 2015 مع 6 دول بينها أكبر 3 دول في الاتحاد الأوروبي وهى فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة.
ويقول كلوث، الذي شغل في وقت سابق منصب رئيس تحرير صحيفة “هاندلس بلات” الألمانية، إن الاتفاق النووي، الذي تم توقيعه بين إيران والدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي بالإضافة إلى ألمانيا، كان يعتبر أحد أكبر إنجازات السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، والآن يبدو أن الأمر كما لو كان تساهلاً جديداً في مسلسل السذاجة الأوروبية.
الحقيقة أن المصالح الحيوية للاتحاد الأوروبي في كل من ليبيا وإيران، باتت على المحك، على سبيل المثال، فإن ليبيا هي دولة فاشلة على بعد عدة أميال من السواحل الأوروبية.
وقد أصبحت مأوى لعصابات تهريب البشر والمهاجرين غير الشرعيين المتجهين إلى الاتحاد الأوروبي، كما أن مياهها الإقليمية تتماس مع المياه الإقليمية لليونان وقبرص وتركيا ودول أخرى تتنافس على حقوق التنقيب عن الغاز.
وبدلاً من أن يتخذ موقفاً دبلوماسياً موحداً تجاه ليبيا، نجد أن دول الاتحاد منقسمة في دعمها لأطراف الحرب الأهلية في ليبيا، فإيطاليا وهي القوة الاستعمارية السابقة لليبيا، تدعم حكومة رئيس الوزراء الليبي، فايز السراج، المعترف بها من جانب الأمم المتحدة، وهي الحكومة التي تدعمها تركيا.
في المقابل، تدعم فرنسا اللواء خليفة حفتر المدعوم من روسيا، وهذا مجرد مثال واحد على تجاهل السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي بشكل عام.
وهذا الضعف في السياسة الخارجية، يتناقض مع قوة الموقف الموحد للاتحاد في مجالات أخرى، فعلى الصعيد التجاري أصبح الاتحاد الأوروبي قوة عالمية عظمى بفضل مواقفه الموحدة، حتى لو أدى ذلك إلى التخلي عن بعض المصالح الوطنية للدول الأعضاء، وحتى الآن ما زالت قضايا السياسة الخارجية والدفاعية تعامل من منظور وطني بحت للدول الأعضاء.
من ناحية أخرى، يحاول الاتحاد الأوروبي الحديث بصوت دبلوماسي واحد، من خلال شخصية “الممثل الأعلى للشئون الخارجية والأمنية”.
ويشغل هذا المنصب حالياً الإسباني جوزيب بوريل، وهذا الشخص يدرك جيداً الحاجة إلى مزيد من الوحدة.
وحذر من أن الاتحاد الأوروبي قد يتحول من لاعب إلى ساحة للعب الآخرين في عالم تتبنى فيه الولايات المتحدة والصين وروسيا وتركيا وغيرها سياسة واقعية لا تعرف الهوادة .
لكن لا يوجد في يد بوريل الكثير ليفعله، أكثر من رئاسة اجتماعات وزراء دول خارجية الاتحاد، وهذه الاجتماعات لا تحقق الكثير، لأنه قرارات الاتحاد الأوروبي بشأن السياسة الخارجية لا بد أن يتم اتخاذها بالإجماع.
ونتيجةً لذلك يمكن لأي دولة حتى لو كانت صغيرة مثل مالطا استخدام حق النقض “الفيتو” لمنع صدور أي قرار، ففي يوم واحد من العام الماضي استخدمت إيطاليا حق الاعتراض لمنع صدور قرار بشان فنزويلا، وعرقلت دول أخرى صدور بيان بشأن انهيار اتفاق نووي بين روسيا والولايات المتحدة، ورفضت بولندا والمجر عرضاً مقدماً للدول العربية للتعامل مع ملف الهجرة غير الشرعية.
وبطبيعة الحال، فإن القوى الأخرى في العالم تستغل هذا الوضع، وعلى سبيل المثال، تمول الصين مشروعات ضخمة للبنية التحتية التي ترتبط بدول أعضاء في الاتحاد الأوروبي مثل البرتغال واليونان والمجر، كجزء من مبادرة “الحزام والطريق”، وهذه الدول الأوروبية عرقلت صدور بعض بيانات الاتحاد الأوروبي ضد الصين.
وأحد الحلول الواضحة لهذه المشكلة هو التخلي عن شرط الإجماع في صدور قرارات الاتحاد الأوروبي في مجال السياسة الخارجية، والاعتماد على “الأغلبية المؤهلة”.
وهناك مقترحات قائمة في هذا الشأن، وفي حال تبني مثل هذه المقترحات سيكون في مقدور الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات، أو إرسال بعثات عمل مدنية، أو إصدار بيانات تتعلق بأوضاع حقوق الإنسان في دولة ما، إذا وافق 55% من الدول الأعضاء بالاتحاد، بحيث تضم ما لا يقل عن 65% من سكان الاتحاد، مع الإبقاء على قرار نشر القوات الأوروبية في الخارج في يد الدول الأعضاء.
ويرى معارضو هذه المقترحات أنها ستمثل تقليصاً جديدا للسيادة الوطنية لدول الاتحاد، حيث ستتجاهل الدول الكبرى آراء الدول الأصغر، وهو ما سيعزز موقف التيارات الشعبوية الرافضة للاتحاد الأوروبي، بما يهدد تماسك الاتحاد.
ولكن المؤيدين لمقترح التصويت بالأغلبية، يرون أنه سيحمي الدول الصغيرة، من الضغوط الخارجية الصينية أو الروسية.
وقبل كل ذلك، فإنه سيجعل الاتحاد الأوروبي أقوى، وبالتالي فإن التصويت بالأغلبية يمثل بداية ضرورية لإصلاح السياسة الخارجية للاتحاد.
ورغم ذلك، فهذا ليس حلاً لكل مشكلات الاتحاد على صعيد السياسة الخارجية لآن الدول الأعضاء تواصل تجاهل أي قرارات أو سياسات يتم إقرارها إذا لم تعجبها، وهى تفعل ذلك طوال الوقت، بحسب كولت.
وهذه الممارسات تقوم بها دول تدعي عادة أنها تحترم التحرك الجماعي للاتحاد، مثل ألمانيا، فالمفوضية الأوروبية والبرلمان الأوروبي وأغلب دول الاتحاد تعارض مشروع خط أنابيب الغاز بين روسيا وألمانيا المعروف باسم “نورد ستريم 2” أو “تيار الشمال 2” الذي يمر عبر بحر البلطيق.
والمفوضية والبرلمان وهذه الدول ترى أن الخط يزيد اعتماد أوروبا على الغاز الروسي، ويلحق الضرر بدول شرق أوروبا التي يمر عبرها الغاز الروسي حاليا.
ولكن ألمانيا، وبسبب ميل الحزب الاشتراكي الديمقراطي المشارك في الائتلاف الحاكم بألمانيا، تضغط من أجل المضي قدماً في الخط رغم الاعتراضات.
هذا الاختلاف الجذري في النظر إلى العالم وتهديداته، هو نصف المشكلة، أما النصف الآخر، فهو إنكار سياسة القوى كتلك التي تحولت إلى نظام لعمل الاتحاد الأوروبي باعتباره مشروع سلام “لما بعد مرحلة الدولة الوطنية”.
في المقابل، فإن التوجهات السياسية في العالم الآن تتحول من المثالية إلى الواقعية ومن التحرك متعدد الأطراف إلى التحرك الأحادي ومن القوة الناعمة إلى القوة الخشنة.
والقوى الجيوسياسية المنافسة للاتحاد الأوروبي مثل الصين والولايات المتحدة تتعامل مع القوة من منظور كمي، يمتد من التجارة إلى العملة والتكنولوجيا والاستثمار والهجرة والطاقة وصولا إلى حاملات الطائرات والصواريخ، ثم الطائرات المسيرة، كتلك التي استخدمتها أمريكا في قتل الجنرال سليماني.
وقال رئيس وزراء هولندا، مارك روته، إنه “إذا اكتفينا بالوعظ عن المبادئ المجردة وابتعدنا عن ممارسة القوة، فإن قارتنا قد تكون دوما على صواب، لكنها نادراً ما سيكترث بها الآخرون”.
وبالفعل، باتت القوى الكبرى تتجاهل الاتحاد الأوروبي في ملفات إيران والعراق والخليج ككل؛ ففي ظل تصاعد التوتر في المنطقة يدعو الاتحاد الأوروبي كافة الأطراف إلى “ضبط النفس”، كما يفعل دائماً، لكن قرارات الحرب والسلام تتخذها أطراف أخرى بعيدا عن الاتحاد.
وفي ليبيا التي ظلت ساحة لصراع طويل بين الأوروبيين والعثمانيين، يغيب الاتحاد الأوروبي عن الساحة.
ومنذ تشرين الثاني الماضي تقوم تركيا بتسليح حكومة فايز السراج، في المقابل وقع السراج اتفاقية لترسيم الحدود مع تركيا، يمكن تعرقل مشروع خط لأنابيب الغاز بين إسرائيل وقبرص واليونان.
والآن يرسل أردوغان قواته إلى ليبيا، ويشير إلى رغبته في التوصل إلى اتفاق مع روسيا بشأن ليبيا عند لقائه مع نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، خلال الأسبوع الحالي، كما حدث بينهما بشأن سوريا، مثل هذا السيناريو يمنح تركيا السيطرة على اثنين من أهم معابر الهجرة غير الشرعية إلى الاتحاد الأوروبي.
بعبارة أخرى، من إيران إلى ليبيا، يتكرر فشل الاتحاد الأوروبي في حماية مصالحه بأي صورة يمكن تخيلها. (DPA)[ads3]