تقنية جديدة تجعل القوارب تبحر بواسطة ” طاقة الأمواج “
يشكل مشهد القوارب التقليدية في الفلبين، التي كانت تُستخدم في البداية كسفن حربية ويُعرف الواحد منها باسم “بانغكا” أحد الملامح التقليدية للحياة في هذا البلد.
يقول “رينا ديان كابالار”، لا أزال حتى الآن أتذكر الدقائق التي انتظرت فيها تحت الأمطار الغزيرة دوري، لكي استقل قاربا تقليديا ذا بدن ثلاثي الهيكل، يُعرف في الفلبين باسم “بانغكا”، ليُقلني إلى مدخل نهر “بورتو برنسيسا” الجوفي، الذي يجري تحت مغارة هائلة الحجم، في جزيرة ومقاطعة بالاوان، غربي هذا البلد الآسيوي.
على أي حال، يعد هذا الشكل من القوارب شائعا في الفلبين، فقد كان تصميمه هو الغالب، على الأسطول الحربي للبلاد في البداية، قبل أن يُعمم بعد ذلك، على القوارب الشراعية التقليدية فيها، وقوارب الصيد أيضا.
وبوصفهم مواطني دولة مؤلفة من أكثر من سبعة آلاف جزيرة؛ يعتمد الفلبينيون على وسائل النقل النهري والبحري، مثل القوارب والعبارات وسفن الشحن، للتنقل بين ربوع وطنهم. ويشكل أسطول الفلبين من هذه السفن، أحد المصادر الأكثر تسببا في الغازات الدفيئة المنبعثة في أجوائها. وفي عام 2012، احتلت وسائل النقل بوجه عام، المركز الثاني على قائمة أكثر المصادر التي تُسبب تلك الانبعاثات الغازية في الفلبين، بعد قطاعيْ التدفئة والكهرباء.
وتشير البيانات إلى أن 9 في المئة من الانبعاثات الصادرة عن وسائل النقل على مستوى العالم في عام 2010، نجمت عن عمليات الشحن البحري. ورغم أن هذه النسبة قد تبدو ضئيلة للغاية، إذا قورنت بإسهام النقل البري في هذا المضمار، والذي يبلغ نحو 72 في المئة، فإنها تضع وسائل النقل البحري، على قدم المساواة تقريبا مع الطيران، الذي يُسبب 10.6 في المئة من الانبعاثات الناجمة عن حركة التنقل والسفر.
وفي ضوء التوقعات التي تفيد بأن حجم التجارة البحرية في العالم، سينمو بمعدل 3.8 في المئة سنويا من الآن وحتى عام 2023، من المرجح أن تزيد بالتبعية الانبعاثات الغازية التي ستصدر عن وسائل النقل المُستخدمة في هذا الصدد، ما لم يتم اتخاذ إجراءات من شأنها، جعل تلك الزيادة المتوقعة في حركة النقل البحري والنهري، لا تؤدي بالضرورة إلى تفاقم انبعاثات الغازات المُسببة لظاهرة الاحتباس الحراري.
وفي الوقت الراهن، يعكف مهندسون وباحثون في الفلبين على وضع تصميم جديد لقوارب الـ “بانغكا”، أملا في ابتكار بديل لنسخته التقليدية؛ لا ينجم عن استخدامه قدر كبير من الانبعاثات الكربونية. ويعتمد التصميم على الاستفادة من طاقة الأمواج، وذلك عبر المزج بين استخدام عدد من محركات الاحتراق الداخلي لإعطاء القارب الدفعة الأوليّة اللازمة لبدء تشغيله، قبل التحول للانتفاع من قوة الموج، خلال الإبحار في المياه المفتوحة.
طاقة البحار والمحيطات
ويُعزى الفضل في هذا التصميم الجديد، إلى مهندس بحري وصاحب شركة لبناء السفن يُدعى جوناثان سلفادور، وقد استلهمه من الشكل التقليدي لقوارب الـ “بانغكا”، وبالتحديد من الدور الذي تلعبه أجزاء فيها تُسمى أذرع الامتداد. ويُعتمد على هذه المكونات عادة، في ضمان استقرار القارب والحيلولة دون انحرافه، إلى هذا الجانب أو ذاك.
ويقول سلفادور في هذا الصدد: “لاحظت أن تلك الأجزاء تتحرك كلما ارتطمت الأمواج بها، وهو ما حدا بي للتساؤل، عما إذا كان بوسعنا تحويل الطاقة الحركية الناجمة عن ذلك إلى طاقة كهربائية”، والاستفادة بهذا الأمر في تسيير القارب نفسه.
وتبدو الآليات التي تحكم تلك الطاقة الكامنة في الأمواج، مألوفة لكل من سبح في مياه البحر أو المحيط. ففي بعض الأحيان، تكون الأمواج قوية بما يكفي، لدفعك إلى الخلف ما يجبرك للعودة إلى الشاطئ. وأحيانا تصبح عالية، بقدر من شأنه دفعك إلى الأمام.
يقول برايوني دوبونت، أستاذ الهندسة الميكانيكية في جامعة أوريغون ستَيت في الولايات المتحدة: “يكمن في الأمواج الكثير من الطاقة والزخم، وهو ما يمكنك الشعور به عندما تكون في قلب المياه”.
ويضيف دوبونت بالقول إننا نتمكن في بعض الأوقات من الاستفادة من هذا الزخم دون أدوات مساعدة، ما يعني القدرة على توليد الكهرباء بفضل حركة الموج ليس إلا. لكننا في أحيان أخرى، نحتاج “لامتصاص الزخم والطاقة الكامنيْن في الأمواج، ودفعها عبر جهاز خاص، ما يؤدي لتوليد التيار الكهربائي”.
ويتضمن التصميم الحديث لـ “بانغكا” جهازا لتحويل طاقة الأمواج من هذا القبيل، وذلك في صورة مضخة هيدروليكية مُدمجة في أذرع الامتداد الموجودة في القارب. ويعتمد عمل هذه المضخة، على الاستفادة من القوة الكامنة في الأمواج التي يبحر عبرها القارب، وتحويلها من طاقة حركية إلى كهربائية، يُغذى بها مولدٌ يوفر بعد ذلك الكهرباء اللازمة لتشغيل السفينة، عبر توفيره قوة الدفع الضرورية لها، من خلال محرك. ويعني ذلك أن زيادة قوة الأمواج التي يبحر في غمارها القارب وعنفها، ستؤدي لحصوله على قدر أكبر من الطاقة.
وقد بدأت عمليات بناء القارب، الذي يتخذ هذا التصميم الجديد، في عام 2018، وكان يُفترض أن تكتمل أوائل العام الجاري. لكن الجدول الزمني للمشروع ارتبك قليلا، جراء إعصار ضرب الفلبين العام الماضي، وبفعل إجراءات الحجر الصحي، التي فُرِضَت في وقت سابق من هذا العام، إثر تفشي وباء كورونا. وأدى ذلك إلى تقلص كبير في حجم القوى العاملة المتوافرة للمشروع، أو إلى توقف العمل فيه في بعض الأوقات تماما.
لكن رغم هذه الصعوبات؛ يسعى الفريق المسؤول عن هذا المشروع إلى الانتهاء من بناء القارب بحلول نهاية العام الحالي، واختباره لمدة ثلاثة شهور في عرض البحر، خلال الربع الأول من 2021. ومن المتوقع أن تصل الطاقة الاستيعابية له، إلى مئة راكب، وأربع شاحنات صغيرة مقفلة، و15 دراجة نارية.
وربما يمثل استحداث هذا النوع من القوارب التي تعمل بطاقة الأمواج، خطوة مهمة على طريق تقليص الاعتماد على أنواع الوقود المُدمرة للبيئة كوقود الديزل في الفلبين مثلا.
فعبر الاعتماد جزئيا على طاقة الأمواج بدلا من البنزين، يسعى سلفادور وفريقه إلى أن تتقلص الانبعاثات الكربونية الناجمة عن استخدام تلك القوارب، بنسبة الثلث، مُقارنة بما ينبعث من السفن المستخدمة حاليا على نطاق واسع، في أكثر خطوط الشحن البحري حداثة وتطورا.
اللافت أن التصميم التقليدي لقوارب الـ “بانغكا”، لا يخلو من فوائد بالنسبة لجهاز تحويل طاقة الأمواج، الذي سيوضع على متن هذا القارب التجريبي. فطاقة الأمواج، وفقا لما يقوله روب كافانيرو – المهندس في الميكانيكا بأحد مختبرات علوم البحار في الولايات المتحدة – تنتفع من التحركات الصادرة عن أجزاء القارب خلال الإبحار، وما ينجم عنها من تأثيرات على باقي أجزائه. وفي حالتنا هذه، تتمثل تلك الآلية في ما تؤدي إليه الأمواج، من سحب لأذرع امتداد القارب، أو تحريكها لأعلى ولأسفل، وما يفضي إليه ذلك، من تأثيرات على المنطقة الوسطى في هيكله.
من جهة أخرى، تتسم الأمواج بأنها “كثيفة الطاقة”، أو أي أنها – بعبارة أخرى – قد تكون قوية على نحو هائل في بعض الأحيان. فكثافة طاقة الأمواج، قد تصل على السواحل، إلى ما يتراوح ما بين 60 – 70 كيلوواط لكل متر، في المناطق التي توجد فيها مياه عميقة. ويبلغ متوسط هذا المعدل في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة على سبيل المثال، ما بين 40 و60 كيلوواط لكل متر.
ويقول برايوني دوبونت، إن امتلاكنا القدرة على “تحويل هذا النوع من الطاقة إلى صور أخرى مفيدة منها، سيجعل بوسعنا، تحقيق الكثير، بموارد محدودة للغاية”.
لكن توليد الكهرباء على نحو فعال وكفء، من أمواج عالية الطاقة بطيئة السرعة، يمكن أن يشكل تحديا لا يُستهان به. فمن الممكن، أن تتضمن هذه العملية الكثير من المراحل، التي تُفقد خلالها الطاقة؛ بدءا من مرحلة الاحتكاك الذي يحدث في الأنظمة الهيدروليكية، وصولا لمرحلة الحرارة التي تنبعث في المولدات الكهربائية. ويتمثل التحدي الذي يواجهه المهندسون هنا، في كيفية تقليص هذا القدر من الطاقة المُهدرة.
ثمة تحدٍ آخر يتمثل في أن يكون جهاز تحويل الطاقة الحركية إلى كهربائية، مصمما على نحو يجعل حجمه متناسبا مع أبعاد القارب نفسه. وهنا يقول دوبونت: “بوجه عام؛ يزداد قدر الطاقة التي يتم تحويلها عبر مثل هذه الأجهزة، كلما كبر حجمها. لكن إذا تمت الاستعانة بأجهزة تحويل كبيرة للغاية، سيَحُول ذلك دون أن تُحرّكها الأمواج، ما يعني أنها لن تستطيع فعليا امتصاص الطاقة والزخم الكامنيْن فيها”.
وعلى الرغم من هذه التحديات، أعربت شركة خاصة في جزيرة بوراكاي الفلبينية، التي يقصدها كثير من السائحين، عن اهتمامها بتشغيل القارب الجديد، بمجرد الانتهاء من بنائه واختباره، كما قالت ريتشيل هِبانا العالمة البارزة في المجلس الفلبيني للصناعة والطاقة والأبحاث والتطوير في المجالات التكنولوجية الناشئة، وهو الجهة التي تتولى الإشراف على عملية تصميم القارب الجديد وتطويره.
وتقول هِبانا: “نسعى لأن تكون وسائل النقل النهري والبحري الحكومية في الفلبين، آمنة وصديقة للبيئة، عبر تقليص ما تسببه من انبعاثات غازية. ونحن نرى أن النسخة الجديدة من هذا القارب التقليدي، ستجعل هذه الرؤية حقيقة واقعة”.
الطاقة في أعالي البحار
غير أن هذا القارب الهجين، لا يزال حتى نموذجا تجريبيا أوليّا. وتقول ياسمين تيرول، مديرة المشروع والمسؤولة البارزة في كلية المصايد وعلوم البحار بجامعة ستّيت أكلان الفلبينية – المشاركة فيه – إن “استخدام تقنية جديدة في هذا القارب، يعني أننا بحاجة إلى التحقق من مدى فعالية وكفاءة وأمان هذه التقنية، قبل أن نمضي على طريق تسويقها بشكل كامل”. وتضيف: “بدأنا بالفعل إجراء تجارب على بعض النماذج المتعلقة بوضع اختبار لتحديد كفاءة أجهزة تحويل طاقة الأمواج، لكن علينا فحص أداء هذا الاختبار على أرض الواقع، وتحسينه إلى أقصى حد ممكن”.
علاوة على ذلك، يمثل توفير تكاليف بناء قوارب بهذه المحركات الهجينة، مشكلة أخرى. فرغم أن تمويل المشروع الحالي يصل مثلا إلى 76 مليون بيزو فلبيني (نحو 1.5 مليون دولار أمريكي)؛ إلا أن سلفادور يشير إلى أن التكاليف اللازمة لبناء قارب من هذا النوع يصلح للاستخدام والتسويق على المستوى التجاري، ستبلغ 250 مليون بيزو (قرابة خمسة ملايين دولار) أو أكثر لكل منها.
وللإبقاء على هذه النفقات منخفضة، يتعين أن يتم تصنيع 80 في المئة من مكونات القارب محليا، وإنجاز عملية التصنيع والتجميع بداخل الفلبين. ومن شأن إضفاء الصبغة المحلية على هذه العمليات والأنشطة، إفساح المجال أمام القوى العاملة في مجالات بناء السفن وهندستها في الفلبين، لتحسين مهاراتها في هذا المجال. كما سيسمح ذلك للشركات الأصغر حجما العاملة في مجال بناء السفن وللعدد الغفير من البحارة الموجود في البلاد، بالمشاركة في المشروع.
ويعتبر جوناثان سلفادور القارب المُعدّل، الذي يجري العمل عليه حاليا، مجرد النموذج التجريبي للنسخة الأولى من فئة جديدة من القوارب التي تعمل بطاقة الأمواج والمحركات التقليدية سواء بسواء. إذ أن لديه خططا لتطوير نسختيْن ثانية وثالثة أكثر تطورا، ينتفع فيهما من الأمواج لمساعدة المحركات الموجودة في القوارب على توليد مزيد من الطاقة. بل قد يسعى لجعل هذه القوارب تسير اعتمادا على طاقة الأمواج وحدها، دون الاحتياج إلى وقود بأي شكل من الأشكال.
لكن تحقيق هذا الهدف ربما يكون أمرا شديد الصعوبة، بالنظر إلى الحجم الكبير من الطاقة المطلوبة لتشغيل السفن الحديثة كبيرة الحجم. ويقول المهندس روب كافانيرو: “ربما لا تكون الطاقة الكامنة في الأمواج التي تمخر عبابها السفينة كافية، لأن تلبي كل متطلباتها المتعلقة بالطاقة اللازمة لتسييرها. كما أن الأمر سيعتمد على مدى ضخامة حجم الأمواج وطولها، والمشكلة هنا أن الأمواج التي تكمن فيها طاقة أكبر من غيرها، هي تلك التي يصعب على السفينة السير فيها في الوقت نفسه”.
وفي كل الأحوال، لا تزال مسألة تشغيل السفن باستخدام طاقة الأمواج تمثل تقنية وليدة ناشئة. كما أننا لا نزال بحاجة، لتحديد السبيل الأمثل، الذي يكفل الحصول على الطاقة من مياه البحار. فبينما يستخدم أحد النماذج التي طوِّرَت في هذا المجال، الرقاقات المصنوعة من الألومنيوم لامتصاص الطاقة من الأمواج بهدف تسيير السفن، فإن التصميم الأكثر شيوعا على ذلك الصعيد، هو ذاك الذي يستعين بزعانف، تتحرك كذيول الدلافين أو الحيتان، فتدفع القارب أو السفينة إلى الأمام. غير أنه لم يتم بعد تعميم أي من هذه النماذج والأفكار، وتطبيقها على سفن كبيرة الحجم.
مع ذلك، فمن المؤكد أنه سيكون من المثير بالنسبة لرباب القارب، الذي يبحر بين الأمواج المتلاطمة مُتنقلا بين الجزر المختلفة في الفلبين، أن تتحول هذه الطاقة التي تَخُضُ القارب بشكل عنيف خلال حركته، إلى قوة دافعة إلى الأمام.
ويأمل كثيرون في أن نتمكن من الاستفادة بشكل واسع خلال السفر في البحار والمحيطات، بهذا المورد النظيف الموجود بوفرة هناك، وذلك على الشاكلة ذاتها، التي يجري بها الانتفاع من الرياح، التي تشكل نظيرا لطاقة الأمواج.
في نهاية المطاف، يقول برايوني دوبونت: “أعتقد أن كل من مارس رياضة ركوب الأمواج، أو سبح في المحيط، أو استقل قاربا تأرجح فوق سطح مياهه، قد تأمل هذه الطاقة الهائلة الكامنة في الأمواج هناك. ومن المثير أن نرى أفكارا بارعة مثل هذه، وقد وُلِدَت من شرارة الإلهام تلك، المتمثلة في التواصل مع المحيط” وأمواجه.[ads3]