الإنقاذ الصعب .. هل بمقدور القاطرة الألمانية إخراج أوروبا من كبوتها الاقتصادية؟

الاقتصاد الأوروبي في أزمة، لم يكن الوضع عظيما قبل جائحة كورونا، لكن بلا شك فإن تفشي الفيروس في أوروبا والضربات العنيفة التي وجهها إلى الاقتصاد الأوروبي زادت الطين بلة، ودفعت إلى التساؤل: هل يمكن لألمانيا أن تنقذ الاقتصاد الأوروبي مما وصل إليه؟
قد تكمن إجابة هذا التساؤل في سؤال آخر أكثر منطقية: لماذا يجب أن تتحمل ألمانيا دور القاطرة وتجذب قطار الاقتصاد الأوروبي إلى محطة أكثر استقرارا، على الرغم من أن الخبراء يؤكدون أن عديدا من عربات هذا القطار في أمس الحاجة إلى الإصلاح وإعادة الترميم؟ وحتى إذا قررت ألمانيا القيام بتلك المهمة فهل هي قادرة فعلا عليها، وما التكلفة، وما الثمن الذي ستطالب به لتقوم بهذا الإنقاذ الصعب، وهل سيقبل الآخرون دفعه، وحتى إن رغبوا فهل هم قادرون على السداد؟

في الواقع كثير من المؤشرات القادمة من ألمانيا يكشف عن مزاج قاتم يسود بين قادة الصناعة الألمانية، فالبلاد تواجه أسوأ ركود في تاريخها في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ومعدلات البطالة مرتفعة والصادرات متراجعة، والصناعات التحويلية في وضع يرثى له.
لكن القيادة الألمانية لا يبدو مزاجها بهذا السوء، وتتبنى نهجا يتسم بالثقة بقدرة الاقتصاد الألماني، لكنها ثقة حذرة، وقد رصدت من بين ما رصدت 130 مليار يورو حوافز حكومية لإنعاش نشاط الأعمال.

ولا تبدو ثقة المسؤولين الألمان مبنية على فراغ، فلها ما يبررها على أرض الواقع، فألمانيا أكبر اقتصاد أوروبي، وحتى عندما ساء أداء الاقتصادات الأوروبية الأخرى لم يكن الاقتصاد الألماني بدرجة السوء نفسها، بل اتسم في عديد من اللحظات بمعدلات نمو مرتفعة في وقت كان يعاني فيه جيرانها الأوروبيون الانكماش، كما أن ألمانيا كان لديها حالات إصابة ووفاة نتيجة فيروس كورونا أقل بكثير من الدول الأوروبية الكبرى الأخرى.

ويعتقد الدكتور توماس أكتون أستاذ الاقتصاد الأوروبي أن ألمانيا تمتلك كل المقومات لإنقاذ الاقتصاد الأوروبي من محنته الراهنة، ويبني تقديراته على الطريقة التي استجابت بها الحكومة الألمانية للتعامل مع أزمة كورونا.

ويقول لـ”الاقتصادية”، “الطريقة التي تفاعلت بها ألمانيا مع الأزمة كانت تعكس قدرة اقتصادية متفوقة وأكثر تماسكا مقارنة بباقي الدول الأوروبية، تلك القدرة المالية خاصة الاحتياطي المالي، سمحت لها بضخ سيل من الأموال لتخفيف حدة الأزمة، إذ قدمت الحكومة الألمانية حزمة مساعدات كأجراء طارئ في بداية تفشي الفيروس قدرت بـ1.3 مليار يورو للشركات، وحد ذلك من حالات الإفلاس وسيطر على معدلات البطالة”.

ويضيف “لم تمر ألمانيا بالاضطرابات التي تعرضت لها إيطاليا وفرنسا، ففترة الإغلاق ونطاقه لم يكونا بالعمق ذاته أو الطول مقارنة بدول مثل إسبانيا أو إيطاليا، لكن للعملة وجها آخر، فلم يكن الإنقاذ الاقتصادي من جانب واحد، إنما أيضا أسهمت الشركات الألمانية الصغيرة والمتوسطة الحجم بفاعلية في مواجهة الأزمة، عبر تغيير النشاط الاقتصادي لدعم الخطة الحكومية”.

مع هذا يرى بعض الخبراء أن ألمانيا – على الرغم مما تتمتع به من قدرات ومزايا اقتصادية – يصعب عليها إخراج الاتحاد الأوروبي من أزمته الراهنة، لعديد من الأسباب.

يشير الباحث الاقتصادي مارتلن رامبلنج إلى أن عمق الأزمة الاقتصادية في دول الاتحاد الأوروبي يجعل من الصعب على ألمانيا أن تقوم بدور القاطرة الاقتصادية، إذ إن التقديرات الأخيرة للمفوضية الأوروبية تتوقع أن ينكمش اقتصاد الاتحاد الأوروبي هذا العام بنحو 8.3 في المائة، وهو أسوأ من المعدلات المتوقعة قبل شهرين، والنمو المقدر تحقيقه العام المقبل سيكون أقل من المرجح سابقا.

ويشير مارتلن رامبلنج إلى أن الوضع سيكون أسوأ في منطقة اليورو والانكماش يقدر بـ8.7 في المائة لهذا العام، والحديث عن موجة ثانية من الوباء يزيد من تدهور الوضع، وبالفعل بعض المناطق المحيطة بمصانع ألمانية لتعبئة اللحم فرض فيها الإغلاق مرة أخرى، واحتمالات الإغلاق المستقبلية ما زالت مجهولة في ألمانيا والدول الأوروبية.

ربما يكون اتساع نطاق الأزمة الاقتصادية الأوروبية أكبر من قدرة ألمانيا على تحمل تكلفة إخراج الأوروبيين من الوضع المتراجع الذي يمرون به، ويصعب مهمتها، فالاقتصاد الألماني نفسه في وضع صعب، وعلى الرغم من أن الضائقة الاقتصادية الألمانية أقل حدة من دول مثل إيطاليا وإسبانيا وفرنسا، فإن الناتج المحلي الإجمالي الألماني سينخفض بنسبة 6.5 في المائة هذا العام.

كما سيتراجع الإنتاج الصناعي إلى أدنى مستوى منذ عقدين، ويتوقع أن ترتفع البطالة أكثر في الأشهر المقبلة إلى نحو 2.72 مليون مقابل 2.27 مليون عاطل عن العمل العام الماضي، وفي دولة يعتمد اقتصادها على التصدير فإنه يقف على حافة الهاوية، خاصة مع تزايد الروح الدولية المعادية للعولمة، ومع تحليق رايات الحروب التجارية عاليا، كما أن إجمالي الصادرات الألمانية انخفض في غضون شهر واحد تحديدا في أبريل الماضي بنسبة 31 في المائة.
وتعلق ديزي روا الخبيرة الاستثمارية قائلة “علينا ان نتذكر أن جزءا من الازدهار الاقتصادي الألماني هو وليد نجاح التجربة الصينية ومطالبها التي لا تنضب من السيارات والآلات الألمانية، النجاح الاقتصادي الصيني دعم الاقتصاد الألماني في الأعوام العشرة الماضية”.
وأضافت “لكن الربع الأول من هذا العام ونتيجة وباء كورونا شهد للمرة الأولى تقلصا في معدلات نمو الاقتصاد الصيني، ومن المشكوك فيه حتى الآن أن ينمو الاقتصاد الصيني هذا العام، حتى إن نما فإن الاقتصاد الصيني لن تكون له الجاذبية ذاتها التي تمتع بها قبل عشرة أعوام عندما وقعت الأزمة الاقتصادية”.

وأشارت إلى أنه مع هذا يمكن القول “إن ألمانيا تمتلك قدرة لإنقاذ أوروبا، لكنها قدرة مشروطة، وإن الشرط الرئيس للمضي في طريق الإنقاذ يمر بقبول أوروبي برؤية ألمانيا للإنقاذ، ويتعلق بالتفاصيل الخاصة بكيفية التعامل مع حزمة الإغاثة التي رصدها الاتحاد الأوروبي المقدرة بـ825 مليار دولار”.

وأكدت أن ألمانيا ترى أن الأسلوب الأمثل يتطلب توزيع ثلثي المبلغ عن طريق منح، إلا أن عددا من الدول الأوروبية يرى أن المنح ستعزز عمليات الإنفاق غير المنضبطة، وأن الأفضل تبني فكرة القروض منخفضة الفائدة لإجبار الدول المقترضة على تعظيم المنفعة من تلك القروض.

بدورها تقول راسال والكر الاستشارية المصرفية لـ”الاقتصادية”، “ألمانيا بمفردها تمثل ما يقرب من ثلث اقتصاد منطقة اليورو، وتجارتها السلعية بمفردها مع أوروبا والولايات المتحدة بلغت العام الماضي تريليوني دولار، لكن إنقاذ أوروبا يتطلب أكثر من ذلك”.
وأكدت أن طريق الإنقاذ يتطلب مزيدا من الاندماج خاصة داخل منطقة اليورو، وأن يمتلك الاتحاد الأوروبي سياسة اقتصادية ومالية مشتركة، فالقضية لا تقف عند المنح والقروض، إنما تتطلب تصورات ذات طابع مؤسسي، وهنا يمكن لألمانيا أن تقوم بالفعل بتقديم دفعة قوية لإخراج أوروبا من كبوتها”.

هشام محمود – الاقتصادية[ads3]

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي عكس السير وإنما عن رأي أصحابها