اتفاق إدلب .. و الأحلام الأوهام

توقّف القتال إذًا فى محافظة إدلب، ربّما مؤقّتا. وتجنّبت روسيا وتركيا، كما كان متوقّعا، أن تصعّدا مواجهتهما العسكريّة، التى أضحت مباشرة أكثر فأكثر. لم ينفرط «الودّ» الروسيّ ــ التركيّ على عكس ما توقّعه الكثيرون. بل اتفق البلدان على صيغةٍ من أبرز ملامحها بقاء الجيش التركى متواجدا بشكلٍ ملحوظ ضمن أراضى المحافظة السوريّة. ما يشكّل سابقةً مقارنةً مع ما جرى فى شمال حلب وعفرين وتل أبيض. فى تلك المناطق، جعل الجيش التركى فصائل مشكلّة من سوريين تقوم بإدارة الأرض أمنيّا وعسكريّا وإن بإدارة ورقابة صارمتين من تركيا.

الأمر الآخر البارز فى الاتفاق هو تسيير دوريّات مشتركة روسيّة ــ تركيّة على الطريق السريع حلب ــ اللاذقية، المسمّى M4، بين سراقب وجسر الشغور. وهذا الطريق يسلك مناطق ذات تضاريس جبليّة يتمركز فيها الجهاديوّن بشكلٍ أكبر من مناطق محافظة إدلب الأخرى. فكيف ستتعامل هذه الدوريّات المشتركة إذا ما تمّت مهاجمتها من قبل الجهاديين؟

الأمران البارزان يحتويان ضمنًا توجّهًا بحدوث احتمال صدام مباشر بين الجيش التركى وجهاديى «فتح الشام» (النصرة سابقا) وغيرهم من الأيغور الآتين من الصين.

لقد نزحت أغلبية السكّان عن المناطق التى تقدّم إليها الجيش السوريّ وحلفاؤه. وتدفّق أكثر من تسعمائة ألف نازح على المناطق الحدوديّة مع لواء الإسكندرون، المكتظّة أصلا بالنازحين. لم يسمح لهم بالذهاب إلى مناطق الباب وعفرين، وهم لا يريدون العودة إلى المناطق الخاضعة للسلطة القائمة فى سوريا.

هكذا أضحى مئات الآلاف من السوريين يعيشون أزمة إنسانيّة قاسية حيث تتقاذف مصائرهم وأحوال قوتهم اليوميّ ألاعيب الدول ومساعداتها. وبانتظار مآلات الاتفاق الروسي ــ التركى واحتمالات عودة المعارك من جديد.

الوضع الجديد الذى خلقته المعارك الأخيرة والاتفاق الروسي ــ التركى له تداعياته أيضا على الصعيد السياسيّ السوريّ. فى سياق تمّ الترويج فيه للا مركزيّة إداريّة وكذلك سياسيّة فى منظور التحضيرات للتفاوض حول دستور سوريّ جديد. ولم تعنِ هذه اللا مركزيّة للكثيرين مجرّد منح المجالس المحليّة المنتخبة صلاحيات فى إدارة موازنات مناطقها، بلديات كانت أم محافظات، وسبل تنميتها وكسر حصر جميع السلطات التنفيذيّة فى محافظٍ تسمّيه السلطة المركزيّة، كما هو الحال فى أوروبا مثلا. بل عنت ضمنيّا أيضا لا مركزيّة سياسيّة تقرّر علاقاتها الدولية وتضع أسسا تشريعيّة مختلفة وترفع علما غير ذلك المرفوع فى مناطق أخرى. أى أن يتمّ دستوريّا ترسيخ الأمر الواقع القائم على الأرض حاليّا فى مناطق الشمال الشرقى مع سيطرة «قسد»، وما كان متواجدا حتّى المعارك الأخيرة فى محافظة إدلب وجزء من محافظة حلب تحت سيطرة «حكومة الإنقاذ»، وكذلك الواقع الآخر فى ريف حلب الشمالى.

كما قوّضت العمليّة المسمّاة «نبع السلام» إمكانيّات لا مركزيّة سياسيّة ذات معنى فى الشمال الشرقى حيث أتت المعارك الأخيرة والعمليّة المسمّاة «درع الربيع» والاتفاق الروسي ــ التركى لتقويض آمال لا مركزية سياسيّة فى الشمال الغربى.
هذه الرؤية السياسيّة للا مركزيّة لم تأتِ من فراغ، بل من انفصامٍ بين السوريين خلقته الحرب وطول أمدها، وكذلك ممارسات السلطة القائمة و«استثمارات» الدول المتلاعبة. وتعمّق هذا الانفصام فى الأذهان كى يشكّل عائقا لإنتاج أيّة صيغة توافقيّة حول اللا مركزيّة فى مسار جنيف على الأمد القريب. هذا حتّى لو جرى التوافق على مرحلة انتقالية للسلطة المركزيّة كما ينصّ عليه قرار مجلس الأمن 2254. وأخذ الانفصام إلى أبعد من قضيّة التمسّك بنظام أو إسقاطه. لقد ترسّخ فى ذهنيّات السوريين فى كلٍّ من مناطق الأمر الواقع عدم الإحساس بأوجاع السوريين المتواجدين فى المناطق الأخرى. لا هؤلاء يهتمّون للضائقة الاقتصاديّة الشديدة التى يعيشها أولئك، ولا أولئك يهتمّون بتشريد هؤلاء. هؤلاء يحيّون روسيا التى تؤازرهم وتحميهم، وأولئك تركيا والآخرون الولايات المتحدة.

كسر هذا الانفصام فى الذهنيّات يُمثّل مسئوليّة سياسيّة كبيرة على السوريين وخاصّة نخبهم تحمّلها. إن الانتقال السياسيّ لن يتمّ دون هذا الكسر. فالدول صاحبة المصالح تتلاعب عليه وكذلك السلطة القائمة. فأغلبيّة السوريّين ما زالوا يحلمون باستعادة دولة موحّدة رشيدة وعادلة مسئولة عن جميع السوريين تحمل على عاتقها إخراجهم جميعهم من مصائبهم الحالية.

السلطة السوريّة مسئولة عن فتح السبل لعودة نازحى مناطق إدلب إلى منازلهم، مستفيدةً من دروس ما سمّته «مصالحات» ومن ممارساتها التعسفيّة فى مناطق أخرى عادت إلى كنف الدولة. و«المعارضة»، وخاصّة من تمّ تعيينه لتمثيل السوريين للتفاوض، مسئولة كذلك عن مواقف هؤلاء تجاه هذا الانفصام وعن الآمال/الأوهام الواهية التى يخلقونها لدى السوريين، كما فى بداية النزاع، حول التدخّلات الخارجيّة. وكذلك هو الأمر لمن تمّ تصنيفه كمجتمعٍ مدنيّ.

المسئوليّة هى رسم واقع السوريين اليوم كما هو. وليس التهجّم على هذه الدولة الفاعلة فى سوريا… أو محاباة تلك.

سمير العيطة – الشروق المصرية[ads3]

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي عكس السير وإنما عن رأي أصحابها

‫2 تعليقات

  1. سوريا تفككت وسوف تقوم السلطنة العثمانية مرة أخرى وتفتك بالأكراد والمسيحيين والعلويين والأرمن.
    الضبع العثماني قادم والكثير من السوريون يصفقون له ويصيحون “تكبيييييير”

  2. ما لم ينفذ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 (الذي تمّ الاتفاق عليه بالاجماع) بكافة بنوده، ستبقى الحلول التي نسجها الروس في سوتشي وأسيتانة غير دائمة وستستمر مأساة سورية والشعب السوري. ذلك لأنه لا يوجد ضامن حقيقي لما يتم التوصل اليه خارج إطار قرار مجلس الأمن المذكور آنفاً. تباً لك من يتغاضى عن هذه الحقيقة التي سيبقى الشعب السوري ، موالاة ومعارضة، ضحيتها دون شفقة من أحد.