حريق دمشق .. لم يكن الأول و لن يكون الأخير

لا أعرف إذا كانت تربط السفير الإيراني الأسبق إلى لبنان، مسعود إدريس كرمنشاهي، صلة قربى مع مرشحة دمشق لانتخابات نظام بشار الأسد البرلمانية الأخيرة، رقية شبلي كرمنشاهي؛ لكن ما أستطيع أن أجزم به كسورية الهوية ودمشقية المولد، أن كنية المرشّحة تنتهي إلى أصحاب الجنسيات السوريّة حديثة العهد وقد أغدقها حافظ الأسد على الحشود الإيرانية التي كانت تصل دمشق في ثمانينات القرن الماضي لتقطن في ضواحيها وفي أعلى جادّات جبل قاسيون في منطقة المهاجرين.

كان هدف الأسد الأب من عملية التجنيس الجماعي تلك، توطيد حلفه العقائدي مع طهران الذي بدأ منذ انقلاب الملالي على حكم الشاه ووصول آية الله الخميني إلى السلطة، بدعم أميركي فرنسي مزدوج في العام 1979.

لم تكن جائحة كوفيد – 19 وحدها من منع السوريين في مناطق النظام – وهم في أغلبهم من الموالاة أو من الرماديين، الذين ينتظرون اتجاه رجاحة الدفة ليتجهوا معها، أو من الصامتين الذين لا حول لهم ولا قوة – من التوجّه إلى صناديق الاقتراع البرلمانية، التي شهدت نسباً متدنية جداً من الناخبين، بل الأسباب عديدة يمكن اختصارها في الحالة المستشرية من الانفصال التام بين الشارع المؤيّد من جهة، وبين أركان النظام وزبانيته من جهة أخرى، لانكشاف أوراق كانت معروفة لكنها مستترة أو مسكوت عنها حتى تاريخ الظهور العلني لتسجيلات ابن خال بشار الأسد، رامي مخلوف، لتُسقطَ ورقة التوت الأخيرة.

مهزلة الانتخابات البرلمانية فضح أمرَها المقرّبون من النظام قبل معارضيه، وكذا نأى عنها الملايين من السوريين المبعدين عن بلدهم، في عملية تهجير طوعي أو قسري أدارها النظام منذ سبعينات القرن الماضي، تجلت بداية بما يمكن أن نصطلح عليه “تطفيشاً”، وأقصد بهذا التعبير الشعبي ظاهرة الدفع بالكفاءات والأدمغة والقوى الوطنية البرجوازية من أصحاب الصوت الوطني الحرّ للمغادرة.

أما وريث كرسي حافظ الأسد، ابنه بشار، فقد تابع نهج التهجير والتفريغ المجتمعي بأعنف صوره إثر اندلاع الثورة السورية الماجدة، دافعاً بالملايين إلى الخارج، مستكملاً خطة أبيه في تحقيق فراغ سكاني يتّسق مع تغيير ديمغرافي منهجي في المدن الكبرى حيث النفوذ الإيراني الحليف يلقي بظلّه الثقيل بأفدح شواهده.

مرشحة محافظة الحسكة، بروين إبراهيم، كانت من أول من خرج على وسائل التواصل الاجتماعي لتعرية الغش والتزوير الذي مورس في مراكز الاقتراع، متهمة حزب البعث الحاكم بكونه إقصائي يرفض المشاركة ويتعامل وكأن سوريا مزرعة له؛ وتساءلت المرشحة إبراهيم في تسجيل مصوّر لها “ما الذي أنجزه البرلمان السابق الذي سيطر عليه البعثيون!”

وأفادت عن التجاوزات التي شهدتها الانتخابات “قمنا بإحصاء 32 مركز اقتراع في قطعات عسكرية حيث تمّ توجيه العسكر لانتخاب قائمة حزب البعث حصراً”.

في مقابل هذه التهم الصارخة من داخل أروقة الموالين، سارع وزير عدل النظام بالدفاع عن الشفافية والنزاهة التي سادت العملية الانتخابية، عازياً تدنّي نسبة المشاركين في الإدلاء بأصواتهم إلى وجود عدد كبير من السوريين خارج البلاد، وبالطبع لم يذكر أسباب مغادرة الملايين بلدهم الأم هرباً من آلة القتل والتنكيل التي مارسها نظامه وحلفاؤه.

المرشحة كرمنشاهي لم تنجح في الانتخابات، لكنها وضعت بيضة الأفعى الأولى في التراب السوري، لاحتمالات قادمة من وصول المتجنّسين من أصول إيرانية، إلى أعلى مواقع القرار، في المناطق التي استطاع النظام أن يستمرّ فيها، مستعيناً بالميليشيات الإيرانية والعسكر الروسي.

وفي الوقت الذي تنأى فيه موسكو بنفسها عن عملية التغيير الديمغرافي المبرمج ولا تعيرها اهتماماً، يُذكر في غمرة انشغالها بتمكين نفوذها على طول الشاطئ السوري، نرى طهران تتكالب على إحكام الطوق على العاصمة دمشق من خلال نفوذها الاستثماري الذي بدأ يوازي تموقعها العسكري والسياسي.

قام نظام بشار الأسد بتسريع وتكثيف مجريات التجنيس لمن والاه، وحارب الشعب السوري إلى جانبه من مقاتلي الميليشيات التي انضوت تحت مظلة “فيلق القدس” وعائلاتهم، ولتجار ومستثمرين إيرانيين، بما وصل إلى ما يقارب المليون هوية سورية مُنحت لإيرانيين مدنيين وضباطاً، وكذا لمرتزقة من الباكستانيين والأفغان الشيعة المقيمين في إيران، الذين كانوا يُخيّرون بين التوجّه للقتال في سوريا أو الترحيل.

وقد تمّ زج المهاجرين الأفغان في صفوف الحرس الثوري الإيراني، وتلقوا وعوداً في حال قُتلوا في المعارك أن تحصل عائلاتهم على الجنسية السورية. أما “حزب الله” فقد دأب على توسيع قاعدته العسكرية في سوريا من خلال تجنيده مواطنين لبنانيين للقتال إلى جانب الأسد، مقابل مغريات أهمها توطينهم وعائلاتهم في أماكن بمحيط دمشق حيث محجّهم إلى مقامات آل البيت.

غادرتُ دمشق في العام 2002 ولم أستطع بعدها العودة، نظراً لانخراطي في الحراك المعارض لنظام الأسدين في وقت مبكّر، وكنت من الرعيل الأول لآلاف السوريين الذين خضعوا للتطفيش والدفع خارج البلاد إثر استيلاء بشار الأسد على السلطة، بموافقة برلمان العام 2000 حين صوّت أعضاؤه بالإجماع في ذلك الوقت، وخلال دقائق معدودة، على تعديل دستوري يسمح لبشار الأسد بالوصول إلى الرئاسة، وذلك في مهزلة مشابهة لبرلمان 2020، الذي يتمّ انتخابه بعد عشرين عاماً بالغرائزية البعثية والطائفية السياسية عينها.

يقول لي الأصدقاء من القلّة القليلة الصامتة التي لم تغادر سوريا حين يتلمّسون المرارة التي أعيشها حنيناً إلى مسقط الرأس “دمشق تغيّرت كثيراً وقد لا تعرفينها إن عدتِ إليها.. وجوه غريبة، وفوضى سكّانية، وتجاذب اجتماعي بين أهلها الأصليين والمستقدمين الغرباء، وتغيير ديمغرافي منقطع النظير في المناطق التي هُجّر سكانها نحو الشمال، وطقوس مذهبية نافرة تمارس في الأحياء الدمشقية العريقة، هذا كله في ظل أمن هش واستقواء حمَلة السلاح على المدنيين.”

استيقظتُ مؤخراً كما استيقظ أهل دمشق على أنباء حريق مرعب التهم الأزقّة والدكاكين في سوق البزورية العريق، سوق البهارات وماء الزهر والسكاكر وعطر الأعراس الشامية. الحريق لم يكن الأول ولن يكون الأخير، هو واحد من الحرائق المتنقّلة والمفتعَلة للاستيلاء على أرض السوق، ومشهد من مشاهد الحقد الطائفي الأسود الذي يجول خلف سور دمشق التاريخي ناشراً رماد الموت في عيون سكّان الحي وحول مقام السيدة رقيّة الجليل، وهي من الحاقدين براء. مرح البقاعي – العرب[ads3]

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي عكس السير وإنما عن رأي أصحابها