ألمانيا و أشباح ماض مخيف
لولا شجاعة ثلاثة رجال شرطة وصمودُهم أمام غضب العشرات من المتظاهرين، لكان متطرفو اليمين من النازيين الجدد قد اقتحموا مبنى البرلمان الألماني، في سابقة جريئة وغير معهودة. الحادثة وقعت عشية السبت الماضي في برلين. ووفقاً لمراقبين، كانت بمثابة هزة أرضية، تجاوزت تداعياتها ألمانيا، وأرسلت بإشارات تحذير خطرة إلى الساسة الألمان، من مختلف الأحزاب والتوجهات، ووصفها الرئيس الألماني بأنها «اعتداء على قلب ديمقراطيتنا».
ما يلفت الاهتمام هو أن قرابة 10 آلاف متظاهر، يمثلون جماعات يمينية من أنصار نظرية المؤامرة، تجمعوا في اليوم نفسه في ميدان البرلمان بلندن، احتجاجاً على سياسة الحكومة المتعلقة بمكافحة الوباء الفيروسي، وتفرقوا في نهايتها بسلام. كما تحدثت تقارير عن مظاهرات في مدن أوروبية أخرى ضد التقييدات التي فرضتها الحكومات وقاية من الإصابة بالفيروس، إلا أنَّ مظاهرة الجماعات اليمينية المتطرفة في برلين كانت أكبرها عدداً، وأكثرها عنفاً، وأسفرت عن اعتقال 300 من المتطرفين. وكانت سلطات مدينة برلين قد رفضت في البداية منح ترخيص بالمظاهرة؛ لكن المنظمين لها احتكموا للقضاء، فقضى لصالحهم.
اليمين المتطرف الألماني، بمختلف راياته وشعاراته، ازداد شراسة وإرهاباً في السنوات الأخيرة. واستناداً إلى تقارير إعلامية، قبل 14 شهراً من محاولة اقتحام مبنى البرلمان الفاشلة، قام إرهابيوه باغتيال أحد رجال السياسة أمام عتبة بيته بالقرب من مدينة كاسيل (Kassel)، في إحدى المناطق الألمانية، واعتدوا على معبد يهودي في مدينة هال (Halle) في شرق البلاد. وفي شهر فبراير (شباط) الماضي قامت مجموعة إرهابية متطرفة باغتيال 10 أشخاص في مدينة هانو (Hanau) في الجزء الغربي من البلاد الذي كان يعتقد أنه في منأى من التطرف.
تقارير إعلامية أخرى، تحدثت عن هواجس خوف تخيم على الدوائر السياسية الألمانية، لدى اكتشاف أجهزة الأمن لتسلل عناصر من اليمين المتطرف إلى صفوف جهاز الشرطة والجيش. وتعرضت سَرِية كاملة من القوات الخاصة للحل، وسُرح أفرادها لدى تبين انتمائهم لخلايا يمينية متطرفة. وفي يوم المظاهرة سعى أعضاء الجماعات المتطرفة إلى كسب ود رجال الشرطة الذين كانوا يحرسون المبنى ومحاولة إقناعهم بالانضمام إليهم.
المظاهرة التي تمَّت في عطلة الأسبوع الماضي، وانتهت بمحاولة اقتحام مبنى البرلمان في برلين، كانت بأعداد كبيرة وصلت – وفقاً للتقارير – إلى قرابة أربعين ألفاً، وضمت فئات عديدة من المحتجين ينتمون لمختلف التيارات السياسية، تجمعوا احتجاجاً على إجراءات الحكومة الوقائية المتعلقة بمكافحة الوباء والتقليل من أضراره الصحية، وكان عدد المحتجين من الجماعات اليمينية المتطرفة داخلها صغيراً مقارنة بفئات أخرى؛ لكنهم كانوا أكثر بروزاً، رافعين أعلام الإمبراطورية السائدة قبل 1918، ثلاثية الألوان (الأسود والأبيض والأحمر) الملهمة للحركة النازية، وتمكنوا من اختطاف المظاهرة وتحويلها عن مسارها.
حزب «ألمانيا البديلة» اليميني المناوئ للهجرة، وفقاً للتقارير، حاول استغلال أزمة الوباء الفيروسي ضد الحكومة، في محاولة لوقف التردي في انخفاض شعبيته مؤخراً، وعلى أمل إعادة حصد نجاح مماثل لما فعل عام 2015 لدى أزمة تدفق المهاجرين على ألمانيا، وقرار المستشارة أنجيلا ميركل، وقتذاك، بقبول مليون مهاجر. تلك الأزمة عملت على رفع شعبية الحزب، ومكَّنته من الحصول على مقاعد في البرلمان في الانتخابات الأخيرة، إلا أن الإجراءات التي قامت بها الحكومة لاستيعاب المهاجرين ونجاحها تسببت في تعرض نسبة شعبيته للانخفاض إلى أقل من 10 في المائة. ويقول مراقبون إن الساسة الألمان يخشون من تحول مظاهرات الجماعات اليمينية إلى ساحات مواتية لاستقطاب الشباب، والسعي لتجنيدهم ضمن كوادرها.
ضابطان من الشرطة، وآخر متقاعد، وآخر موقوف عن العمل مؤخراً، كانوا ضمن الخطباء في المظاهرة، حسب التقارير.
استبيانات الرأي العام أبانت أن 9 في المائة فقط من المواطنين الألمان يؤيدون المظاهرة، وأن واحداً فقط من كل عشرة مواطنين لا يوافقون على إجراءات الحكومة الوقائية ضد الوباء، في حين أن 28 في المائة يقولون إن إجراءات الوقاية ليست صارمة كفاية، وأن 8 من كل 10 مواطنين يودون امتثالاً أكثر للإجراءات.
ما يثير التساؤل حول مصداقية المظاهرة، هو أن ألمانيا تعد حتى الآن أفضل حالاً، مقارنة بغيرها من دول الاتحاد الأوروبي، وفي العالم عموماً، في التعامل مع الوباء الفيروسي. فأعداد المصابين وفقاً للإحصائيات الرسمية منخفضة، كما أن القيود المفروضة على المواطنين تعتبر أقل بكثير من تلك المفروضة في دول مجاورة. فالألمان، خلال ذروة فترة الإغلاق العام، ظلوا قادرين على مغادرة بيوتهم، في حين أنَّ الإسبان والإيطاليين كانوا محظورين قانوناً من مغادرتها. ويرى بعض الخبراء أن «ألمانيا وقعت ضحية لنجاحها في احتواء الوباء. بمعنى أن قلة الوفيات نسبياً جعلت البعض يشكك في وجهة نظر الحكومة المتعلقة بخطورة الوباء، ويعتبرها مبالغاً فيها».
جمعة بوكليب – الشرق الأوسط
[ads3]