كيف تصارع الماكينات الألمانية وباء كورونا بنجاح ؟
يواصل اختبار وباء كورونا المستجَد امتحانَه الصعبَ البشرية، ويستمر عداد مصابيه وضحاياه في التحرك بجنون، محققاً مع مطلع أبريل/نيسان 2020م رقم المليون إصابة مؤكدة، من بينهم ما يقارب 50 ألف وفاة.
رغم أنه ليس بمقدورِ أحدٍ أن يعرفَ على وجه الدقة متى سينتهي هذا الامتحان العسير، وماذا ستكون نتائجه النهائية، فإنه رغم ذلك، قد أصبح ظاهرًا لمن يُراقب على كثب، من تحملوا النصيب الأكبر من الفشل المؤلم في هذا الامتحان ولا يزالون، ومن خرجوا منه بأقل الخسائر، وكذلك من على وشك حصاد بعض المكاسب، مثل الصين، التي تمكنت – وفق أرقامها الرسمية، وآراء الكثير من المتابعين – من السيطرة على البؤرة الكبرى الوباء في ووهان، وأصبحت تسجل أقل من 100 حالة يومياً، وعدداً محدودًا من الوفيات، وبدأت الحياة الطبيعية والإنتاج يعودان تدريجيًا في معظم أرجائها، وبدأت تُصدّر وتَهَب من فائض المستلزمات الطبية لديها إلى كافة دول العالم.
يصعب القول إن ألمانيا حققت مكاسب قصيرة المدى من وباء كورونا كحال الصين، إذ لا يزال الوباء نشطًا في أراضيها، وما زال مرشحًا للتمدد أكثر، لكن من الجليّ أن جهود ألمانيا قد نجحت حتى الآن في تحجيم الخسائر البشرية من هذا الفيروس، كما أثبتت أنها تمتلك واحدة من أرسخ المنظومات الصحية في العالم المتقدم، ولا شك أن استمرارها بنفس الأداء ضد وباء كورونا خلال الأسابيع المقبلة، سيؤكد أن صدارتها لأوروبا لم تأتِ من فراغ، وإن لقب الماكينات الألمانية حقيقة لا مجاز.
الأرقام في صف الألمان
رغم كون ألمانيا من أبرز الدول التي تعاني من تفشي وباء كوفيد-19، إذ في مطلع أبريل/نيسان 2020م، أصبحت تحتل المركز الرابع في عدد الإصابات الكلي بنحو 90 ألف إصابة، فإنها تتراجع للمرتبة العاشرة في عدد الوفيات الكلى، والذي يبلغ نحو 1300 حالة.
جعل هذا معدل الوفيات في ألمانيا من مجمل الحالات نحو 1.35% وهو من أقل المعدلات في العالم، والأقل بين دول أوروبا الكبرى المنكوبة مثل إيطاليا التي قارب فيها 12% والمملكة المتحدة 10% وإسبانيا 9% وفرنسا 8%. وهو كذلك يقارب ثلث معدل الذي أعلنته منظمة الصحة العالمية أوائل مارس/آذار والذي بلغ 3.4% والذي يمثل نفس معدل الصين تقريبًا، وأقل من ربع المعدل الحالي للعالم والذي تجاوز 5%.
فما الذي نجح فيه الألمان، ورسب فيه الآخرون؟!
أهم ما تميزت به المعركة الألمانية ضد الوباء
كان أداء الإدارة الألمانية بوجهٍ عام، والمنظومة الصحية بوجهٍ خاص، في التعامل مع تلك الأزمة، أشبه بحال الطلاب المتفوقين الذي يذاكرون طوال العام جيدًا، ولا ينتظرون للأيام الأخيرة قبل الامتحان لكي يقوموا بالجهدِ الأكبر كما يفعل معظم الطلاب، ولذا، فمهما جاء الامتحان عسيرًا، يستطيعون تحصيل أكبر قدرٍ ممكن من الدرجات.
ولذا، فرغم كون التركيبة العمرية السكانية في ألمانيا مشابهة لمعظم أوروبا، حيث نصف الشعب على الأقل من الكهول وكبار السن، فالعمر الوسيط في ألمانيا 46 عامًا، وانتشارِ الفيروس بكثافة بين عشرات الآلاف من الألمان، فكانت أعداد ونسب الوفيات أفضل بكثير من نظرائها من الدول المتقدمة، والتي أثبتت التجربة المؤلمة الحالية أن قطاعاتها الصحية المتطورة مؤهلة بالكاد لتحمل الظروف الصحية المعتادة بكفاءة، ولذا فلا عجب أن انهارت في أيامٍ قليلة تحت وطأة مئات الحالات اليومية الخطيرة التي سبِّبها الكوفيد-19، وهو ما لم يحدث في ألمانيا.
في النقاط التالية، سنعرض أبرز ما فعلته ألمانيا في مواجهة الوباء الحالي.
1. الشفافية
كواحدة من أهم الديمقراطيات في العالم، أوضح المسؤولون الألمان للشعب حقيقة الموقف من اللحظة الأولى. في تصريح شهير وصادم للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في 11 مارس/آذار 2020م، ذكرت أنّه من المتوقع أن يُصاب بفيروس كورونا المستجد بين 40 و70% من الألمان، نظرًا لعدم وجود مناعة سابقة ضده، وأنه في غضون 3 أشهر قد يبلغ عدد الألمان المصابين بالفيروس 10 ملايين. تلك الحقائق الصادمة وضعت الشعب الألماني في الصورة منذ اللحظة الأولى.
كذلك حرصت الإدارة على أن تكون نموذجًا في تطبيق القواعد على نفسها، فعزلت ميركل نفسها أسبوعين بعد مخالطتها حالة إيجابية، ولم تغادر حجرها الصحي المنزلي إلا بعد 3 عينات سلبية من تحليل الفيروس، وكانت وسائل الإعلام الألمانية والعالمية على اطلاع بكافة تفاصيل الأمر منذ اللحظة الأولى في شفافية تامة. وقبل ذلك في مؤتمراتها الصحفية، كانت ميركل تحرص على تقليل تجمع الصحفيين، ووجود مسافات آمنة بين مقاعدهم.
وهكذا ومنذ البداية، كانت القيادة الألمانية، وعلى رأسها المستشارة ميركل، على قدر المسئولية قولًا وفعلًا، فلم تضلل الناس، ولم تُضِع أوقاتًا حاسمة كما فعل الرئيس الأمريكي ترامب، والذي تأخر كثيرًا في أخذ الأمر بجدية، نظرًا لحساباته الاقتصادية الضيقة، بل وتسبب بعض تصريحاته ومواقفه في اضطراب في جهود مكافحة الوباء، مما جعل الولايات المتحدة تتصدر دول العالم في عدد الحالات المصابة بنحو 300 ألف، توفي منهم ما يقارب 8 آلاف حتى يوم 4 أبريل/نيسان 2020م.
2. واحدة من أفضل منظومات الرعاية مركزة مُجَهَّزة في العالم
وفق أرقام السبت 4 أبريل/نيسان 2020م، اقترب عدد الإصابات الكلي في ألمانيا من مائة ألف، شُفي منهم أكثر من 27 ألفًا، بينما بلغت الوفيات أكثر قليلا من 1300. وهناك أكثر من 60 ألف إصابة خفيفة حالية لا تحتاج إلى الحجز بالمشافي.
رغم مئات الحالات الخطيرة الجديدة يوميًا، ووجود نحو 4 آلاف حالة حرجة مصابة بفيروس كوفيد-19 بالفعل، والتي تحتاج إلى رعاية مركزة، ودعمٍ تنفسي وصولاً إلى أجهزة التنفس الصناعي، والرئات الصناعية البديلة خارج الجسم ECMO، فالمنظومة الصحية الألمانية ما تزال تعمل بكفاءة تحت هذا الضغط الشديد، فقبل الأزمة الحالية، كانت ألمانيا بالفعل تملك عددًا جيدًا من وحدات الرعاية المركزة جيدة التجهيز، بطاقة تقترب من 28 ألف سرير، ونحو 25 ألف جهاز تنفس صناعي، وهي أعداد مناسبة لعدد السكان البالغ نحو 82 مليون نسمة.
بالمقارنة بباقي الدول الأوروبية، نجد لدى إيطاليا قبل الأزمة الحالية 5 آلاف سرير رعاية، تخدم 60 مليون إيطالي، وكذلك لا تملك فرنسا سوى 5 آلاف جهاز تنفس صناعي فحسب، ولذا فلا غرو أن سجلت فرنسا 2500 حالة وفاة بالكوفيد-19 خلال يومي 2 و3 أبريل فحسب، وهو ضعف وفيات ألمانيا منذ بدء الوباء.
وما تزال الدولة الألمانية مستمرة على مدار الساعة في جهود توفير الآلاف من أسرة الرعاية المركزة الجديدة، تحسبًا لتفاقم الوباء، وكذلك دعمها بالكوادر الطبية الإضافية التي دربت على عجل للتعامل مع الحالات الطارئة لتخفيف الأعباء عن الطواقم الطبية الحالية، وتقتضي الخطة الألمانية مضاعفة عدد أسرة الرعاية المركزية خلال الشهور القادمة.
كذلك طلبت الحكومة الألمانية من عملاق تصنيع أجهزة التنفس الصناعي، شركة دريجر الألمانية، لتوفير أكثر من 10 آلاف جهاز تنفس صناعي جديد حتى أواخر العام الحالي 2020م، لتسجل الشركة تصاعدًا شديدًا في الطلب على منتجاتها، ليس من الداخل فحسب، إنما من الكثير من دول العالم.
هذا الفائض النسبي في قدرات الرعاية الحرجة، مكّن ألمانيا ابتداءً من أواخر مارس أن تستقبل بعض الحالات الحرجة من إيطاليا وفرنسا، والتي بلغت حتى 2 أبريل/نيسان أكثر من 113 حالة، معظمهم من فرنسا. كما أرسلت ألمانيا 7 أطنان من المساعدات الطبية إلى إيطاليا.
3. حلِّل ثم حلِّل ثم حلِّل أكثر
اعتمدت ألمانيا طريقة كوريا الجنوبية الناجحة في توسيع دائرة التحليل، وذلك لاكتشاف أكبر عدد من المصابين، ومن بؤر الانتشار، وذلك لعزلها مبكرًا، وأيضاً للتعرف على الحجم الحقيقي لانتشار المشكلة، على عكس بعض البلدان الأخرى التي تضع شروطًا شبه مستحيلة لإجراء التحاليل حتى على المخالطين، وذلك لتقليل حجم انتشار الوباء ظاهريًا.
حتى يوم 29 مارس/آذار، كانت ألمانيا قد أجرت على الأقل أكثر من 900 ألف تحليل للفيروس، مما يجعلها في تنافس شرس مع الولايات المتحدة الأمريكية في تصدر قائمة دول العالم في هذا المضمار، ورفعت قدرة معاملها لأكثر من 50 ألف تحليل يوميًا، وصولا إلى ما يقارب نصف مليون تحليل أسبوعيًا. وأنشِئت لهذا الغرض المئات من منافذ التحليل في الشوارع والميادين والتي يمكن من خلالها للناس إجراء التحليل وهم في سياراتهم، دون الحاجة لاختلاط طويل مع العاملين الصحيين، أو لإضاعة الوقت سدى.
أكدت السلطات في ألمانيا أنها تعمل على مدار الساعة لرفع قدرة التحليل الكلية في البلاد خلال الأيام المقبلة إلى 200 ألف تحليل يوميًا، وهو ما تحاول الولايات المتحدة – متأخرًا – تطبيقه هي الأخرى لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
أثبتت تجربة الأسابيع الماضية أن طريقة الاعتماد على التوسع في التحليل، والتي طبقتها كل من كوريا الجنوبية وألمانيا، قادرة على احتواء انتشار الوباء بأقل قدر من تطبيق الإغلاق والحجر الواسع، والتضييق على حريات الناس في الحركة والتجمع، حيث تقتصر الإجراءات الاستثنائية الصارمة على البؤر المحلية المصابة، بينما لم يطبق البلدين الإغلاق التام حتى الآن كما فعلت إيطاليا وفرنسا، واللتان ما تزالان عاجزتين بعد أكثر من أسبوعين من هذا الإجراء عن السيطرة على ذروة الوباء.
4. محاولة رشيدة لعودة الحياة تدريجياً
لا شك أن حالات الإغلاق الكلي والجزئي التي دخلت فيها معظم مناطق العالم سيكون لها تبعات كارثية على حياة الناس، وعلى الاقتصاد الجزئي والكلي، المحلي والعالمي. ولن تقل الخسائر البشرية والمادية المباشرة وغير المباشرة لهذا التعامل الإجباري مع الوباء، عما أحدثَهُ ويحدثُه وسيحدثه الوباء نفسه. ولذا فالسعي نحو عودة الحياة الطبيعية في أقرب وقت تسمح به حالة السيطرة على الوباء هو توجه سليم من حيث المبدأ، وإن كمُن الشيطان في الكثير من تفاصيله.
تتجه ألمانيا إلى توسيع دائرة تحليل الأجسام المضادة لفيروس كوفيد-19، والذي يعرف بالتحليل السريع، حيث بدأت في توفيره في شكل سهل التعامل يشبه تحليل الحمل المشهور، والهدف من ذلك هو تحديد الأشخاص الذين أخذوا العدوى بالفعل، وحققوا شفاءً تامًا، وأصبح لديهم على الأرجح مناعة ضد الفيروس، وإعطاء هؤلاء شهادة موثقة بذلك، لتسهيل عودتهم إلى العمل والإنتاج، لا سيّما من الأطباء والتمريض.
من المعلوم أن هناك نوعين من الأجسام المضادة ينتجهما جهاز المناعة في الإنسان عند الإصابة بالفيروس، النوع الأول هو IgM والذي يظهر مبكرًا خلال أيام معدودة من ظهور الأعراض، ويعني وجوده في الدم أن هناك إصابة قائمة بالفيروس، وأن جهاز المناعة يخوض حربًا ضدها. أما النوع الثاني، فهو IgG، والذي يبدأ ظهوره في الدم بعد أسبوعين فأكثر من العدوى، ووجوده يعني أن المريض آخذ في التعافي، وأن جهاز مناعته قد سجل تلك السلالة من الفيروس، وأصبح في الأغلب يمتلك مناعة ضدها، وإن كان غير معلوم إلى الآن إلى أي وقت ستستمر تلك المناعة الطويلة لدى الشخص.
ومن المنتظر خلال شهر أبريل الحالي أن تعمم السلطات الألمانية هذا التحليل، بطاقة تبلغ 100 ألف تحليل يومياً، وتحاول بريطانيا القيام بنفس الأمر، وذلك لمساعدة العديدين ممن حصلوا بالفعل على مناعة من الفيروس على سرعة مغادرة الحجر الصحي، والعودة لأعمالهم.
خاتمة
إن تسليط الأضواء على التجارب الناجحة في مواجهة هذا الخطر العالمي المشترك ليس رفاهية، أو تزجية للوقت تهدف إلى مصمصة الشفاه، والتحسر على الحال، إنما هو من واجبات الوقت الفردية والجماعية. وشاهدنا كيف أن تجربة ألمانيا في جوهرها هي تكرار لتجربة كوريا الجنوبية الناجحة التي بدأت قبل أسابيع، والتي كانت قبل شهرين البؤرة الثانية بعد الصين، وأوشكت الآن أن تخرج من نادي العشرين الأوائل في انتشار الوباء، مسجلة أقل من 11 ألف حالة رغم أنها أجرت ما يقارب نصف مليون تحليل، واقتصرت الوفيات على أقل من مائتي حالة فقط حتى يوم 4 أبريل/نيسان 2020م.
محمد صلاح قاسم – إضاءات[ads3]